توطئة

اعتنق المغاربة الإسلام وارتضوه ديناً لهم، ومرجعية نهائية ينتمون إليها، مع بقاء نوع من الاختلافات في التنزيل والفهم والتأويل، وتبنّوا طريقة الجُنيد السالك، وهي أشعرية اعتدالية جَمع تيّارها ومنظّروها وتابِعوها بين العقل والنّقل، وتعالَت الصِّلات بينها وبين فقهاء الوقت وأقطاب الصوفية طيلة عصر الموحدين، والمرينيين ثم السعديين فالعَلويين، فــ”تحقَّق حولها الإجماع”[1]. كما اختار المغاربة طريقتهم الخاصة في التعبير عن محبتهم للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، عبَّروا عنها سياسيا بدعْمِهم إدريس بن عبد الله الكامل حفيد علي بن أبي طالب، ونصَّبوه أميراً عليهم، ومن بعده ابنه إدريس الثاني، فحَفَدته. واجتماعيا، بالتعلُّق بآل البيت الكرام، ومَحبّتهم، وتسمية أبنائهم بأسمائهم. وثقافيا، برْبِط العلاقات مع الحجاز وأرض الـحَرَمين، وشَدِّ الرحلة إليهما، وطلب العلم في جوارهما، والتدريس بهما، وتنظيم الرِّحلة الحجية[2] خِصّيصا إليهما[3]، وإهداء المؤلَّفات إلى خزائنهما، والمصاحف أيضا، ولعلَّ مثالها البارز، المصحف الذي بَعث به السلطان الأفخَم علي بن عثمان المريني رحمه الله، بخطِّ يده إلى المسجد النبوي الشريف.

النَّثْـر المِدْرار في وصْف ومدْح النبيّ المختار

لَعلَّ أكثَر مَن عبَّر عن التعلُّق الصادق بشخص الرسول محمدٍ وشمائله ومميّزاتِ أهل بيته وعاطِر سيرته؛ أقطاب التصوف السني بالمغرب، عـبْـر مختلِف الـحِقَب وتعاقُب الدول، الذين وطَّدوا لــتصوّف الأخلاق والرقائق الذي استقرّ عليه عامة المتصوّفين المغاربة، وكان له الأثر الفعّال في مجتمعنا الإسلامي المغربي”[4]، ومِن خلالها قَرَّبوا العامة من رسول الإسلام وأخلاقه.

فهذا عبد السلام بن مشيش يكَتُب في “صَلاته الـمَشيشية” داعيا: “اللهم ألِـحْقني بنَسَبه، وحَـقِّـقني بـحَـسَبه”[5]، ويَصف النبي بأنه “فيه ارْتَقَت الحقائق، وتَنَزّلت علوم آدم فأعْجَز الخَلائق، وله تضاءَلت الفُهومُ فلم يُدْرِكْه منا سابقٌ ولا لاحِق”[6]. وهذا الإمام القاضي عياض (تــ1149م) يَصفُ رسول الله أنه أزكى بني البشر “مَحتِداً ومَنْمَـى، وأرجَحُهم عَقلا وحِلْما، وأوْفَرهم عِلما وفَـهْما، وأقواهم يَقينا وعَزما (..) صلَّى الله عليه صَلاةً تَنمو وتُنْمَى”[7]. وهذا ابن سليمان الـجزولي يُثني عليه بقوله إنّه “نُخبَةُ الله مِن بَرية الله، وصَفوةُ الله من أنبياء الله (..) أشرَفُ الأنبياء نِصابا، وأبْينُهم خِطابا، وأفضلُهم موْلِدا وعَتْرَةً وأصْحَابا (..) وأصْدَقُهم قَولاً، وأزكاهُم فِعْلا، وأثْـبَـتُهم أصْلا، وأوْفاهُم عَهْداً، وأمْكَنُهم مَجْدا، وأكْرَمُهم طَبْعا، وأحسنُهم صُنعا، وأطيبُهم فَرْعاً (..) وأعْلاهُم مَقاماً وأحلاهُم كلاما وأزكاهُم سَلاما، وأجَلُّهُم قَدْراً وأعْظَمُهم فَخْرا (..) وأثبَتهم بُرهاناً، وأرجَحُهم ميزانا، وأوَّلُـهم إيمانا، وأوْضَحُهم بيانا، وأفصَحهم لِسانا، وأظْهَرهم سُلطانا”[8].

ومِن أهمَّ ما أفاد به الجزولي الأجيالَ وشرَّف به المنهج التربوي والصوفي المغربي عبر العصور؛ تدوينُ كتابِهِ دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في ذِكْر الصّلاة على النبي المختار في سَبعة أقسام، ومُقدِّمَتينِ.

أفْرَدَ أُولاهُما لأسماء الله الـحُسنى، وأخراهُما لأسماء النبي الخاتم عليه الصلاة والسَّلام، وبَيَّن قصْدَه مِن كتابه هذا قائلاً: “إنّي نويتُ بالصّلاة على النبي صلى الله عليه وسلَّم امتِثالاً لأمرك، وتصديقاً لنبيك، ومحبّة فيهِ وشوقاً إليه، وتعظيماً لقدْرِه، ولِكَوْنِهِ أهْلاً لذلك، فَــتَــقَــبَّــلْها مني بفضلك وإحسانك (..) ووفِّقني لقراءتها على الدّوام بِجَاهِهِ عندك”[9]. وقد كان له ما أراد، وحقّق الله ما في خالِص نيّته، فأطْبَقَت شُهرة الكتاب الآفاق، وتناقَله القرّاء جيلاً تِلْوَ جيل، وتَشرَّفت المساجِد بذِكْرِ أوراده العطِرة، ولَـهَجَت الألسُن بفضله بالصلاة والتسليم على الرسول الكريم، وأَحْيَت فُرق الإنشاد ليالي المديح والمولِـديات اعتماداً على هذا الكتاب.

تخليد ذكرى مولِد سيد المرسلين على عهد المرينين

ذَهَب مؤلِّفو تاريخ المغرب تحيين وتركيب إلى القول بوجودِ أوّلِ إشارة في هذا الصَّدد قد أُعْطِيَت مِن قِبَل يعقوب المنصور المريني الباني الحقيقي للدولة “عندما قَرَّر الاحتفاء بعيد المولد سنة 1272م”[10]. ومنذ أعلَنت المنظومة المرينية “عن انضمامها إلى معسكر أهل السنة المالكية (..) وجاهَرت بابتِداع إستراتيجية شَريفية بكل ما في الكلمة من معنى”[11]، وأقَرَّت بقوّةٍ أحقيةَ كافَّةِ حَفَدة الأدارسة من الاستفادة من الشَّرف والتبرُّك به؛ ارتَفَعت أسْهمهم بالمغرب، وحُمِدَت سيرتهم على ألسن العامة، وقُوبِلَ سُلوكهم تجاه المذهب المالكي ورجالاته وعلماءه الكبار بالاحترام والتقدير من قِبَل الكافَّة والخاصَّة.

وكانت عناية سلاطين الدولة كبيرةً بمظاهر التدين وممارستها، ولا سيما على عهد السلطان أبي الحسَن المريني (تــ 1351م) الذي كُتِب الكثير عن تقواه وزهده ورعايته[12] آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنايته بأهل الله وجَميل اعتقادِه فيهم، وكَثْرة ثناء الأولياء عليه، ورعاية باقي السلاطين[13] لكتُب المناقب التي انتشرت بوَفرة أواخر عهد الدولة.

وذِكرى المولد النبوي على سبيل الـمِثال، كانت تحدُث على هذا العهد في “مَشْهَدٍ عظيم وموكِبٍ فَخيم. وكانت هذه الـمظاهر الشّائقة كثيراً ما تُغرِي كِبار الذَّوات العلمية والأدبية في الأندلسِ والمغربَين الأدنى والأوسَط، فيُفارقون بلادَهم غَيرَ آسِفينَ عليها، ويَــؤُمُّون الـحَضْرة الفاسية حيثُ يَتمتَّعون في كَنَفِ الدولة المرينية بأسْنى ما كان يتمتّع به رجالات الدُّول السالِفة كالعبّاسيين والأُمَويين، مما سَمِعوا به ولَم يَروه (..) [لِـمَا كانت عليه] في عصْرها حاميةً بيضة الإسلام، ومَوئل العروبة”[14] ومُعِزَّةً جَنابَ النبي الكريم عليه الصّلاة والسلام.

وإلى بيتِ الشرفاء الـعَزْفِيين تُنسَبُ البدايات المبكِّرة والواعِدة للاحتفاء بذكرى مولد رسول الله، فقد كان هذا البيت على عهد بني مَرين “بقيامه في النَّـدب للاحتفال بالمولد النبوي، ولهذا النوع من الـمبادرات أبعاد خطيرة في تاريخ المغرب الإسلامي، ثقافيا واجتماعيا وسياسيا (..) شَكَّل مَشروعا رياديا في الطريق إلى زَعامةٍ أو رئاسةٍ، أو عَـبْر محاولة تَجاوُز انتكاسَة. فلا بُد أن يُحِسَّ بهذا الارتباط مَن يَـتَأَمَّل المحيط الخاص للعـزفيين، وهو مدينة سبتة بـموقعها بين عُدوة المغرب وعُدوة الأندلس، وبحركيتها العلمية المتميِّزة، وما فَرَضه الموقع عليها من عَدم استقرار في الولاء السياسي، ثم لا بُدَّ أن يَقتـنع بذلك مَن يَـنظُـر في هذا الـمخاض السياسي والفكري بالمغرب خلال القرنين الخامس والسادس [الهجريين] وما أسفَر عنه القرن السابع [الهجري] مِن تيارات روحية تُنظّـِم المجتمعَ وتُـكَـوِّن قاعدةَ تَـبلور الشُّعور العام والأسلوب الأنجَـع لترسيخ القيم، بَينما تَطفو عليها التشكيلات السياسية بمختلِف ملابَساتها، ووقائعُها تَـعْـتَوِرها أحوال الهدوء تارة وأحوال الاضطراب تارة أخرى”[15].

ورئيس هذا البيت؛ أبو العباس أحمد بن القاضي أبي عبد الله اللَّخمي[16]، عُرِف بابن أبي عَـزْفة، وإليها يُنسَب، من مواليد 17 رمضان 557هـ،  تَربّى في بيت علم وشَرف، وحاز العِلم مِن علماء الشَّرق والمغرب، ثم تَصدَّر للتدريس بجامع سبتة، واشتغل بالتأليف أيضا، فخلَّف لنا كتابه المشهور الدُّر المنظَّم في مولد النبي المـعظَّم، وكتابه في التصوف دعامة اليقين في زَعامة المتقين ومَناقب الشيخ أبي يعزى.

فيما يُرْجِع الأستاذ العلّامة عبد الله كنون الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف إلى إسهامِ ودَوْرِ عالِمٍ فذٍّ كَتب في الشَّمائل المحمدية وأهمية الاحتفاء بالمولد النبوي يُدعى أبا الخطّاب بن دِحية السّبتي صاحب كتاب التّنوير في مولد السِّراج المنير[17].

مؤلفات المغارِبة عن شخصية النبي الطاهر

فَفْضلا عن مظاهر الإعزاز والتقدير والاحتفاء التي عبَّر عنها المغاربة تُجاه مولد النبي وسيرته وحياته؛ فقد نشِطَ العلماء للتأليف في الشّمائل المحمدية وفي كل ما يرتبِطُ بالبِعثة النبوية على مدار القرون، مُخلِّفينَ لنا عشرات المؤلَّفات والقصائد والأرجوزات التي انتشرت مع كُرور الأيام ومُرور الأعوام، ونقتصِر هنا على ذِكْر عيِّنة من تلكم الـكتابات على سبيل الذِّكر لا الحصر:

  • “الآيات البيِّـنات في ذِكر ما في أعضاء رسول الله من الـمعجِزات”[18] و”التنوير في مولِد السِّراج الـمُنير” للكاتب أبي الخطّاب بن دحْية، وهو من أعلام عصر الموحِّدين؛
  • “عَـرائِس الأفكار في مَـدائح الـمُختار”، وهي منظومة شِعرية من إبداع أحمد بن عبد الحي الفاسي (تـ 1708)؛
  • “كمَال الفَـرح والسُّرور بمولِد مظهَر النور”، للعلّامة أحمد العياشي السّكيرج؛
  • “وَردة الـجُـيُـوب في الصّلاة على النبيِّ الـمحبوب”، للفقيه محمد بن عبد العزيز الرّسموكي؛
  • “هِداية المُحبِّين إلى ذِكْر مَولِد سيِّد الـمُرسَلين”، للشيخ محمد التّهامي بن المدني كنّون؛
  • “السِّر الرّباني في مولد النبي العَـدناني”، للفقيه محمد البناني الفاسي؛
  • “ربيع القُلوب في مولِد النـبِيِّ الـمحبوب”، للشيخ العربي بن عبد الله التهامي الرباطي (تــ 1920)؛
  • “السّانِـحات الأحْمَدية في مَولد خير البَـرية”، للعلّامة محمد بن عبد الكبير الكتاني؛
  • “السِّر الأبْـهَر في وِلادة النبي الأطـهَر”، للشيخ أحمد بن جعفر الكتاني؛
  • “النُّور اللائـح بمولد الرسول الخاتم الفاتح”، للمؤرخ والأديب عبد الرحمن بن زيدان (تـ 1949)؛
  • “الرحمة العامة في مَولد خير الأمة”، للعلّامة والمصلِح محمد بن عبد الله المؤقِّت المراكشي؛
  • “بُلوغ القَـصد والـمَرام بقراءة مولِد خير الأنام”، للفقيه محمد الحَجُّــوجي الحَسـني الدّمناتي (تـ 1950).

بهذه الإشارات البليغة والمُفرَدات الجميلة، والمصنَّفات الأثيرة؛ عبَّرت النخبة العلمية المغربية على مرَّ الأحقاب بتعلُّقها الشديد بسيرة الرسول الكريم، وانْتِهاض عَزمَاتها للتعريف بشمائله وتعديد مَحاسنه، وزاحَمت الـمكتبة الـمشرقية بأنْفس المُؤلفات والقصائد والمولديات التي أضْحَت مَيْسَماً بارِزا للحركية التأليفية عن الذات النبوية الشريفة وسيرته الـمُنيفة، عليه أزكى الصلاة والسلام.

المراجع
[1] محمد القبلي (تنسيق وإشراف)، تاريخ المغرب؛ تحيين وتركيب، منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، طبعة 2012، ص 251.
[2] الفاسي عبد المجيد بن علي الزبادي المنالي، بلوغ المرام بالرحلة إلى بيت الله الـحرام، المكتبة الملكية بالرباط، رقم 1808، في 148 ورقة.
[3] أنظر: الفهري محمد بن عمر بن رُشيد، مَـلءُ الـعَـيْبَة بطول الـغَيْبَة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مَكة وطَيْبة، تقديم وتحقيق محمد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1988، عدد الصفحات 405.
[4] الفاسي علال، التصوف الإسلامي في المغرب العربي، إعداد الأستاذ عبد الرحمن بن العربي الحريشي، تصحيح المختار باقة، منشورات مؤسسة علال الفاسي، الطبعة الثانية 2014، ص: 14 – 15.
[5] كنّون عبد الله، النبوغ المغربي في الأدب العربي، الجزء 1، الطبعة الثانية، 1960، ص 151.
[6] كنّون عبد الله، النبوغ المغربي في الأدب العربي، الجزء 2، ص 330.
[7] عياض بن موسى اليحصبي، الشِّـفا بتعريف بحقوق الـمصطفى، تحقيق عبده علي كوشك، منشورات جائزة دبي للقرآن الكريم، وحدة البحوث والدراسات، سلسلة دراسات السيرة النبوية، دون تاريخ النشر، ص 2.
[8] كنّون عبد الله، النبوغ المغربي في الأدب العربي، الجزء 2، ص 327.
[9] الجزولي السملالي محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر، دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في ذِكْر الصلاة على النبيِّ الـمختار صلى الله عليه وسلَّم، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الأولى 1937، ص 3.
[10] محمد القبلي (تنسيق وإشراف)، تاريخ المغرب؛ تحيين وتركيب، مرجع سابق، ص 207.
[11] محمد القبلي (تنسيق وإشراف)، تاريخ المغرب؛ تحيين وتركيب، مرجع سابق، ص 200.
[12] أنظر: ابن مرزوق محمد التلمساني، المسنَد الصحيح الحسن في مآثر ومحاسن مولانا أبي الحسن، إصدارات المكتبة الوطنية، دراسة وتحقيق الدكتورة ماريا خيسس بيغيرا، جامعة سرقُسطة، تقديم محمود بوعياد، الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، طبعة 1981.
[13] انظر: الذخيرة السَّـنية في تأريخ الدولة المرينية، اعتنى بالكتاب محمد بن أبي شَنَب، الأستاذ بالمدرسة الثعالبية بالجزائر، مطبعة جول كربونل – الجزائر، الطبعة الأولى، 1920.
[14] كنّون عبد الله، النبوغ المغربي في الأدب العربي، ص 185.
[15] أبي العباس العزفي، دعامة اليقين في زعامة المتقين؛ مناقب الشيخ أبي يعزى، تحقيق وتقديم أحمد التوفيق، مكتبة خدمة الكتاب، الرباط، الطبعة الأولى، 1989، ص 5.
[16] مجموعة مؤلِّفين، معلمة المغرب، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا، 1989، ص 6068.
[17] كنّون عبد الله، النبوغ المغربي في الأدب العربي، مرجع سابق، ص 132.
[18] كنّون عبد الله، النبوغ المغربي في الأدب العربي، مرجع سابق، ص 159.