تمهيد

ساهم إسلام المغاربة بالإضافة إلى عوامل تاريخية أخرى في جعل الوحدة السياسية للمغرب الأقصى أمرا ممكنا ومتاحا، بالرغم من التباينات الجغرافية[1] وهذا أمر لم يتحقّق في حقبة الممالك الأمازيغية ولا بعدها أثناء الاستعمار الروماني.

تاريخيا؛ أخذت معالم العلاقة بين الإسلام والدولة في المغرب بالتبلور مع دخول إدريس الأوّل إلى المغرب الأقصى سنة 170ه، إذ كان أوّل إمام روحي، بايعته أغلب القبائل الكبيرة بشمال المغرب، ابتداء من هذه اللحظة أضحت البيعة شرطا لتنصيب الحاكم، وبها تتجدد عروش السلاطين «وينصّبون أئمة يخلفون كل من قضى الله بوفاته، وطويت صفحة حياته، ويسلكون في ذلك مسلكا مقررا قد يكون الوحيد من نوعه في سائر البيعات التي درجت في التاريخ العام، ويمتاز بطابع مغربي موفورة فيه شروط المبايعة»[2].

أخذت الشريعة الإسلامية شيئا فشيئا تنال مكان الأعراف السائدة قبل الإسلام، وكانت الدول المتعاقبة مسؤولة عن تطبيق الشريعة وتنفيذ أحكامها، بل يمكننا القول أن معيار تولّي مجموعة لسلطة الحكم وإسقاط اخرى كان مرتبطا بمدى التزامها بالوظائف الدينية التي ينبغي أن تقوم بها حسب الظروف التاريخية، سواء كانت هذه الوظيفة الأمر بالمعروف والنهي المنكر في المجال الاجتماعي والاقتصادي والسياسي أو وظيفة الجهاد حينما تتعرّض الدولة لغزو خارجي، وغيرها من الوظائف التي اتخذها المغاربة معيارا احتكموا إليه لاختيار السلطة الممثلة لهم.

يمكن تفسير هذا الترابط البنيوي بين نشأة الدولة وهويتها الإسلامية بكون الإسلام قد شكّل في الواقع اليومي – للعصر الوسيط الممتد- الإطار الثقافي الوحيد والقالب الرئيس الذي خرجت منه كل أشكال الفعل والتمثّل، فطال تأثيره كل شيء: السياسات، العلاقات مع الخارج، الممارسات الاقتصادية، الصّلات الاجتماعية، السلوكيات إلخ[3].

المذهب المالكي كعنصر من عناصر الوحدة

الحديث عن جدليّة الدين والدولة في سياق التاريخ المغربي، لا يمكن أن يتجاوز المذهب المالكي كعنصر بارز معبّر عن هذه الجدلية، بما هو مذهب المغاربة كمجتمع قبل أن يكون مذهب الدولة -كما أثبت تاريخه مع بعض الدول التي تعاقبت على الحكم وحاولت تهميشه فلم تستطع- علاوة على أن الفقه كان المرجعية القانونية والمعيارية الأولى للسلوك الاجتماعي بالمغرب الأقصى منذ أسلم أهله[4]، ناهيك عن كونه وسيلة أثّرت لا محال في الحفاظ على وحدة المغاربة من الناحية المذهبية، هذه المقدمات جعلت من المذهب المالكي جزء لا يتجزّأ من هوية الدولة والمجتمع في المغرب الأقصى على الرغم من أن التاريخ يسجّل انتشار عدد من المذاهب الإسلامية قبل المذهب المالكي.

بدأ المذهب المالكي بالانتشار خلال القرن الثالث الهجري، باحتضان بعض الفقهاء الذين دَرَسوا الفقه المالكي بالمشرق ثم استقروا بمراكز مختلفة من أرض المغرب (فاس، سبتة، نكور، أغمات، سجلماسة)، خصوصا في عهد الأمير إدريس الثاني (ت.213ه)، الذي استقضى أحد تلامذة الإمام مالك وهو عامر بن محمد بن سعيد القيسي[5]، وتعزّز حضور هذا المذهب مع الوقت عن طريق الهجرات من الأندلس وإفريقية، كما لعب جامع القرويين (245ه)، دورا كبيرا في مأسسة هذا المذهب حينما كان قِبلة جلّ الفقهاء والعلماء المغاربة منذ نشأته إلى حدود القرن الماضي. وما أن أتى القرن الرابع للهجرة –حسب الأصطخري- حتى كان غالبية أهل المغرب في الفتيا على مذهب مالك بن أنس[6].

وفّر المرابطون (427/1035-541ه/1146م)، الدعم السياسي للمذهب المالكي جاعلين منه مذهب الدولة المعتمد، وتكمن أهمية هذا الدعم في كونهم أوّل من حققوا إنجاز توحيد المجال المغربي سياسيا، واليوم أكثر من أي وقت مضى تتجلى قيمة هذا التحوّل في أثره الذي كان بعيد المدى.

تراجع دور المذهب خلال المراحل الأولى لحكم الموحدين (514/1120-668ه/1269م) بسبب دعم الفقهاء المالكية للدولة المرابطية لا يكشف الحقيقة الكبرى التي تمثّلت في “العقيدة التومرتية” نسبة إلى محمد ابن تومرت[7]، هذا الأخير نادى بالرجوع إلى السُنّة والتصدي لسيادة علم الفروع، مستندا إلى أداة التأويل في إطار المذهب السني، وتبنَى الأشعرية بدلا من الحشوية “التجسيمية” في المجال العقدي. لكن الدولة الموحدية لم تستطع فصل المالكية عن المجال المغربي، إذ استطاع المذهب أن يَعْبُر العصر الموحدي بأقل ما يمكن من الخسائر[8].

عاد الفقه المالكي في عهد الدولة المرينية (610/1213-961ه/1553م)، وعُدّ أسَاسُ شرعيتها السياسية واهتمت بحَمَلته[9]. بل كانت هذه المرحلة الإطار الزمني الفعلي لحسم مسألة الاختيارات العقدية والمذهبية[10]، فتحدّدت مرتكزات الهوية الدينية باختيار من المجتمع وإقرار من أجهزة الدولة في: الإسلام السني والمذهب المالكي والعقيدة الأشعرية وحفظ مكانة النسب الشريف (الذي يقصد به الانتساب إلى آل البيت النبوي).

مأسسة إمارة المؤمنين عبر التاريخ

يقول جون واتربوري في “كتابه أمير المؤمنين“: «يجلّ المغاربة الملك باعتباره شريفا وحامل بركة. لكنهم عرفوا دائما كيف يميزون بين قداسته الشخصية، وسلطة حكومته»[11]. هذه ملاحظة تاريخية وقف عندها الباحث الأمريكي في خضم دراسته للملكية المغربية وعلاقتها بالنخبة السياسية إبان ستينيات القرن الماضي، وهي حقيقة بارزة تعطي النظام الملكي في المغرب خصوصية لها خلفية تاريخية يمكن سبر أغوارها بالعودة إلى نشأتها.

مؤسسة إمارة المؤمنين بالمغرب مؤسسة إسلامية بامتياز تعود أصولها إلى صيغة نظام الحكم الإسلامي الذي عرفه العصر الوسيط وهو الخلافة[12]، وكان أوّل من لُقّب بأمير المؤمنين في المغرب هو يوسف ابن تاشفين (ت500ه/1106)، حسب ابن خلدون «وذلك تشريفا له واختصاصا فاتّخذها لقبا»، ويقال: إنه كان دُعي له بأمير المؤمنين من قبل (ثم أهمل ذلك) أدبا مع رتبة الخلافة[13].

الموحدون أعطوا لقب الإمام صبغة شيعية كتحصيل حاصل بعد ادعاء مؤسس هذه الدولة «المهدوية»، و«كان يرى رأي أهل البيت في الإمام المعصوم وأنه لا بد منه في كلّ زمان يُحفظ بوجوده نظام في هذا العالم»[14]، ثم انتحل عبد المؤمن الذي تولّى الحكم بعده لقب أمير المؤمنين، وجرى عليه من بعده خلفاء بني عبد المؤمن وآل أبي حفص من بعدهم.

أما سلاطين المرينيين والسعديين فنُعتوا بلقب “أمير المؤمنين”، وكان المولى الرشيد هو أوّل من أُعطيَ هذا اللقب من العلويين[15]، ثم استمرّ توارثه إلى أن تمّت دَسْتَرَتُهُ في أوّل دستور مغربي 1962م.

تمثل الإمامة المكانة الدينية للسلطان وتفرض عليه إقرار وضمان سمو الأحكام الشرعية، وهو من موقعه هذا أعلى سلطة قضائية في البلاد، وكان على السلطان –كما بيّن العروي في دراسته التي خصّت الفترة الواقعة بين 1830-1912م- أن يسلك سياسة دينية صارمة وهو ما يقتضي منه العمل على إحلال الأحكام الشرعية محل العرف والقانون الوضعي[16].

إن الحاكم في المغرب بعد وصول الإسلام دائما ما استندت شرعيته على تدبيره للشأن الديني، فجَمَعَ بين السلطة الزمنية والمعنوية، ومن خصائص هذه السلطة المعنوية أن تؤخذ فيها مسألة الشرف بعين الاعتبار، على هذا الأساس التفّت القبائل الأمازيغية حول شخصية إدريس الأوّل بادئ الأمر، ثم حول الأسر السعدية (961ه/1553م-1069ه/1658م)، وقَدَّموها للولاية باعتبار نسبها الشريف والبركة المرجوة منه[17]، واستمرّ ذلك مع الدولة العلوية.

مع خضوع المغرب للاستعمار الأجنبي جُرّد السلطان عمليا من أغلب سلطاته الزمنية، وبقي مشرفا على مجالي العدل والشؤون الإسلامية اللذين يبرزان وظيفة مؤسسة إمارة المؤمنين[18]، ومن جهة أخرى تحاشت الإدارة الفرنسية والإسبانية التدخّل في هذين المجالين لإدراكها أنهما خط أحمر بالنسبة للمجتمع المغربي. وقد حاولت فرنسا التدخل في مجال العدالة بإقامة المحاكم العرفية في المناطق الأمازيغية وقامت بإصدار ما سمي بالظهير البربري يوم 5 ماي 1931م، فكان هذا الحدث انقلابا في مسار الاستعمار بالمغرب وأدى إلى انتفاضة على إثرها انطلق عمل الحركة الوطنية المغربية.

لقد تجلى أمير المؤمنين في مواضع كثيرة من تاريخ المغرب كضامن للاستقرار والقائم بدور الوساطة في النزاعات القبلية، ثم تحوّل بعد الاستقلال إلى تأدية دور الوساطة بين الفرقاء السياسيين.

رغم هذه المكانة السياسية التي حظيت بها صفة أمير المؤمنين إلا أنها لم تعطي الحاكم حقا إلهيا مطلقا في الحكم بموجب نسبه كما عبّر عن ذلك البعض[19]، الشاهد أن عقد البيعة الذي كان يحرّر كتابةً يتضمن شروطا يُلزَم بها الحاكم[20]، وفي حالة الإخلال بها يكون قد أفسح المجال للقوى المعارِضة سواء كانت جماعات أو أفراد لحشد الفقهاء والقبائل ضده. ولا نجد نصا جامعا يبيّن هذا الأمر أحسن من قرار صادر عن المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) جاء فيه: “حيث إن المغرب دولة ذات نظام ملكي ثيوقراطي، يعتبر الملك خليفة لرسول الله، وليس دولة دين، (..) والمغرب دولة إسلامية ليست فقط لأنها تمارس الديانة الإسلامية وتتشبث بها، بل لكونها أيضا تتحد في هويتها مع الإسلام، الذي يشكل سبب وجودها، الأمر الذي ينتج عنه في المغرب، نظرا للاتحاد التام بين المجتمع السياسي والفكر الذي يستند إليه، أن أي مساس بالديانة الإسلامية يتضمن في نفس الوقت خدشا للنظام العام المغربي”.[21]

خاتمة

استمرار لصيرورة العلاقة بين الدين (الإسلام) والدولة في تاريخ المغرب أكّد دستور المملكة (2011) على إسلامية هوية الدولة في المغرب: «الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية»[22]، هذا الفصل الدستوري يوجز تاريخا طويلا من تجذّر قوانين الشريعة الإسلامية في الممارسة السياسية بالمغرب، حتى غدت ثابتا من ثوابت الدولة وركنا من أركان هوية المجتمع.

المراجع
[1] محمد جبرون، تاريخ المغرب الأقصى من الفتح الإسلامي إلى الاحتلال، (الدوحة، منتدى العلاقات العربية والدولية، 2019م، الطبعة الأولى)، ص 552.
[2] عبد الرحمان بن زيدان، العز والصولة في معالم الدولة، المطبعة الملكية، (الرباط، المطبعة الملكية، 1381ه/1961م)، ج1، ص 8.
[3] محمد حبيدة، بؤس التاريخ؛ مراجعات ومقاربات، (الرباط، دار الأمان، 2016، الطبعة الثانية)، ص، 20.
[4] جبرون، محمد جبرون، تاريخ المغرب الأقصى من الفتح الإسلامي إلى الاحتلال، مرجع مذكور، ص، 361.
[5] جبرون، تاريخ المغرب الأقصى من الفتح الإسلامي إلى الاحتلال، مرجع مذكور، ص، 168.
[6] جبرون، تاريخ المغرب الأقصى من الفتح الإسلامي إلى الاحتلال، مرجع مذكور، ص، 172.
[7] جبرون، تاريخ المغرب الأقصى من الفتح الإسلامي إلى الاحتلال، مرجع مذكور، ص، 363.
[8] محمد القبلي، تاريخ المغرب تحيين وتركيب، (الرباط، منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، 2011، الطبعة الأولى)، ص 257.
[9]  محمد جبرون، تاريخ المغرب الأقصى من الفتح الإسلامي إلى الاحتلال، مرجع مذكور، ص، 364.
[10] محمد القبلي، تاريخ المغرب تحيين وتركيب، مرجع مذكور، ص، 257.
[11] جون واتربوري، أمير المؤمنين؛ الملكية والنخبة السياسية المغربية، المترجمون: عبد الغني أبو العزم، عبد الأحد السبتي، عبد اللطيف الفلق، (الرباط، مؤسسة الغني للنشر، 2013، الطبعة الثالثة)، ص 207.
[12] أنظر: عبد العزيز غوردو، إمارة المؤمنين؛ التاريخ السياسي والثقافة الدستورية، (دار ناشري، 2016)، ص، 17.
[13] غوردو عبد العزيز، إمارة المؤمنين؛ التاريخ السياسي والثقافة الدستورية، مرجع مذكور، ص 261-262.
[14] عبد الرحمان بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، اعتناء ودراسة أحمد الزعبي، (بيروت، دار الأرقم، 2011م)، ص 262.
 [15] غوردو عبد العزيز، إمارة المؤمنين؛ التاريخ السياسي والثقافة الدستورية، مرجع مذكور، ص، 40.
[16] عبد الله العروي، الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية 1830-1912، مرجع مذكور، ص، 152-153.
[17] محمد جبرون، تاريخ المغرب الأقصى من الفتح الإسلامي إلى الاحتلال، مرجع مذكور، ص، 399.
[18] الفصل الأول من معاهدة الحماية (30 مارس 1912): «..وهذا النظام يحترم حرمة جلال السلطان وشرفه العادي وكذلك الحالة الدينيّة وتأسيسها والشعائر الإسلامية وخصوصا تأسيسات الأحباس..».
[19] غوردو عبد العزيز، إمارة المؤمنين؛ التاريخ السياسي والثقافة الدستورية، مرجع مذكور، ص، 56.
[20] عبد الرحمان بن زيدان، العز والصولة في معالم الدولة، المطبعة الملكية، مرجع مذكور، ص، 8.
[21] صادر بتاريخ 10 /02/ 1960.
[22] الفصل 3/ دستور المملكة المغربية.