توطئة

ثمة أسئلة كثيرة تواجه العلوم الإسلامية، وهي تحاول تدارك النقص الحاصل في التجربة المعاصرة سواء على مستوى الرؤية أو المنهج من خلال القدرة على قراءة التدفقات الجارية اليوم على الساحة أو المحتملة حدوثها، وتجاوز العوائق المعرفية والمنهجية التي ورثتها تلك العلوم من التاريخ المدرسي وانفصالها عن الواقع، أو ما أحدثته التجربة الانفتاحية على المنهجيات الحداثية من عوائق على مستوى المفاهيم والقيم الموجهة لتلك للعلوم،فهذه الأخير لا تنشأ من فراغ، بل ترتبط بسياقات ثقافية، وشروط حضارية تصطبغ بأصولها المرجعية والفلسفية.

و يشكل الكتاب الذي نقدمه للقراء أنموذجاً في التعبير عن الإشكالات المنهجية المرافقة للعلوم الإسلامية قديماً، وجواباً عن مرحلة جديدة من البحث عن مخرج لتلك الإشكالات؛ حتى يستوي أمرها وتؤتي ثمارها وتواكب تحولات العصر، وتجديد النظر في آليات تلك المواكبة فهماً وتنزيلاً؛ في أفق تجاوز الأسئلة التقليدية ونماذجها الإرشادية، والعبور إلى أسئلة جديدة تعين على إحداث ثورات علمية تراعي في بناء أجوبتها على تفاعلية ثلاثية بين النص ــ الوحي ـ والواقع والمستقبل، وتستند إلى منطق التداخل بين آليات القراءة التي يؤسس الوحي القرآني لخلفياتها المعرفية والمنهجية.

و صدرت من الكتاب الطبعة الأولى، عن دار نور للنشر بالإمارات العربية المتحدة سنة 2017م للدكتور عبد الرحمن العضراوي، أستاذ الأصول والمقاصد بجامعة السلطان مولاي سليمان بني ملال.

محتويات الكتاب

تنتظم محاور الكتاب في سؤال حضاري كبير يستجمع أسئلة متعددة، ترتبط بعلاقة الوحي بتأسيس العلوم الإسلامية، وعن آثار السياق التاريخي على مسار تلك العلوم، ومناهجها وتطبيقاتها، وعن مسارات الاجتهاد والإبداع والإتباع فيها، محاور موزعة إلى مقدمة وخمسة محاور أساسية وخاتمة.

  • المقدمة: جاءت مقدمة الكتاب مُعَبِّرة عن القلق المعرفي والمنهجي الذي حرك الأستاذ العضراوي، وعن طموحه في العبور بالعلوم الإسلامية من مرحلة هيمن عليها منطق التجزيء إلى منطق التكامل والتداخل، وتجاوز للنموذج التقليدي الذي أفرز تلك العلوم، دون أن يعني ذلك طعناً في التجربة التاريخية، أو تبخيساً لثمراتها وأثارها الحضارية، إنما هي «مراجعة نقدية يقتضيها التدبر القرآني وفقه الواقع، فالمحاسبة والتغيير سنتان كونيتان ضروريتان للتجديد والإبداع في الحضارة.» (ص 4).
  • المحور الأول: مفهوم التداخل المعرفي القرآني:

يكشف الأستاذ داخل هذا المحور عن قاعدة تأسيسية لمفهوم النموذج الإرشادي الذي يتوخاه في سياق ثقافي له معاييره الأخلاقية، ومعلوم الطبيعة والصفة، الأمر يتعلق بمفهوم التداخل المعرفي في القرآن الكريم، وعن نسقية المعرفة التي يؤسس لها في علاقتها مع المعرفة الكونية والإنسانية، فـــ«السمة الأساس المميزة لنظام التداخل المعرفي القرآني هو التكامل المعرفي المحقق لمقاصد الوحي. من حيث إن التكامل المعرفي في المنهج القرآني قائم على مقاصد عقدية واستخلافية، وقيمية تمثل أصولاً معرفية للمعرفة وموضوعاتها ومناهجها (ص 13)».

  • المحور الثاني: آليات التداخل المعرفي القرآني:

ينطلق هذا المحور من قاعدة تعريفية لمفهوم آليات التداخل المعرفي القرآني، وتحديد منطلقاته المعرفية والمنهجية، وهو ما يتيح للمشتغل بأزمة العلوم الإسلامية القدرة على تحديد الاختيارات الكبرى في بناء النموذج الإرشادي المأمول، في الاستيعاب والتجاوز.

ويقصد الأستاذ بآليات التداخل المعرفي القرآني« مجموع الكيفيات المبدئية والمنهجية والتقصيدية التي تبرز أن المعارف القرآنية متوالية من المعاني الشرعية المتفاعلة خدمة وعملاً ومنهجاً سواء كانت مقصودة أصالةً أم تبعية في السياق القرآني (ص 19)».

  • المحور الثالث: تحديد مفهوم النموذج الإرشادي عن توماس كون:

مما ميز جهد المؤلف في هذا الكتاب، قبل إقدامه على بناء وتجديد النموذج الإرشادي للعلوم الإسلامية، قدرته على قراءة واستيعاب لنموذج معرفي شكل نقطة تحول في المعرفة المعاصرة، نموذج توماس كون الذي أحدثت أعماله نقلة نوعية في فلسفة العلوم، اعتباراً لأهميته في التحولات التي تحدث في بنية كل علم.

وانفتاح الأستاذ على هذا النموذج يجسد رغبته في إمداد العلوم الإسلامية بخبرة علمية، من شأنها أن تعين على التأسيس السليم لما يرومه في هذا الجهد العلمي، باعتباره مجموعة من المبادئ ونسق من المفاهيم القادرة على ترشيد المعرفة ومواجهة المشكلات، كما قدم تعربفاً لمفهوم النموذج الإرشادي كما بلوره توماس،وأهم الانتقادات التي وجهت له، حين تحول إلى عقيدة جبرية تاريخانية مغلقة.

  • المحور الرابع: تجديد النموذج الإرشادي المنهجي والتزيلي في العلوم الإسلامية:

هو المقصد الأساس الذي تدور حوله هذه الدراسة، حيث ننتقل من مجتمع ينقل  المعرفة ويستهلكها إلى مجتمع ينتج المعرفة ويبدع فيها وَفق قواعده وأصوله، وأغراضه، من خلال القدرة على تجاوز عقليات ظلت تأسر العقل المسلم، إما أنها عقلية تلفيقة أو توفيقة أو عقلية القطيعة الكلية في اتجاه الذات أو الآخر، وإنكار الإنجازات، بمناهج اغتصبت معها الحقيقة العلمية.

إنها خيارات لم تعد تقنع ــــ في رأي الأستاذ ــــ في  استشراف مستقبل العلوم الإسلامية، وتحريك الواقع الراكد، وإعادة الانسجام بين مركبات الوعي(الإنسان، الزمن، الغيب)، فتجديد النموذج الإرشادي في بناء نظرية المعرفة، ينطلق حسب تحليل الأستاذ من تجاوز تلك الرؤى الإصلاحية التي عجزت عن استيعاب المنطق التكاملي بين الحقيقة المطلقة الموضوعية في الوحي، والحقيقة النسبية في التراث العربي الإسلامي والإنساني.

  • المحور الخامس: الرؤية المعرفية القرآنية ومفهوم الإنسان والتاريخ:

يتشكل البناء الهندسي المنهجي داخل هذا المحور من ثلاثية معرفية متلازمة: الرؤية المعرفية القرآنية، مفهوم الإنسان ومفهوم التاريخ، وهي متلازمة يراها الأستاذ ضرورية في التأسيس المنهجي الراشد، لتعلق هذا الأخير بمرجعية القرآن، وبمسار الإنسان في التاريخ، وتتأطر كلها برؤية غيبية واقعية، تتخطى مناهج المدارس الوضعية (المدرسة الوضعية الفيزيائية [اعتماد المعطيات الحسية وإنكار الغيب]، والمدرسة التأويلية [اعتماد الوقائع في التحليل]) التي رهنت مستقبل الإنسان والتاريخ بحتميات وقوانين معرفية وثوقية مغلقة.

خاتمة

تعبر هذه الدراسة عن رؤية إنسانية أصيلة في الثقافة المنهجية المعاصرة: أولاً من حيث ارتباطها بالأصول المؤسسة للنموذج الإرشادي للعلوم الإسلامية الإنسانية، وتأسيس التكاملية المعرفية، التي اعتبرها شرطا في بناء النموذج. ثانياً من خلال الحفر في ذاكرة التراث المنهجي. ثالثا ارتباطها بالسياق التداولي العربي الإسلامي، واستشعار استشكالاته وإرجاعاته. رابعاً من خلال قدرتها على تفكيك المرجعيات المستعارة، وكشف ثغراتها المنهجية.

وتؤمن أن السبيل  لتوطين منهجية علمية في وعي الأمة الجماعي هو العمل البنائي الذي يوحد بين القراءات الثلاث: الوحي والكون، والإنسان، وتشكل كلها معالم النموذج الإرشادي، الذي ينسجم مع السياق الثقافي الإسلامي الإنساني، وأفق الوعي الجماعي للأمة، وآلامها وآمالها في التحرر، ومعانقة أسباب الإبداع الحضاري العام.