مسارات الدرس والتكوين

مِن أصولِ أسرة مُسلمة استقَــرَّت بمنطقة تَارْسْوَاط جنوب تافراوت (إقليم تزنيت) بمنطقة سوس؛ وُلِد محمد الـحُـضَيْكِي سنة 1118ه/1706م، وتَرعْرع وسْطَ أسرةٍ معروفة بالورع والتديُّن والصلاح. بُعِثَ بِهِ منذُ صِباه لتقِّي العِلم والتصوّف في زاوية الشيخ أحمد بن موسى في تازْرْوَالْت التي كانت مَنارةً علمية محتَرَمة في الأوساط الشعبية، وانتقل بَعدها إلى مِنطقة (أَقَّـا) للنّهل مِن مَعين علوم الشيخ أحمد الـكورِي الـمرابِطي الدّرعي، وعنه حِفظ القرآن الكريم. وحين شبَّ، اشْـتـدَّ حُبّه للعلم وولعُهُ بالفقه؛ فَشَدَّ الرحال إلى (ماسَّة) ليُعَزِّز رصيده الفقهي والتربوي على يدِ شيخِ المنطقة آنذاك، السيد أحمد الصَّـوابي.

جَال بَعْدَها مناطق سوس آخِذا العِلم مِن أفواه الرّجال، وقد مَكّنه تجوُّله المجالي هذا؛ مِن الإحاطة بطبيعة وتراث وتاريخ المنطقة، ومِن تنويع أوْعِية الأخذ ومصادِر التَّلقي الفِكري والمعرفي والفقهي. وانتقَلَ بَعد ذلكَ إلى مراكش، عاصمة العلم والتصوّف، تَلاها بزيارة إلى فاس حيثُ أجازَهُ علماءُها الـمُبرَّزون أمثال أحمد بن عبد القادر ومحمد بن قاسم جسّوس وعمر بن عبد الله الفاسي ومحمد البناني وأبو مَدين الفاسي خطيب جامع القرويين المتوفى سنة 1768م، ثمَّ نَزل في سلا، التي أجازَه فيها شيخُ شيوخها السيد أحمد بن عبد الله الدكالي الرباطي المتوفّى سنة 1765م.

الشاهد على الظروف العصيبة لعصره

عاصَرَ العَلَّامة الـحُضَيْكي شَطرا من عهد السلطان العلوي القوي مولاي إسماعيل، وعايش فترة الاضطراب والفوضى السياسية التي أعقَبت اختلاف أبناء السلطان إسماعيل العلوي وتقاتُلهم على الـمُلك، فضلا عن اجتياح الأوبئة والطواعين للبلاد، وفتكها بالعباد؛ غير أنَّ الأحوال السياسية المضطرِبة والاجتماعية الـمتزعزعة لـم تقِف حائلا أمام البـحّاثة الـحُضيكي عن تحصيل العلم واستِكمال مشوار البناء المعرفي والشرعي المتين.

مَدَّ الله في عُمره؛ فعاصَر مرحلة حُكم السّلطان الـعالِم محمد بن عبد الله، وما شهِدته من استقرار وتوطيد للحكم واستِتباب للأمن والأمان في منطقة سوس، مسقط رأس الشيخ الـحُـضيْكِي، استثمر الرجل تلك الأجواء إيجاباً، فكان له نشاطٌ تعليمي فعّال في منطقة (إيسّي)، وإنهاضٌ علمي وتربوي بالزاوية الناصرية وطريقتها، التي عاش ومات منتمِياً إليها، وإشاعةٌ لـمُناخٍ دينيٍّ ذا مسحةٍ صوفية كان له أكبر الأثر في تخريج عشرات الـمتـمدرسين والحفّاظ الـنُّـجَباء.

ورغم تفوّقه ونَجابته وقيامه بمهام التدريس وتخريج الـنُّخَب؛ إلّا أنه كانَ دائم الانْـتِـهَال مِن علم العلماء الـمعاصِرين له، فنراهُ مُلازماً لشيخه أحمد بن محمد الـعبّاسي مدّة أربع سنوات، تَلقّى عنه فيها كُتب “الجامع الصحيح”، و”الـتُّحفة”، و”عُـمدة الـموثِّق”، و”ألفية الـعراقي”. وقد ذَكر المؤرِّخ العباس بن إبراهيم السّملالي في الجزء الرابع مِن مُصَنَّــفِـهِ “الإعلام بِـمَن حلَّ بمراكش وأغمات مِن الأعلام”[1] أنَّ الحضَيكي تَلَقَّى العلم عن كثير مِن الشيوخ، وأجازه 18 شيخا من كبار علماء سوس. وخَصَّه العلّامة الـمختار السوسي[2] بترجمة وافية وإضاءات جديدة عن شخصه في الجزء الحادي عشر من مَوسوعته “المعسول”، وفي كتابه “رجالات العلم العربي في سوس” كذلك. فيما عدَّد لنا الباحث أحمد بومزكُو مِن شيوخِ وأساتذة الـعلّاَمة الحُضيكي الذينَ أخَذ عنهم مُباشَرة أو إجازةً؛ أربعين شيخاً عالِما، مِن المشرق والـمغرب..؛ مما أثرى تجربة العلَّامة الـحضيكي، وأناله اعترافاً بالتفوُّق والعلمي من لَدن تلامذته وساكنة سوس.

كانت للرَّجُل عناية خاصة بـجمْع الكتب، ونَسْخِ الفريدِ منها، والتعليق على مُعظَم ما يَقرأ، ووضْع تلك التعليقات والحواشي في تَقاييد جديدة تصيرُ مع الوقت “مُؤلَّفات” للشيخ. وقد خَصَّص الراحل المختار السّوسي في مُصنَّفِه الماتع “سوس العالِمة” حيِّزاً للتعريف بالمكتبة الضّخمة للحضَيكي ودورها في إثراء العلوم بسوس. وأَكَّدَ الباحثون على أنَّه لا تكاد تخلو خزانة سوسية مِن نُسخة عن كتاب “طَبقات الـحُـضَيكي”، ناهيك عن كُتبه الأخرى.

كما اختصَّ بالافتاء في بني قومه[3]، لـمكانته العلمية والاجتماعية فيهم، وأثَّر تأثيراً مبارَكاً في مسار الحركة العلمية بسوس العالمة، حتى أضحى مرجِعها الأعلى دون منازِع.

عَمِل في مَدرسته مُعلِّما للفقه والحديث والتفسير والمنطق وعلم التصوّف وتلقين الأوراد للتلاميذ الـمنضمِّين لحلقاته، من أبناء سوس ومِن خارِجِها.

مميزات وخصائص في شخصية الإمام الحضيكي

امتاز الشيخ الحُضَيْكِي بذاكرة قوية، فحفِظ عن ظهر قلبِ في أيام الطَّلبِ على مَشايخ سوس؛ الأجرومية لابن آجروم، والألفية، والرسالة للشّافعي، والتوضيح لابن هشام، ومقامات الحريري، وتُـحفة ابن عاصِم..؛ الأمر الذي شَجَّـعَه على الاستمرار في التعلُّم وتدشين مرحلة الكتابة والتّدوين..، فأقفَل عائداً إلى قريته في منطقة “إيسي” بالجنوب الشرقي لتافراوت، ومنها كانَ إشعاعه.

في العام 1739 واتَــته فرصة زيارة المشرق، من بوابة الحجّ، فحَجَّ بيتَ الله، وعَرَّج على علماء الوقت طيلة الـمدّة التي قَطعتْها رحلته الحجازية بَرّاً؛ ذهابا وجِـيئةً، وكان مُقامه في مصر، ومخالَطتُهُ علماء الأزهر الشريف مُدَّة سَنتين هي الأهمّ في مساره العـلمي، والمرحلة الثَّمينة التي جَوَّدَت ذِهنه وفكره وَوسَّعت مُـدْرَكاته الفهْمية والنَّظرية، وحبَّبت إليه الاختلاف والانفتاح.

وصَفَه تلميذه محمد بن عبد السلام الناصري (توفي 1824م) بــ”الفقيه النّـبيه العالِم.. فريد زمانه، وحامل لواء السُّنة في أوانِه”، فيما نَعَتَه الحسن البونعماني بأنّه “أحد أركان النّهضة العلمية التي أنجبت كثيرا من العلماء في القرن الثاني عشر الهجري، الثامن عشر الميلادي”، وقال فيه تلميذه محمد التّـسْكْـدلْـتِــي “الشيخ الإمام الذي بِـه أنارت بلاد سوس بالسَّهْلِ والنَّجْدِ”[4]، ومَدَحه سَعيد الشلح بأبيات، منها قوله مُعدِّداً مَواهِبَ الشيخ الـعلمية:

وبَرِعْتَ في علم الشريعة مِثلمــــا *** أصبحتَ في علم الحقيقةِ بارعُ

     فإذا وَعَظْتَ فأنتَ حُجَّةُ وَقتِنـــــا *** بُرهانُ سِرِّكِ للأباطِلِ قــــــاطِــــــعُ

   وإذا سُئِلتَ فأنتَ مالكُ عَصرنا *** ومَتى تُحدِّثُ بالحديث فَـنافِـــــــعُ

يا أيها الـحَبْرُ الذي بعلومــــــهِ *** في رَوضةِ الـعِرفانِ راعٍ وراـــــــعُ

دور الحُضيكي في تحقيق النهضة العلمية في سوس

لقد خَرَّجت مدرسة الإمام الـحُضيكي ما يناهز 97 مِن التلاميذ الـنبغاء، بَين عالِـمٍ وفقيهٍ ونَوازِلِـيٍّ ومتصوّف سالكٍ ولُغوي نِحْـرير ومؤرِّخ غَزيرٍ ومُدرِّس وأديب. تَوَزَّعُواْ على أقطار المغرب، ومنهم مَن غادر إلى الـمشرق، وكثيرٌ منهم فَقَدوا حياتهم بسبب وباء 1799م وتأثَّرت برحيلهم الـحياة العلمية والأنشطة الدعوية والـمجتمعية في البلاد.

وإلى جانب تخريج النخبة، وبَعْثِها في المناطق المجاورة؛ ساهمت غزارةُ علِم الرجل وتربيته الصوفية وصلاحه، بنصيبٍ وافِر في الإنتاج العلمي والتأليف، بحيث خلَّف لنا عَشرات المصنّفات النّفيسة؛ فَـفِي مجال العلوم النحوية له كتاب قيم، وفي العلوم الدِّينية له (21) كتابا، وفي مجال التراجم له (4) كُتب؛ أشهرُها “الطَّبقات أو المناقِب الـحُـضَيْكِية” وفيه ترجمة لــ823 شخصية مغربية علمية وصوفية وأخرى ذات تأثير كبير في عصرِها، وذلكَ منذ القرن الخامس الهجري وإلى غاية القرن الثاني عشر الهجري، من المغرب والأندلس ومصر وليبيا والسودان والحجاز والجزائر..، اعتباراً من علاقته ببعضهم، ومعاصرةَ بعضهم له، وسماعه عن آخرين، وهو عمل تأريخي وفكري جبّار ولا يقْدِر على إنجازه إلّا النبغاء الكبار[5]. وفي مجال الآداب خلَّفَ الشيخ الحضيكي كتابَين نفيسين، وأربعة كُتبٍ في ميادين متنوِّعة، منها تحقيقه لمخطوط في الطبّ، واختِصاره لمخطوط “القانون” لأبي علي الـيوسي رحمه الله.

ومِن أبرزِ أدواره الإصلاحية والاجتماعية في الجنوب؛ تَصدّيهِ للبِدع والجهالات والانحرافات الأخلاقية والـسلوكية، وإصلاحهِ لِذاتِ البَـيْنِ بين الـمتخاصِمين من القبائل، والسعي الدائم لإحلال السلام، وحَــثّه لمريديه وتلامذته على حَفْر الآبار ومَدِّ الأراضي بالمياه وتقديم الخدمات الاجتماعية للناس. فضْلاً عن استعمالهِ نفوذَه الروحي والتربوي في دعم مساعي السلطة للاستقرار واستتباب الأمن في المنطقة.

وبعدَ حياةٍ مِعطاءةٍ مُستقيمةٍ، انتقل العلّامة محمد بن أحمد الـحُـضَـيكي إلى رحمة الله يوم السبت 19 رجب 1189ه/ 15 شتنبر 1775م. وكان مما نعاه به تلامذته الـخُلَّص، قول أحدهم:

لِـتَـبْكهِ سوس الأدنى والأقصى بَعْدَها *** وما فيها مِن عَـجماء والحجَر الصَّـــــلْدِ

فكَم سُنَّةٍ أحْـــــياها بَعْد إمـــــــــــاتـةٍ *** وكَم ضَلالٍ أَطْفى بَعْدَ توقُـــــــــــــــــدِ

المراجع
[1] السملالي العباس بن إبراهيم: "الإعلام بمن حَلَّ مراكش وأغمات من الأعلام"، مراجعة وتدقيق المؤرخ عبد الوهاب بن منصور، المطبعة الملكية –الرباط، الطبعة الثانية 1993.
[2] "المعسول في الإلغيين وتلامذتهم وأصدقائهم"، الجزء 11، مطبعة النجاح – الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1963.
[3] الجشْتِيمي عبد الرحمن: "الـحُـضَيْكِيّون"، تقديم وتحقيق المجلس العلمي المحلي لإقليم تارودانت، مطبعة النجاح الجديدة – الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2010.
[4] المختار السوسي، "خلال جزولة" -  "سوس العالِمة" - "الرسالة البــونعمانية".
[5] الحضيكي محمد بن أحمد: "طبقات الـحُضيكي"، تحقيق الباحث أحمد بومزكو، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في التاريخ، مطبعة النجاح الجديدة – الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2006.