مقدمة

لا يُتَحَدَّثُ اليومَ عن التجديدات في دُنيا العلوم الشرعية ومقاصِدها، والخوض في نوازل الوقت الاجتماعية والفقهية والسياسية وتوابِعها؛ إلا والعلّامة أحمد الريسوني حاضِر مُستَحْضَر، عالِمٌ مُشارِك من طينة العلماء الكبار على مدار تاريخنا العربي والإسلامي، أغنى حقل الدراسات الشرعية بتآليف فوق العدّ، واختصَّ في علم المقاصِد، فكان وما يزال نَجمه الأول وخَبيره الـمُبرَّز.لقد صاحَب هذا العلمَ وبرع فيه منذ سنوات، وأنتج سلسلة كتب مقاصدية أضحت اليوم مرجْعا للباحثين والمختصين على حدٍّ سواء، ناهيك عن عشرات الأبحاث المقاصدية والمشاركات العلمية في هذا المجال.

من بواكير الإنتاج المقاصدي للشيخ الريسوني

نقدّم في هذه التقديم كتاباً من أوائل ما كَتب العلّامة أحمد الريسوني في علم المقاصد، عنونه بــ“الفكر المقاصِدي؛ قواعده وفوائده”، صدَر سنة 1999 عن منشورات جريدة الزمن، من الحجم الصغير، مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء، في حوالي 135 صفحة.

إنّ هذا الكتاب الذي عَدَّه المؤلِّف مجرَّد “لبنة صغيرة في مقاصد الشريعة وفي الفكر المقاصدي عامة”[1]، لهو في حقيقته دراسة مرجعية ومنهجية تهمُّ مَن له عناية بهذا العلم والمتعمِّق فيه في كل أبعاده، لا سيما بعد أن أضحى مادة دراسية مستقِلة في كثير من جامعات ومعاهد التعليم بالعالمين العربي والإسلامي، وشَقَّ طريقه بفضل عناية الباحثين الجادين والمتخصصين المجتهدين، ونتيجة الترويج الكبير لأهم الإصدارات والمؤلفات التي أنْعشت الفكر المقاصدي وساهمت في صحوة مقاصِدية منذ تسعينات القرن العشرين، حتى إنه “يمكننا اليوم أن نتحدّث عن صحوة مقاصدية في مجال العلوم الشرعية والدراسات الإسلامية والفكر الإسلامي” (الكتاب ص 7)، والكتاب يُلبِّي نداء المقاصد ويُواكِب صحوة الكتابة في هذا العلم، ويُسهم في ترشيد الاهتمام به والانشغال بالتأليف فيه.

استهل الدكتور الريسوني كتابه بمقدّمة مُقتَضَبةٍ أدرج فيها الحديث عن الإسلام الذي كان _ وما يزال _ ملء السمع والبصر بعقيدته وتشريعاته وثقافته، وعن الجهود التجديدية والمبادرات الاجتهادية والإصلاحية للفكر الإسلامي والعلوم الإسلامية التي تَروم العناية بالفكر المقاصدي، ومنها؛ التعريف بالمقاصد الكبرى للإسلام العظيم.

المقاصد والفكر الـمقاصدي

موقع المقاصد في شرع الله وما أراده من عباده ولهم بمنزلة “الثمرة من الشجرة” (الكتاب ص 7)، لذا توجَّب أوّلاً تعريف مقاصد الشريعة ومعانيها ومبانيها، باعتبارها الجانب القانوني من الإسلام، لأنها تتميَّز أو تمتاز عن القوانين الوضعية بِـعِدَّةِ ميزاتٍ، وهي مقاصد إجمالية ومقاصد تفصيلية، تنقسم أيضا إلى مقاصد كلية، ومقاصد جُزئية، ومقاصد خاصّة، “كما أنَّ المقاصد العامة الكلية من جهة، والمقاصد التفصيلية من جهة ثانية، لا تَـمنع من وجود مقاصد وسيطة، لا هي بالعامة الشاملة، ولا هي بالجزئية الـمحصورة في حُكم واحد أو بِضعة أحكام في مسألة واحدة، بل تتعلَّق بأحكام كثيرة وبمجال تشريعي كامل، تكون له خصوصياته ومميِّزاته، فيكون للشريعة فيه مقاصد خاصة بذلك المجال التشريعي” (الكتاب ص 7).

تحدّث الشيخ الريسوني في هذا الفصل عن مقاصد البعثة النبوية باعتبار الرسول صلى الله عليه وسلَّم هو المبعوث بالشريعة الـمتحدِّث عنها وعن مقاصِدها، فذَكَر المقاصد العامة التي بُعِثَ بها ولأجلها جميع الرُّسل، والتي من بينها:

  • مقصد هداية الخلق إلى الله خالِقهم؛
  • مقصد تعليم الناس وإرشادهم؛
  • مقصد تهذيب نفوس الناس وتزكية أخلاقهم؛
  • مقصد جَلْب الرحمة ونَشرها فيما بين الناس؛
  • مقصد إقامة القسط والعدل والحق في كل مجالات الحياة وبين جميع الناس.

وفي كل هذا؛ الشريعةُ مُـعَلَّلَة بجَلْب المصالح ودَرء المفاسد، وبأنواع المصالح ومراتبها المرتَّبة إلى ضروريات، حاجيات، تحسينيات، ومقاصد كلية، و”هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد”.[2]

والفكر المقاصدي وِفق تعريف الكاتِب هو ذاك الفكر المتشبِّع بمعرفة ما تَقَدَّم وغيره من معاني الشريعة الإسلامية وأُسسها ومَضامينها، من حيث الاطلاع والفهم والاستيعاب، وأنه هو الذي يَفهم نصوص الشريعة ويَفْقه أحكامها، ويَستيقِن مقصدية الشريعة في كلياتها وجُزئياتها، وحِكم الأحكام ومقاصد التكاليف. وعلى ذلك؛ فالفكر المقاصدي “هو الفكر الـمتبصِّر بالمقاصد، المعتمِد على قواعدها، الـمُستـثْمِر لفوائدها” (الكتاب ص 7).

قواعد الفكر المقاصِدي

لكي يكون الفكر المقاصدي علميا ومنهجيا ومتميِّزا، استوجَب وجودُ قواعِد أساسية لهذا الفكر، لتؤطِّره ولتضبط اعتماده على مقاصد الشريعة الإسلامية واستفادته منها، يستحضرها الدكتور الريسوني قواعد الفكر المقاصدي في الآتي:

  • القاعدة الأولى: كل ما في الشريعة مُعَلَّلٌ وله مَقصوده ومَصْلَحته، وقد أورد كلاما طويلا وتفاصيل فقهية وأصولية عديدة ضمن هذه القاعدة، نظرا لكونها الأساس في كل فكر مقاصِدي. فلتُطالَع في مظانها (الكتاب من ص 39 إلى ص 58)؛
  • القاعدة الثانية: لا تقصيد إلّا بدليل، أورَد فيها الحديث عن مسالك التعليل والإجماع والنص والإيماء والتنبيه والمناسبة (الكتاب من ص 58 إلى ص 67)؛
  • القاعدة الثالثة: ترتيب المصالح والمفاسد، وفي الحديث عنها اقتصر الشيخُ على مسألتَيْ التفاوت والتفاضل بصفة عامة بين المصالح والمفاسد. آتيا بمجموعة من النصوص القرآنية والحديثية، وشروح وتفاسير كبار أعلام علم المقاصد من المذاهب الفقهية الـمُعتَبَرة؛
  • القاعدة الرابعة: التمييز بين المقاصد والوسائل، حيث بَيّن أنّ أوامر الشرع الحنيف منها ما هو مقصود ومطلوب لذاته، ومنها ما هو وسيلة، وأنّ “الوسيلة نفسها قد تتوقَّف على وسيلة أخرى، وهي وسيلةُ الوسيلة” (الكتاب ص 80)، آتيا بعدد من الأمثلة والتعبيرات الفقهية في الموضوع.

فوائد الـمقاصد

يخلُص الفصل الأخير من الكتاب كما يدلُّ على ذلك العنوان الجامع؛ إلى بيان أهم فوائد المقاصد والفكر المقاصدي، تلك التي أجملها الدكتور الريسوني في:

  • المقاصد قِبلة الـمجتَهِدين: لأنه مَن تَوجَّهَ إلى جهةٍ منها أصاب الحق، خصيصا العلماء المجتهدون الذين تسير هِمّتهم إلى تحرِّي مقاصد الشارع الحكيم فيتبصَّرونها ويَعرفونها ويُعرِّفون بها، ويكونون أفهمَ الناس لمراد الله ومقاصد نصوص القرآن والسنة.
  • المقاصد منهجُ فِكْرٍ ونَظَر: لأنها بأُسُسِها ومَراميها وبِكليّاتها مع جُزئياتها، وبأقسامها ومراتبها، وبمسالكها ورسائلها؛ تُشكِّل منهجاً متميِّزاً للفكر والنَّظر، والتحليل والتقويم، والاستنتاج والتّركيب.
  • فتْح الذرائع وسَدُّها: بحيث يكون النظر إلى الذرائع _ فتحا وسَدّا_ “والحكْم عليها بحسب المقاصد والنتائج التي تُفضي إليها” (الكتاب ص 109)، مذكِّرا في السياق بأهم قاعدة أصولية متضمِّنة لفتح الذرائع أو سدِّها ألا وهي قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
  • اعتبار مقاصد المكلَّفين: وهنا يستحضر الكاتب التقسيم الذي أقامه العلّامة الإمام إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي (تــ 1388م) في كتابه الموافقات في أصول الشريعة[3] المقاصد إلى: مقاصد الشارِعِ ومقاصد الـمُكَلَّفِ، ويَرى الكاتب أنّ الواجب استيعاب العباد أنَّ الشرع الحنيف يَطلب منهم أنْ “يكونَ قَصْدُهم متمشِّيا مع قَصده، قَبل أن يكون تَصَرُّفهم موافِقا لأمره ونَهيهِ (..) وأنْ يكون قَصْد الـمكَلَّفِ موافِقا لِقصْد الشارعِ”[4].
  • المقاصد تُزِيلُ الـكَلَل وتُسدِّد الـعمل: ذلك أنّ العمل المقاصدي ومعرفته والتخلُّق بفكره ومبادئه وقواعده وتحصيل فوائده؛ يقوِّي الرغبة في العمل والمواظَبة عليه، ويُسدِّد أعمال الأفراد والجماعات ويُحسِّن من سلامتها أثناء التطبيق، ويعزِّز فقهَ أسرار الدين لدى الناس.

خاتمة

يربط الكاتب بين فوائد المقاصد والدعوة إلى الله، فالدعوة إلى الله ودينه في أمسِّ الحاجة للتحقُّق بالمقاصد، لأنّ دعوة الناس تحتاج بصفةٍ دائمة إلى بيان المقاصد لمزيدٍ من الإقناع والإفهام، ولترشيد الالتزام وتقوية العمل به. واستطْرَد في ذِكْر العقائد والمقاصد والتوسع والتجديد في الوسائل الدعوة خِدمة للإسلام والمسلمين، وجَلْباً للنفع والإصلاح، مع وجوب التعاون على دفع المفاسد قدْر الإمكان.

المراجع
[1] الريسوني أحمد، الفكر المقاصدِي؛ قواعده وفوائده، منشورات جريدة الزمن، العدد 9، الطبعة الأولى 1999، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، ص 8.
[2] الريسوني أحمد، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، منشورات دار الأمان، الرباط، الطبعة الأولى 1990، الموافق لــ 1411 هجرية، ص 7.
[3] الشاطبي أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي، الموافقات في أصول الشريعة، منشورات محمد علي بيضون، دار الكُتب العلمية، بيروت، لبنان، طبعة 2004.
[4] الشاطبي أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي، الموافقات في أصول الشريعة، مرجع سابق، ص 112.