تقديم

عرفت شخصية عبد الرحمان المجذوب اهتماما من طرف الباحثين لدرجة أنها أصبحت عصية على التصنيف، فهي ما بين مقدس لها، واعتبار صاحبها من الأولياء والعارفين بالله، وبين من يربطها بالمجاذيب بما هو متعارف عليه في الذاكرة الشعبية المغربية، والتي لها إيحاءاتها، من لبس “الذربالة” وعيش الفقراء، والمساكين، والمهملين، بل المجانين. لم ينعزل في زاوية، ولم ينحصر وسط مريديه ومحبيه، بل انخرط في دوامة النقد اللاذع للأوضاع السياسية والاجتماعية القائمة، وهاجر إلى مختلف المناطق ينادي بإصلاح السياسة، وإصلاح النفوس، وينتقد تجار الدين، والأوضاع الخاطئة داخل الأسرة وفي القرى والمداشر، ويدعو إلى الفضائل، ويحذر من عبادة الأصنام الجديدة وبينها عبادة المال واستحباب الخضوع للظلم. إن البحث الدقيق يفضي بنا إلى شخصية عصية عن التطويع جمعت بين العلم والزهد ومواجهة السلطة.

مسار المجذوب

ولادته ونسبه:

عبد الرحمان المجذوب يعد من مشاهير أولياء الدولة السعدية، هو سيدي عبد الرحمن بن عياد بن يعقوب بن سلامة الصنهاجي الأصل، ثم الفرجي الدكالي المعروف بالمجذوب، كان مقر أسلافه بساحل بلد آزمور من دكالة، وهناك ولد ثم رحل والده مع العائلة إلى نواحي مكناس ثم سكن هو مكناس نفسها. ولد الشيخ سيدي عبد الرحمن المجذوب في شهر رمضان عام 909ھ- 1506م، برباط تيط قريبا من مدينة أزمور- مأوى أسلافه- ثم رحل وهو صبي مع والده سنة 914ھ-1508م، إلى نواحي مدينة مكناس، ونزل بموضع يقال له: “إرُكَّان”، ونشأ في بيئة خير وصلاح.

تصوفه وعلمه:

تلقى تعليمه أولا في مدينة مكناس، ثم رحل إلى مدينة فاس، لكن المصادر التي اهتمت بترجمته لم تشر إلى الجانب العلمي والمعرفي في حياته، ولا إلى مراحل تعليمه، ولا الدرجة العلمية التي وصل إليها، وقد احتك سيدي عبد الرحمن برجال التصوف وهو صغير، فوالده كان صوفيا أخذ عن الشيخ إبراهيم أفحام الزرهوني تلميذ الشيخ أحمد زروق، وهو يمثل جانب تصوف الجذب الذي ميز متصوفة القرن العاشر الهجري.

شيوخه وتلامذته:       

أخذ الشيخ سيدي عبد الرحمن المجذوب تبركا واستفادة وانتفاعا عن عدة من المشايخ، وخدمهم وتربى بهم، وتأدّب وتهذّب، منهم: الشيخ علي بن أحمد الصنهاجي الدوار، والشيخ أبو حفص عمر الخطاب دفين جبل زرهون، وعليه اعتمد في التربية وسلوك الطريق، والشيخ أبو عثمان سعيد بن أبي بكر، والشيخ أبو الرواين دفين خارج مكناسة الزيتون، والشيخ أبو العباس أحمد بن عبد الواحد الشبيه الشريف الحسني الجوطي دفين خارج مكناسة الزيتون، والشيخ أبو محمد عبد الحق الزليجي دفين جبل زرهون، والشيخ أبو زكريا يحيى بن علال البوخصيبي العمري دفين خارج باب الفتوح من فاس، والشيخ أبو عبد الله محمد جعران السفياني.

ويظهر من خلال تتبع سلسلة شيوخه، أنه اتصل بالطريقة الزروقية الملامتية بواسطة الشيخ علي الصنهاجي الدوار، وبالجزولية عن طريق عمر الخطاب الزرهوني تلميذ عبد العزيز التباع خليفة الشيخ المؤسس للطريقة الجزولية محمد بن سليمان الجزولي.

وممن أخذ عنه: الشيخ أبو المحاسن رضي الله عنه، والشيخ مسعود الدراوي الذي أخذ عنه واشتهرت نسبته إليه، وحوله رجال ينتسبون إليه ويرجون رحمة الله من بابه، والله واسع الكرم والجود.

وقد ساهمت إحدى الرباعيات في شهرتة وجعلته يتمتع بتقدير واحترام الخاصة والعامة، وكثر مريدوه وتلامذته وعلى رأسهم أبو المحاسن يوسف الفاسي، وأبو الحسن علي القنطري الأندلسي القصري، وعبد الرحمن بن رحو الجبلي من شرفاء جبل العلم، وأبو علي النيار الأندلسي وغيرهم. توفي رضي الله عنه ليلة الجمعة من عيد الأضحى سنة ست وسبعين وتسعمائة (976ه/1573م) ودفن خارج باب سيدي عيسى بمدينة مكناس، وهو اليوم في مقبرة محاط عليها بجدار مرتفع على يمين الداخل لضريح المولى إسماعيل العلوي رحمهما الله تعالى.

من أقواله ورباعياته

من أجمل ما قال عن نفسه، وهو الزاهد الرحالة الذي لم يعبأ يوما بمظهره و هو سليل الأسر العريقة الراقية، قوله:

شافوني أكحَلْ معلَّف
يحسبو ما فيَّ ذخيرة
وأنا كالكتاب المؤلَّف
فيه منافع كثيرة

وجاء في رباعيته الشهيرة:

تخَلْطَتْ (اختلطت) ولّا بْغَاتْ (أو أرادت) تصفى
ولعب خَزْهَا (الطفيليات الطافحة) فوق ماها (ماءها)
رَيَّاسْ (رؤساء) على غير مرتبة (دون أهلية)
هُمّا (هم) سبب خْــــــــــــلاها (ضياعها)

مبدأ اقتنع به المجذوب، وعززه برباعية أخرى اشتهرت عنه قال فيها:

يا الزمـــــــان يا الغـــــــــــــــــدّار
يا كاسرني من ذراعي
طَيَّحْت (أسقطت) من كان سلطان
وركّبت (أجلست على كرسي الحكم) من كان راعي

و عن الحكمة و العلم يقول:

كْسبْت في الدهر معزة
وجبْت كلام رباعي
ماذا من أعطاه ربّي
ويقول أعطاني ذراعي

على أن أكثر ما عرف عن سيدي عبد الرحمن المجذوب أنه لم يكن مجاملا و لا متسلقا لا لحاكم و لا لأي إنسان عادي
بل يقول ما يحسه و يراه في قالب شعري شعبي مميز يحفظه عنه كل من سمعه:

عيّطتْ عيطة حْنينة
فيّقتْ من كان نايم
ناضوا قلوبْ المحنة
ورقدو قلوبْ البهايم

و كان رحمه الله ناقدا لاذعا للحكام و لا يخشى في قول الحق لومة لائم و من ذلك قوله:

تخلطتْ ولا بغات تصفى
ولعبْ خزْها فوقْ ماها
رياس على غيرْ مْرتبة
هما أسبابْ خْلاها

في كل زمان و مكان كان و لا يزال الخير و الشر وجهان لعملة واحدة، و مما قاله المجذوب في هذا الباب نذكر:

فاعل الخيرْ هنّيه
بالفرح والشكر ديمة
وفاعل الشرْ خلّيه
فعْله يرجع له غريمة

و كعادة الحكماء والمتصوفة كان للصمت قيمة كبرى تساهم في تأمل مختلف مناحي الحياة و تجلب السكينة للنفس
و في ذلك يقول بنزعة مازحة جميلة:

كل دوايْ مسّوسْ
يجيب لهليكة لراسُه
ويستهلْ ضربَة بموسْ
حتى يبانو أضراسُه

و لم ينسى في الموعظة حث الناس على العمل و درء الكسل و الخمول بحجج فارغة كقساوة البرد شتاءا و حرارة الجو صيفا قائلا:

الشر ما يظلم حدْ
غيرْ مَن جَبذُه لراسُــه
في الشتاء يقول البرد
وفي الصيف يغلبه نعاسه

و عن الغنى و الفقر نجده يقول:

ضْربتْ كفي لكفي
وخممتْ في الأرض ساعة
صبْت قلة الشي ترشي
وتْنوَّض من الجماعة
الشاشية تطْيَع الراس
الوجه تضويه الحسانة
المكْسِي يقْعُد مع الناس
العريان نوضوه من حدانا

لم ينس الوقت و أهميته في الحياة و أنها مجموعة فرص ينبغي عدم إغفالها لأنها لا تأتي تباعا فقال بهذا الخصوص:

حطّيتْها تبردْ
جاء من لقَّفها سْخونة
هذا دْوَا من يبرّد
خيرْ المْوَاكَلْ سْخونة

وعن حرية التعبير:

راح ذاك الزمان وناسو (أهله)
وجاء ذا الزمان بفاسو (بفأسه)
وكل من يتكلم بالحق
يكسروا له راسو (رأسه)

و عن الذكاء في التعامل مع الحياة و استقراء الأمور يقول:

الشَّواف يشوف من قاع القصعة
والغربال تْشوفْ منه قاعْ الناسْ
والكيَّسْ يعفسْ على راسْ الَّلفعة
والعوَّامْ يْعومْ بحر لا يقاسْ

وقد دفع انتشار الظلم والفقر والعوز المجذوب إلى توجيه انتقادات لاذعة للممارسات الاجتماعية التي تكرس تلك المصائب، فانتقد بشدة تقييم الناس بناء على أوضاعهم المادية، ويرى في ذلك عيبا قاتلا لأي مجموعة بشرية، خاصة إذا عمّ وانتشر وصار أمرا معمولا به لا يتجرأ أحد على انتقاده:

الشَّاشِيَّة (قبعة تقليدية) تطيّع الراس (يصبح صاحبها مطاعا)
الوجه تضَوّيه الحْسَانَة (الحلاقة)
المَكْسِي (لابس الثياب النظيفة) يقعد مع الناس
العريان نُوْضُوهْ (اطردوه) من حدانا (من بيننا).

ويحرص المجذوب في هذه النقطة بالذات على التأكيد أن حب الناس للمال حدّ العبادة، هو من الأسباب الرئيسية لاختلاط الموازين التي ترفع أقواما لأنهم أغنياء، وتخفض آخرين لأنهم فقراء.

جال في ربوع البلاد و شاهد و سمع من أمور الحياة فقال في حق الزمن كلاما رصينا:

يَا ذَا الزمانْ يا الغدَّار
يا كاسرْني من ذراعي
طيَّحتي من كان سلطان
وركَّبتي من كان راعي

و لم ينس المرأة فأفرد لها تارة كلاما طيبا و تارة كلاما قاسيا و من جملة ما قال نذكر:

وحدة رخيسة بماية ألف
وحدة غالية بجلد قعودْ
وحده تْجيبْ الخيرْ مْعاها
وحدة تطرده بعمودْ
+++++++++
كيدْ النساءْ كيدِين
ومَنْ كيدهم يا حْزوني
راكبة على ظهر السبع
وتقول الحذاء ياكولني
سوق النسا سوق مطيار
يا الداخل له رد بالك
يوريوك من الود قنطار
و يديو ليك راس مالك

ولم يسلم تجار الدين من سهام نقد الشيخ المجذوب الذي كان يرى أن الصدق أساس التدين الصحيح، وإلا فهو مجرد رياء يستغله أصحابه للحفاظ على مكانة اجتماعية تضمن لهم مصالحهم:

طافوا على الدين تركوه
وتعاونوا على شرب القهاوي (فناجين القهوة)
الثوب من فوق نقّوه
والجْبَاحْ (اللب) من تحت خاوي (فارغ).

قال عنه ممتدحوه

قال فيه صاحب ممتع الأسماع: “كان الشيخ المجذوب عظيم الحال باهر الخوارق، كثير الكرامات غزير المكاشفات، فكان كثيرا ما يخبر بالشيء قبل أن يكون، وكانت له الإغاثة في البر والبحر، والخطوة فلقد كان يقف كل سنة بعرفات وكان يجري في كلامه الأخبار عن اللوح المحفوظ ورؤية ما فيه…، وكان لا يكترث بالخلق في إقبالهم ولا في إدبارهم، مجموعا على مولاه لا يلتفت لغير ما به تولاّه، بل كان يعد إقبال الخلق عليه ليلا وإدبارهم عنه نهارا، يفر طول دهره من نفسه ومما سوى الله إلى الله، قد صفا باطنه من شوائب الكدر واستوى عنده الذهب والمدر، والمدح والذم، والشدائد والنعم، بل كان يعد نعمة الدنيا منعا وبلاء والشدة عطاء ورخاء، أعرض في بدايته عما سوى الله فحصل في نهايته من فضل الله ما لا يعلمه إلا الله…”.

وقال الإمام الشعراني في طبقاته: “كان رضي الله عنه من الأولياء الأكابر، وكان سيدي علي الخواص رضي الله عنه يقول: ما رأيت قط أحدا من أرباب الأحوال دخل مصر إلا ونقص حاله إلا الشيخ عبد الرحمن المجذوب، وكان مقطوع الذكر أوائل جذبه، وكان جالسا على الرمل صيفا، وشتاء، وإذا جاع أو عطش يقول أطعموه، وأسقوه، وكان ثلاثة أشهر يتكلم وثلاثة أشهر يسكت، وكان يتكلم بالسرياني، وأخبرني سيدي علي الخواص رضي الله عنه قال: ما مثلت نفسي إذا دخلت عند الشيخ عبد الرحمن رضي الله عنه إلا كالقط تجاه السبع، وكان يرسل لي السلام، ويخبر خادمه بوقائعي بالليل واحدة واحدة، فيخبرني بها فأتعجب من قوة اطلاعه…”.

من “كراماته” التي تروى

لعبد الرحمن المجذوب كرامات ومؤيدات، منها: “أن إنسانا من أهل القصر كان يستهزئ به ويقول له المجذوم بالميم، فبينما هو ذات ليلة نائم، إذا بالشيخ وقف عليه وبيده جعبة قصب فأدناها من وجهه، ونفخ فيها أو نفث فطارت رشاشة منها على وجهه، فلما أصبح إذا آثار ذلك في وجهه جذاما، ثم انتشر ذلك في سائر جسمه، فجعلوا له خارج البلد بيتا من قصب، فكان أهله إذا أتوه بمؤونته جعلوها في رأس قصبة طويلة ثم ناولوها إياه، وبقي على ذلك طريدا، فريدا، مهانا، إلى أن توفي بعد أن كان ذا رياسة وجاه وظهور، نسأل الله السلامة من معاداة أهل الله وإذايتهم”.

ومنها أنه كان مرة في زيارة مع أصحابه، فمروا بقطيع من البقر فقال لهم: “خذوا ذلك الفحل العجل أراهم إياه فأخذوه وذبحوه واشتغلوا به، فبينما هم كذلك، إذا بربته تبحث عنه وتذهب يمينا وشمالا حتى وصلت إليهم، فسألتهم عنه وقالت لهم: والله ما بي إلا أنه عندي لسيدي عبد الرحمن المجذوب، فقالوا لها إن صاحبه قد أخذه وأخبروها بالقصة”.

ومما اشتهر عنه سياحاته الصوفية في ربوع المغرب وتقديمه النصح للناس للتمسك بالدين ومكارم الأخلاق، ودعوته إلى الجهاد ومقاومة المحتلين للثغور المغربية ونظمه للرباعيات التي عكست موقفه في الكثير من القضايا، وضمنها تجاربه التي دلت على أنه لم يكن بمنأى عما تعيشه البلاد من متغيرات على المستويات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، فقد سجل من خلالها غيرته الوطنية وميز بين المجاهدين والمتخاذلين، كما تحدث فيها عن آثار المجاعات والأوبئة ودعا إلى الصبر والتآزر.

إن من حكم  عبد الرحمان المجذوب الذي ألهم الشعراء والزجالين والكتاب المسرحيين وجيل جيلالة، وناس الغيوان، ولمشاهب، والسهام، وغيرهم كثير ، كلام ملحون لا يخلو من فوائد وحكم، وقد جمعه بعضهم وشرحه وطبعه:

نوصيك يا واكل الــــــراس                   في البير ارم عظامـــوا

اضحك والعب مع النــــاس                  فمّك متن له لجامـــــــو

القمح هو الربــــــــــــــــح                   وذريه يصفى غبـــــارو

إذا بغيت تنجى من الناس                 من البلا تنهي صغــارو

يا الزمان يا الغــــــــــــدار                   يا كاسرني من ذراعـي

طيحت من كان سلطـــــان               وركّبت من كان راعـي

راح ذاك الزمان ونــــاسو                  وجا ذا الزمان بفاســـو

وكل من يتكلم بالــــــــحق              كسرو لو راســــــــــــو

المراجع
[1] عبد الله بن عبد القادر التليدي، المطرب بمشاهير أولياء المغرب، دار الأمان، الرباط، ط4، 1424ھ-2003م، ص: 167.
[2] معلمة المغرب، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا، 1425ھ-2004م، ص: 6984.
[3] أبو عبد الله محمد بن عيشون الشراط، الروض العطر الأنفاس بأخبار الصالحين من أهل فاس، تحقيق: زهراء النّظام، منشورات كلية الآداب، الرباط، ط1، 1997م، ص: 108.
[4] معلمة المغرب، مرجع سابق، ص: 6985.
[5] المطرب بمشاهير أولياء المغرب، عبد الله بن عبد القادر التليدي، مرجع سابق، ص: 172.
[6] معلمة المغرب، مرجع سابق، ص: 6985.
[7] الشعراني، الطبقات الكبرى، تحقيق: عبد الغني محمد علي الفاسي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2، 1428ھ-2006م، ص: 478.
[8] حورية بن قادة باحثة، "العارف الكبير سيدي عبد الرحمن المجذوب (909-976ھ)"، موقع الرابطة المحمدية لعلماء المغرب: https://www.arrabita.ma/.