صدرت رواية “العَلّامة” في طبعة منقَّحة وأنيقة سنة 2011، بعد أن سبق لها الفوز بجائزة نجيب محفوظ للأدب، مُساهِمةً في إبراز الجانب التّــنويري التَّــأمّلي لفكر النابغة عبد الرحمن ابن خلدون في التاريخ والدول والعصبيات والحضارات، وموقفه الأخلاقي من فساد المجتمع وأنظمة الـحُكم، وثباته كعالِم ومثقّف حر في الصراع ضد السلطة الجائرة، والغزو السياسي والثقافي المغولي.

على طُولِ ثلاثة فصول وفاتحة؛ يُمتِّعنا الأديب المغربي بنسالم حمّيش في عَمله الفذ المندرج في صنف الأدب التاريخي رواية (العَلّامة)، وهي رواية أنيقة دينامية ذات بُعد ومضمون تاريخي؛ تستَقي عَصَب الأحداث التاريخية من كِتابيْ “المقدمة”[1] و”التّعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقا”، ومُصاغة بلغة عربية عالية الإيقاع والإبداع.

تَفتتحُ الرّواية أحداثَها بسنة 789 وتنتهي بوفاة العلاّمة سنة 806 هجرية الموافق لـسنة 1406 ميلادية، مِحورها الجغرافي (القاهرة-دمشق-القدس-فاس)، نتعقّب فيها بالْتِذاذ واستمتاع؛ جلسات الحوار الثنائي في الليالي السَّبع بين ابن خلدون وحَمو الحيحي المغربي، كاتِبه الخاص وَصديقه الوفي، الذي يقاسمه العَلّامة تأمُّلاتِه في الشريعة والحياة والفكر والماضي والحاضر، أيْ [القرن 14]، ويُراجِع معه ما دَوّنه في كتاب “العِبر وديوان المبتدَأ والخبر..”، ويبُثُّه تنبُّؤاته بشأن مستقبل المشرق الإسلامي، ويُصارحه بمواقفه من رحلات ابن بطوطة، ويتزوج _ لاحقا _ بأرملتِه.

تُطلِعنا الرواية من خلال لغة السّرد على لِسان البطل/ابن خلدون، على أوجُهَ النقد اللاذع لاختلالات المجتمع المصري، وألاعيب عالَم القضاء والتدريس، وما عانه العلّامة من مكايد الخصوم من فئة العلماء والفقهاء ووعّاظ سلاطين الدولة المملوكية. كما نرى فيها ابن خلدون وهو يتبرّم من الاستبداد والفساد ويجسِّد حيوية الفكر الحر في مواجهة قُفّاز السلطة.

كان غَرض العلّامة عبد الرحمن مِن القدوم إلى مصر التَّـفرغ للبحث العلمي والتّأليف والتزكية والاستراحة من تَعَـب 40 سنة من السياسة والتدريس والقضاء؛ فإذا به يجد نفسه في القاهرة أمام مسار جديد ومثير في حياته العامرة، ونتعقّب في الرواية انخراط البطل/عبد الرحمن في معمان الحياة القضائية والسِّياسية، متأثرا ومؤثِّرا أحيانا، لما كان يمتاز به من علم غزير وثقافة واسعة وذكاء متوقّد وضمير أخلاقي فذ وقدرة هائلة على التفاوض والحوار والاقتراح.

يُذكي الأديب بنسالم في هذه الرواية التاريخية والفنية الأحداثَ بسخونة وحيوية منقطعة النظير، ويُقدِّم لنا الجانب الخِصْب المعطاء من السنوات الأخيرة في حياة ابن خلدون.

في الرِّواية نلتحم مع البَطل ونتقرّب منه بحميمية نادرة، لأنّنا _ ولأول مرة ربّما _، نعرِف ابن خلدون الإنسان، ونشعُر به وبِلغته وهو يتحدّث في النّص/مَتن الرواية، نتعرّف على عواطفه وحبه الشديد لزوجته وابنته، وحياتِه الخاصة وعُزلاته وتأمّلاته وطريقة عمله في مكتبه، ولحظات حزنه وانكساره، وتحركاته في دروب القاهرة وفي شوارع دمشق وحلَب وفي ربوع فلسطين بلباسه المغربي الذي كان يُفضّله على سائر الألبسة، ونسْعد بحنينه للمغرب، ومحاولاته المتكرّرة للانفلات من قبضة الوظيفة والسّفر إلى المغرب الذي أَحَبّه وقضى فيه زهرة حياته وعاصَر كبار سلاطينه، وتعمَّق في فهْم جغرافيته وثقافة شعبه وروح العصَبية التي تسري فيه.

إنّ هذه الرواية من زاوية أخرى تجسِّد لنا مشكل الصِّراع بين المؤرِّخ والحاكم، والمفكر الحر والسلطة المتعسِّفة، وتَجمع بين الماضي والحاضر، حيثُ يُعبّر الكاتب على لسان ابن خلدون عن مواقفه تجاه كثير من قضايا عصره [القرن 21]، ووطنه [المغرب]، ويُصرِّف رأيه من خلال البَطَل تُجاه نوازل ثقافية والعلاقة بين الـجِـنسين والمرأة والسلطة.

عقلُ ابن خلدون؛ متأملا ومتفاعلا، وقلْب ابن خلدون؛ مُشتاقا وعاشقا، وواجبات ابن خلدون؛ في السِّياسة والتَّـفاوض والوَساطة للحد من التصدعات الكبرى في عصره؛ تلك ثلاث مَدامك أساسية بُنِيت عليها الرواية الشيقة..

خلاصة الارتسام؛ لقد أحْـيَت لنا الروايةُ نابغةَ القرن الرابع عشر وأتَت به إلى عصرنا الراهن، وأنْسَـنَت لنا ابن خلدون فأحبَبْـناه بَعدما كنا نَــتهَـيَّـبُه ولا نَعرفه إلا قاضيا ومؤرخا كبيرا وعالم اجتماع تُقام من أجل فكره الندوات والمحاضرات وتُطبع الكتب تكريما لجهوده وتجديداته..، وأحزَنَـتْـنا الرواية وهي تُجدِّد وجَعَ الفقْد في وجداننا، فقْد العقل الكبير ابن خلدون، ونحن نراه – من خلال الرواية – يُسلِم الروح لباريها بمصر العزيزة، ونمنِّي النفس بأنْ يَطول عمُرُ الرواية والبطل!