توطئة

تحمل كثير من شوارع الحواضر الكبرى والمتوسطة ببلادنا اسم (2 مارس)، تُخلّد من خلاله مجالس الـجماعات ذكرى توقيع المغرب لاتفاق إنهاء الحماية الفرنسية مع الجانب الفرنسي يوم 2 مارس 1956، وذلك بعد نضال سياسي وكفاح عسكري مشهود. وقد أَمْضَت حكومة المفاوضات المكلّفة من طرف السلطان محمد الخامس (تـــ 1961) والحكومة الفرنسية الاتفاق المشتَرَك بينهما، والذي بمقتضاه حصل المغرب على استقلاله الذي فقده بمعاهدة الحماية المشؤومة في أواخر مارس من العام 1912.

مَطلب مبكّر واختلاف مؤثّر

سَالت أودية بقَدرها من مداد أقلام المؤرخين[1] والمثقفين[2] والساسة الذين عايشوا المرحلة، والشبان الباحثين في تاريخ المغرب الراهن، والمعارضين من مختلف المواقع والاتجاهات..؛ تَكتب وتشرح وتؤوِّل أطوار حصول المغرب على الاستقلال.

وبقدْر ما كان مَطلَب المغاربة بالحصول على الاستقلال مبكّر جدا في أجندة المقاومة المسلحة الأولى ومؤسّسي الحركة الوطنية في الشمال والجنوب ولدى الأحزاب السياسية المغربية[3]؛ بقَدْر ما اختلفَت التقديرات الشخصية والجماعية حول طبيعة الاستقلال وشكله ومؤدّاه؛ تماما كما اختلفت الرؤى والتصورات بين قادة الحركة الوطنية المغربية وجيش التحرير المغربي والقوة الثالثة والقصر فيما بين 1955-1956، إن لم تكن قبلها بكثير، خاصة والمغاربة يتذكرون حدث انقسام كتلة العمل الوطني، ويتذكّرون اختلاف الإرادات والمقاربات بين بلحسن الوزاني[4] وعلال الفاسي، وبين الحركة الاستقلالية والأحرار المستقلّين وولي العهد من جهة أخرى.

ورغم أنَّ الظاهر الواسم لمرحلة النضال الوطني من أجل الاستقلال كان نزَّاعا إلى رهان الوحدة في إطار الاستقلال، والاستقلال الكامل في إطار السيادة التامة، وعودة السلطان مقدِّمة لأي تفاوض حول الاستقلال، والإجماع حول أولوية عودة السلطان الاعتبارية والرمزية والاستقلال الشامل للأراضي المغربية؛ إلا أنَّ تأجيل المسألة الديمقراطية وطبيعة بناء الدولة الوطنية الحديثة، سيكون الميسم البارز لسنوات ما بعد الاستقلال، والإشكال المركزي في معركة حسْم المشروعية التي ستُدخل البلاد في طور النزاعات والانقسامات بين العائلة الوطنية والنخب المغربية[5]، وتؤسّس لملكية تنفيذية “شبه مطلقة، يحتكر فيها الملك السلطات الأساسية تنفيذا وتشريعا”[6]، وتمارس التحكّم في الحياة السياسية برُمّتها.

استقلال البلاد عن فرنسا في مارس 1956، ثم عن إسبانيا في أبريل من نفس العام؛ سيُولَد حاملا لتناقضاته في ذاته وغيره، وستُعبّر عن تلك التناقضات طبيعة المجال السياسي المغربي الذي أضحى غداة الاستقلال في مرمى صراع حاد بين التقليد والتحديث؛ أو بتعبير آخر برؤى تجرُّ إلى ضرورة المحافظة على التقاليد العتيقة للمخزن المغربي[7] الموروثة عبر عقود، وفي المتن من ذلك؛ تقوية الموقع السياسي والزمني والروحي للملكية. ورُؤى تجرُّ إلى واجب الوقت زمنئذ، الموجِب لضرورة إقامة مجال سياسي حديث، يؤسّس لملكية دستورية توافقية مع القوى المعتبَرة في الأمة المغربية، ويُعزِّز من دور المؤسسات الدستورية والتمثيلية، ويقوم على اقتسام السلطة وتدويل تدبيرها بين الأحزاب السياسية عبر انتخابات تشريعية حرة ونزيهة، وانتخاب لجنة عليا لإعداد الدستور[8]، ثم التقدم صَوبَ تشكيل حكومات وطنية فاعلة، مسؤولة أمام البرلمان، تستهدف تحرير الاقتصاد الوطني، وتصفية مخلفات الاستعمار، وتضطلع بمهام الاستقلال، وتعمل على تأطير المجتمع الجديد.

احْتفاءٌ بـ 18 نونبر وإرجاء ل 2 مارس

يُعتَبر توقيع المغرب فرنسا لبروتوكول إنهاء الحماية لَحظة دالة على الاستقلال السياسي عن الحامي الفرنسي، تَلَته زيارة من محمد الخامس إلى إسبانيا لتوقيع بروتوكول إنهاء الحماية مع فرانسيسكو فرانكو على جُزء من أرض المغرب، ثم عُروج السلطان على مدينة تطوان وإلقائه خطابا تاريخيا في ساحة الجلاء، مشفوعا بمعاني الإكبار للدور التاريخي والوطني والثقافي الذي اضطلعت به المدينة طيلة مرحلة الاحتلال، معتبرا إياها إحدى “معاقل الحضارة المغربية الأندلسية (..) عرين الأبطال ومرتع الصناديد من رجال [جبالة] والريف الأبرار”[9]، والشروع في ترتيب الجهاز المخزني وتصفية الإرث الاستعماري والترتيب لمغربة الإدارة والبنك والقطاعات الاقتصادية والدينية والأمنية والعسكرية.

إلا أنّ المغرب الـمستقل؛ ومع تولي الحسن الثاني عرش المغرب، وبأمْر منه، سيعمَل على نَقْل حَدث الاحتفاء بعيد الاستقلال من 2 مارس إلى 18 نونبر، الذي يؤرخ لحدث عودة محمد الخامس من المنفى إلى أرض الوطن وزَفّه بشرى طيبة للمغاربة “بُشرى انتهاء عهْد الـحجر والحماية، وبزوغ فَجْر الحرية والاستقلال[10]. وسيصير تاريخاً وطنيا مُلزِما، عوض الاحتفاء بيوم 2 مارس. وكان الهدف من وراء هذه الخطوة من قبل الحسن الثاني إعطاء قيمة ورَمزية وطنية وشرعية وسياسية لحَدث جلوسه على عرش أسلافه يوم 3 مارس 1961، ولكَيْ لا يُزاحم هذه الذكرى بذكرى أخرى، تستحق لوحدها إفراداً وإعداداً وتخليداً يَليق بها.

خاتمة

ستظلّ هذه الذكرى صامتة في كثير من جوانبها، إلى أن يَستنطقها الأرشيف الضخم للمغرب الراهن، والمذكرات الشخصية التي لم تَر النور بَعد. وذلك لكَون البلاد والعباد وأجيال المستقبَل مَعنيين بإشكالات وأسرار وإخفاقات تلك السنوات الحرجة من تاريخ المغرب، ولأنّ آثار ورذاذ تلك المرحلة لا تزال يؤثر علينا، فوجَبَ أنْ يتذكّر الجيل الحالي ملحمة النضال الوطني ضد الاستعمار بكل تفاصيلها، وأنْ يَعلَم أنه كان وراء توقيع اتفاق إنهاء الحـمايَتَيْنِ الأجنبيتين تاريخ مجيد من التضحيات والمقاومة والصمود والسياسية والذكاء.

المراجع
[1] العروي عبد الله: "مجمَل تاريخ المغرب"، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، طبعة 2018، و(المساري) العربي: "محمد الخامس من سلطان إلى ملك"، منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، و(القبلي) محمد: "تاريخ المغرب؛ تحيين وتركيب"، السحب الثاني 2012، منشورات عكاظ الرباط.
[2] على سبيل المثال: (موريين) بيين فير: "تاريخ المغرب منذ الاستقلال"، ترجمة: عبد الرحيم حزل، منشورات إفريقيا الشّرق، طُبِع بِدعم من مصلحة التعاون الثقافي التابعة لسفارة فرنسا في المغرب، الطبعة الأولى 2009.
[3] انظر: (المساري) محمد العربي: "ثُقوب في الذاكرة، أربع وثائق وطنية"، منشورات جامعة محمد الخامس، الرباط، سلسلة الزمن الراهن، رقم 3.
[4] انظر: (الوزاني) عز العرب: "حدّثني والدي؛ المعركة من أجل الشورى والاستقلال"، منشورات مؤسسة محمد حسن الوزاني، فاس، المغرب، النسخة العربية، الطبعة الأولى 1990 الموافق لــ 1410 هجرية.
[5] حوار مع إدريس بنهيمة، مجلة زمان، النسخة العربية، العدد 41، سنة 2018.
[6] (جبرون) امحمد: "الملكية في أفق جديد؛ أسئلة الدين والديمقراطية والنموذج التنموي"، عن دار الإحياء للنشر والتوزيع، طنجة، الطبعة الأولى 2023، ص: 62
[7] انظر: (الزياني) أبو القاسم: "البُستان الظريف في دولة أولاد مولاي الشريف"، دراسة وتحقيق رشيد الزاوية، رسالة جامعية لنيل شهادة الدراسات العليا في التاريخ، نوقِت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، بتاريخ 27 يونيو 1991، منشورات مركز الدراسات والبحوث العلوية بالريصاني.
[8] المنوني محمد: "قَبس من عطاء المخطوط المغربي"، المجلد الثاني، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1999
[9] الوزاني عز العرب: "حدّثني والدي؛ المعركة من أجل الشورى والاستقلال، مرجع سابق.
[10] التازي عبد الهدي: "الحماية على المغرب، بَدءها، نهايتها حسب إفادات معاصرة"، عن دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، طبعة دون تاريخ، ص: 4.