النسب ومسار التعلم

استقرَّ آل عاشِرٍ في عُدوَة سلا، وفي مدينة فاس، التي ستَشْهد ميلادَ نابغة العائلة، وفَخْر مغرب السَّعديين وكلُّ القرون الـموالية؛ عبد الواحد بن عاشِر، سنة 1582م/990ه، أربع سنوات بعد الانتصار التاريخي الكبير للمغرِب في معركة وادي المخازن. وظلّت هذه العائلة تأتي تِباعا إلى المغرب على مدى عقود، هروباً من اضطهاد حركة الاسترداد في الأندلس، وتَجنُّباً لكتابة لَقَبِها بطريقة إسبانية مُحَرَّفة، استَقرَّ فَرْعُ أسرة عاشِر بمدينة تطوان شمال المغرب وفيها توَلَّى أحد وُجهائها منصِب الحاكم العام بالشَّمال بتعيينٍ مِن السُّلطان سيدي محمد بن عبد الله وذلكَ سنة 1766م، وورَد اسم الحاج محمد بن عبد الرحمان عاشِر عند المؤرِّخ الراحل محمد بن عزّوز حكيم.[1]

في الجوِّ السياسي والحضاري الـمتوازِي مع هيبة الانتصار؛ تَربّى الفتى عبد الواحد وشَبَّ، بينَ الكُتّاب ومحيط الأسرة ومجال فاس وأحوازها. وحفِظ القرآن الكريم على يد الشيخ أحمد بن عثمان اللّمطي، وبالقراءات السَّبْع على يد الشيخ القَصّار أكبر وأشهر عالم قراءات في عَصْرِه، كما دَرس العلوم القرآنية على بعض الأشياخ في مدينة فاس. بَرَع الطّالب عبد الواحد في علوم القراءات، والرَّسم القرآني، ثم انتقل لدراسة النَّــحو والعَروض والفقه، وعلم المنطق والتّوقيت والحديث والتفسير اللّذان أخذَهما عن عالِم فاس وقتئذٍ محمد بن أبي بكر الدِّلائي في الزّاوية البَكْـرية.

وكَسائر العلماء الشَّغوفين بالمعارف والقائلين للعلوم هل مِن مَزيد؛ ارتَحل عن بلدهِ صَوْبَ المشرِق، جامِعاً بينَ تَلقِّي العِلم على يدِ العلّامة سالم السّنهوري والإمام محمد بن يحيى الـعِزِّي الشافعي والشيخ بركات الخطّاب، والحجّ؛ بحيث زار المدينة ومكة حاجًّا سنة 1008 هجرية. وهناك بأرض الحجاز، نهَل مِن بحرِ معارِف الشيخ عبد الله الدّنوشري، وابتدأ في تَدوين منظومتِه الشَّهيرة التي سيأتي الحديث عنها أدْناه.

وبَعد عودته لفاس؛ جَذبه التصوّف جَذْبة تُطيِّر الصواب، فانثالَ عليه آخِذاً إياه على يدَيْ المربِّي القُطْب أحمد التِّـجِـيبي، والشيخ العارف باللهِ الطيبّ الوزاني.

كانَ للعلوم المتنوِّعة التي الْــتَقَت في عَلَمِنا ابن عاشِر أثَرٌ كبيرٌ في مزاولتهِ لمهامّ التدريس في علوم شتّى، كالحديث وعلوم القراءات والرَّسم الـمُصْحَفي الذي كان يُجيده إجادةَ البارعين، والنّحو وعلم الكلام والفقه وأصوله، والفرائض وتعقيداته، والمنطق والحساب والتّوقيت، فَضْلا عنِ ممارسة الـخطابة والوَعْظ؛ ما جَعَلَه مَعْلَمة فقهية وحديثية وقرآنية بارزة في فاس الـعالِمة. وبفضلِ هذا العطاء العِلمي؛ الْــتَفَّ حَوْله الطّلاب، وكان له تلامِذةٌ كُثُر، وتخرَّج على يديه خَلْقٌ كثير، وكان منهم أئمة ووعّاظ وقُضاةٌ وكَتَبة ماهرون أمثال أحمد ميّارة، وعبد القادر الفاسي، ومحمد الزّوين، ومحمد الـمرغيثي، ومحمد بن سودة وأضرابهم ممن تلقَّوا عنه العلم في جامع القرويين العريق.

التدريس والإقراء وشهادات العلماء الأجِلّاء

وُصِف الشيخ ابن عاشِر مِن قِبَل كثيرٍ ممّن تَرجموا له واعتنَوا بسيرته، أمثال العلّامة المغربي محمد الـحُضَيْكي في “طَبقاته”[2]، والمؤرِّخَيْن أبي العباس أحمد الناصري ومحمد بن الطيّب القادري، والدكتور عبد الله الترغي (1944م – 2015م) في مرجعه “فهارس عُلماء المغرب منذ النّشأة إلى نهاية القرن الثاني عشر للهجرة؛ منهجها، وتَطَوُّرُها وقيمتها العلمية”، والفقيه بَدر الدِّين القرافي في “توشيح الدّيباج وحِلية الابتهاج”، و”مَعْلمة المغرب”[3]؛ (وُصِفَ) بالزّهد والوَرَعِ والتعفّف ومكارم الأخلاق والتواضع للناس، ومع طُلّابه أيضا، والكدِّ في العمل، وأنَّ شَخصيته ودُروسه كانا مَحَطَّ قَبولٍ، ولا أدلَّ على ذلك؛ مِن بَقاء ذِكْره وحُضور عِلْمِه وتَدَاوُل “مَـتْنِــه” الشَّهـير بيننا إلى القرن الواحد والعشرين، وسيظلّ إلى أنْ يشاء الله، ما دام المغارِبة مرتبطون بمذهبِ مالكٍ وعقيدةِ الأشعري وطريقة الجُنــيد، كما عبَّر عنها الشيخ عبد الواحد بن عاشر في مطالِع منظومته:

في عَقْـدِ الأشْعَرِيِّ وفِـقْهِ مالكْ   **  وفي طَــريقــةِ الـجُــنَــيْــدِ السّــــالِــكْ

وقَد تَصَدَّر للتدريس والـمَشْيَخة والخطابَة، وشارَك في جُلّ العلوم، خصوصا علم القراءات والرسم والضّبط والنحو والإعراب وعلم الكلام والأصول والفقه والتوقيت والتعديل والحساب والفرائض والمنطق والبيان والعروض والطّب. إننا إزاء عالِـمٍ جليل مُشارِك في علوم متعدّدة، تميَّز بالسَّعة في المعارف، والاشتغال بتحصيل قُوتِ يومه وعِياله، والقُرْبِ مِن النّاس تَعليماً وإرشاداً.

التقييدات والطُّرَر والمنظومات

أحْسَنَ الشيخ ابن عاشرٍ إدارةَ الوقت، فأنتجَ مِن الكُتب النافعة ما عدَّده الـمؤرِّخون والتّراجِمة في ثلاثة عشر كتاباً، نذكر منها: “شِفاء قَلْب الـجَريح بشَرْح بُرْدة الـمَديح”، و”فتْح المنان المَروي بمورِد الظمآن”[4]، و”رسالةٌ في عمل الرّبع الـمجيّب”، وهي في أصلها منظومة من ثلاثينَ بيتاً من بَحْر الرَّجَز، و”طُرَرٌ على الشّرح الصغير للتّـتَــائي على مُختصَر الشيخ خَليل المسمّى بجواهِر الدُّرر”، و”مُقطعات في جَمْع نظائر مهمة في الفقه والنّـحْو”، و”تقريضٌ على منظومة اليَواقيت الثَّمينة فيمَن انتمى لعالِـم المدينة” وهي في الأصل لِصاحِبها الفقيه عبد الواحد الأنصاري، وغِيرها من الاجتهادات العلمية والإفادات الفقهية واللغوية التي خلَّفها لنا العلّامة ابن عاشر.

غيرَ أنَّ أهمَّ إرْثِ ابن عاشِرٍ الفِقهي الذي بَـزَّ به علماء الغرب الإسلامي، منظومته المشهورة باسم “الـمُرْشِد الـمُعين على الضَّـروري مِن علوم الدِّين”، وهي مَنظومة شِعْرية مَسبوكة مُحكمَة إحكاماً فِقْـهِـيًا مُتقَناً، كَـتَبَ الله لها القَبول ودوامَ الحُضورِ قرناً على صدْرٍ قَرْنٍ، وعَمَّ نَفْعُها، وكاد لا يخلو بيتٌ مِن بيوت المغاربة مِن وجودِ حافِظٍ أو حافِظَةٍ لمنظومة ابن عاشر، وقيَّض الله لها شُرّاحاً كُثُراً منذ القرن السابع عشر، لأنها مُوجَّهة إلى الـمُسلم (ة)، ومُرشِدة له صوب علوم دينه، التي لا يُعْذَر أحَدٌ بِتَــركها وجَهْلِها.

“المُرشد الُمعين”.. مَتْن التدين والتمذهب الـمغربي

دَخل العلّامة ابن عاشِر بهذه المنظومة التاريخ الفقهي والدِّيني للمغرب من بابه الواسع، وجَعَلت منه إحدى القامات الكبرى في عِلْم الكلام الأشعري، وعَدَّه المغاربة على مَرّ العصورِ سَنداً “في سِلسلة الـفِقه الـمالكي إلى النبي صلّى الله عليه وسلَّم”[5]، واحْتَجَّ بأقواله في الـمذهبِ المالكي نَفَرٌ مِن العلماء والـفقهاء، وتنافَست المساجِد في قراءة وخَتْمِ ما أضحى يُعرَف بــ”مَـتْن ابن عاشِر” أو “منظومة ابن عاشر”، وجَرى على ألسنة المغاربة “أنه من حفِظها وألَمَّ بشرحها حُقَّ له أن يُزاحم أهل العلم بِـرُكْبَتيه”[6].

اعتُمِدَت المنظومَة رسميا في التّدريس بكلٍّ مِن الأزهر والزيتونة والقرويين، كُبرى المؤسّسات العلمية في الشّمال الإفريقي، وتلَقّاها العامة والخاصة بالقَبول في الجزائر ومِصر والسودان. وفي عصر المطبعة، تلقَّفتها مطابِع سوريا ومصر والمغرب بالطبع والنّشر والتّوزيع، وكَثُرَ شُرّاحُ متْن ابن عاشر مِن الأقدمين والـمُحدَثِين، نذكُر منهم:

  • “شَرْح مَتن ابن عاشر في الفقه” للشيخ يحيى المدغري؛
  • “الحَبل الـمَتين على نَظْم المُرْشِد المُعين” لصاحبه محمد بن المبارك الـفَتْحي؛
  • “العُرف النّاشر في شرح وأدِلَّة فقه مَتْن ابن عاشر” للشيخ المختار بن العربي الشنقيطي؛
  • “المنهج الـمُبين في شرح الـمُرشِد الـمُعين على الضّروري من علوم الدين”، لمؤلِّفِهِ خالد قويدري؛
  • “الفِقه مِن مَنظومة الـمُرْشِد المعين لابن عاشر بشرْح ابن ميّارة الفاسي”، كتاب مُعتمَد في التدريس بمدارس التعليم العتيق التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، أساسا في السنة الخامسة من التّعليم الابتدائي.

وبِـتَطَوُّر وسائل التَّواصل السّمعي-البصري، وعَودة الكراسي العلمية لمساجد المغرب الراهن؛ بادَرَ بشَرْح مَتن ابن عاشرٍ كلٌّ مِن الدكتور الأديب خرِّيج القرويين محمد الروكي، والأستاذ الداعية عصام البشير المراكشي، والشّيخ الموسوعي سعيد الـكمَلِي، والشيخ العَوني بن محمد الزّاوية (تــ 2023)، الذي تفرَّد بشرحٍ مُبسَّطٍ تفصيلي للمنظومة في برنامجٍ خاصٍّ بَثَّته قناة محمد السادس للقرآن الكريم، ويكثُر شَرح المتن في شهر رمضان المبارك من كل سنة، باعتباره عُمْدة في الفقه المالكي والتدين المغربي.

ومَا تزال مساجِد البـلاد تخصِّص حلقاتٍ لتدارُس منظومة “الـمُرشِد الـمُعين..”[7] يؤطِّرها وُعّاظ وواعظات وعلماء تابعون للمجالس العلمية الـمحلية، ولا سيما في شهر رمضان الـفضيل، لتعليم الناس أحكامَ دينهم، نظراً لاشتِمالِ الـمنظومة على موضوع العقيدة، والطّهارة، وفرائض الوضوء وسننه ونَواقِضه، والصلاة، وأحكام الـجُمُعة، والزّكاة، والصِّيام، والحجّ، ومبادئ التصوّف..، ولتوجُّهِها للعامة والأميين والبُسطاء والنّخبة على السّواء، وهذا ما أعلن عنه كاتِبها في مطالِعها قائلاً:

وبَــعْدُ فــالعَـوْنُ من اللهِ الـمجيدْ  **  في نَظْـــمٍ أبـْـــيـــاتٍ للأمِّـــي تُـــفيدْ

والنّاظم كَتَبها مُخلِصاً ولا شك، قاصداً بها وَجه الله وتعليمَ الناس، في (314) بَـيتاً من بَحْرِ الرّجَــز، مُوجِزاً تارةً ومفصِّلاً أخرى، وقائلاً للقارئ في شَكلِ اعتذار:

         ذا القَـدْرُ نَظْماً لا يَفِي بالغايَهْ   **  وفي الــذي ذَكــَرْتُــــهُ كِـــفايـهْ

          سَــمَّــــيْــتُهُ بـــالـمُرشِدِ الـمُعينِ  **  على الضُّروري من علومِ الدّينِ

        فَـأسأل النَّفع بها على الدّوامْ  **  مِن رَبِّنا بِـجاهِ سيِّدِ الأنـــامْ

إنّها منظومةٌ جَمَعَت الضَّروري من علوم الدين، ودلَّت على سَعةِ مَعارِفِ رَجُلٍ ظفِرَ بالعيش في زمن انتعاش الحركة العلمية وإشعاع المغرب السياسي والحضاري في الطور الأوّل من عمر الدولة السَّعدية، دعا فيها إلى التَّحَقُّق بالمعرفة في إيمان، والإيمان عن علم ومعرفة، وَشَنَّع على التقليد في التربية والتزكية وفي تَلقِّي العقيدة وأركان الإسلام.

وفاة العلّامة الأشْــهَر

توفِيَ الإمام الأكبر والعلّامة الأشهر سيدي عبد الواحد بن عاشر إلى رحمة اللهِ إثْـرَ مرَضٍ مفاجئ أَلَمَّ به، وذلكَ يوم الخميس3ذي الحجة 1040ه/ 3 يوليوز 1631م. ودُفِن بمُصلَّى باب الفتوح بمدينة فاس.

المراجع
[1] حكيم محمد بن عزوز، كَشّاف أسماء عائلات تِطوان 1483 - 1900، مطابع الشويخ، طبعة 1999.
[2] لحضيكي محمد بن أحمد، طبقات الـحُضيكي، تحقيق الباحث أحمد بومزكو، مطبعة النجاح الجديدة – الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2006.
[3] مجموعة مؤلفين، معلمة المغرب، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا، الطبعة الأولى 1989، ص: 5837-5838.
[4] ابن عاشر عبد الواحد، فتْـح المنان المروي بمورد الظمآن، دراسة وتحقيق عبد الكريم بوغزالة، منشورات دار ابن الحفصي للطباعة والنشر، طبعة 2015.
[5] مجموعة مؤلفين، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 5838
[6] بصير عبد المغيث مصطفى، الفقيه عبد الواحد بن عاشر 990 ه – 1040 ه؛ حياته وآثاره الفقهية، دار أبي رقراق للطباعة والنّشر، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الطبعة الأولى 2007. ص 7.
[7] ابن عاشر عبد الواحد، الـمُرشد الـمعين على الضروري من عُلوم الدين، مطبعة التقدم العلمية، مصر، الطبعة الأولى 1322 هجرية.