توطئة

عبد الحي بنيس فلتة في تاريخ التوثيق هذا الرجل العصامي الذي عمل بالبرلمان لزمن طويل استطاع أن يغني المكتبة المغربية من خلال كتاباته. إنه وبالنظر لوظيفته البسيطة “شاوش”  في نظر العديدين إلا أنه أثبت للجميع أنه رجل من طراز فريد آمن بقدراته وأرخ لمرحلة تاريخية. وتأتي هاته المقالة للتعريف ببعض منجز الرجل. ولعل من أهم كتبه كتاب “الحسن الثاني الذاكرة والتاريخ”.

وعبد الحي بنيس، موظف متقاعد شغل منصب عون خدمة، في البرلمان المغربي لنحو ستة وثلاثين عاما، فأصبح يلقب بذاكرة البرلمان. وإلى جانب خدمته الطويلة داخل المؤسسة التشريعية، تحول بنيس إلى أحد أشهر الكتاب والمؤلفين المغاربة. شغل بنيس منصب عون خدمة؛ أي “شاوش” بالعامية المغربية، لكنه شغل الناس بما حققه في مجال التأليف والتوثيق، وتحول إلى واحد من أشهر المؤلفين المغاربة.

ويلقب بذاكرة البرلمان المغربي، وتجاوز عدد مؤلفاته الستة والعشرين، تحكي كلها عن تفاصيل الحياة السياسية والإنسانية والأحداث التي جرت بالبرلمان المغربي منذ تأسيسه، سنة 1963.

عاش بنيس بسيطا، ولم يتمكن حتى من استكمال تعليمه الابتدائي، واشتغل طيلة مساره المهني “شاوشا” أي عون خدمة مكلف بنقل وتوزيع الوثائق والملفات، لكنه تحول بعد تقاعده إلى ذاكرة حية للبرلمان المغربي، من خلال مؤلفاته الغزيرة، لعل أهمها وأشهرها كتاب ”مذكرات شاوش بالبرلمان”.

وترجمت بعض كتبه إلى الفرنسية والإنجليزية، ويتم تسويقها بمكتبات عالمية بلندن، باريس، مدريد وغيرها. وبالرغم من مستواه الدراسي البسيط، إلا أنه تمكن من تأسيس مركز لحفظ ذاكرة البرلمان المغربي.

يقول عبد الحق المريني عن الكتاب “إن هذا المصنف، الذي ألفه العصامي السيد عبد الحي بنيس بعنوان الحسن الثاني الذاكرة والتاريخ”. يعتبر نافذة جديدة فتحت على المدرسة الحسنية ليطل منها القراء على فضائل هذه المدرسة ونعمها على الشعب المغربي وتعيشوا مع ذاكرتها أوقاتا سعيدة كما عايشها آباؤهم وأجدادهم في بيوتهم وحقول عملهم يهتدون بهديها ويتمسكون بفضائلها ويستضيئون بنورها”.(ص 4).

محتويات الكتاب

يشتمل الكتاب على جرد مدقق لكل خطب ورسائل وندوات وأحاديث وزيارات العاهل المغربي الراحل، وتحركاته في الداخل والخارج، منذ أن كان وليًا للعهد، إلى أن توفاه الله إلى رحمته، بعد فترة حكمه للمملكة، ما يجعل منه وثيقة مدعمة بأكثر من خمسمائة صورة تتعلق بمختلف مراحل عمره، انطلاقًا من طفولته، ومرورًا بسنوات شبابه، ووصولًا إلى رحيله، وفق تصنيف محدد يخص سائر المجالات. واعتمد في ذلك على أرشيفه الشخصي، الذي تراكم لديه منذ سنة 1977، والكتاب حسب مؤلفه يختلف عن المؤلفات الأخرى الصادرة حول الملك الراحل الحسن الثاني.

والهدف من وراء هذا الإصدار، الذي يأتي ضمن 670 صفحة، لم تكن الغاية منه تقييم عهد الحسن الثاني، أو وضعه تحت المجهر، نقدًا وتحليلًا، لأن هذه مهمة المؤرخين، بل إنه يسعى بكتابه هذا إلى تسهيل مهمة الباحثين بتمكينهم من كل المعطيات بأسلوب يسهل مأموريتهم في الوصول إلى غاياتهم.

إنه ومنذ 1977 تاريخ بداية احتكاكه بالوثائق استرعى انتباهه أن أغلبها له علاقة بجلالة الملك المرحوم الحسن الثاني؛ إما تحمل أقواله وخطبه ورسائله وكلماته مختلف المناسبات، أو تشير إلى نشاط أشرف عليه؛ ديني أو سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو ثقافي أو فني أو ترفيهي أو ديبلوماسي، إضافة إلى ما يرد في الوسائل السمعية البصرية من أخباره ولم يدر في خلده أبدا أن يجمع هذا النشاط الكبير والمتنوع في كتاب، اعتبارا منه أن مؤرخ المملكة ومؤسسات عديدة كفيلة بذلك العمل، لكن مع مرور الزمن تبين في أن جمع ذلك الكم الهائل من الخطب والرسائل والأحاديث الصحفية والإشارة إلى كنه كل نشاط قام به المرحوم الحسن الثاني، أن جمع ذلك كله في مجلدات لا يكفي، لأن الباحث أو المصنف إذا عزم على إنجاز عمل تحليلي أو عمل نوعي سيتيه وسط ركام من الكتب والمجلات والجرائد فسلسلة انبعاث أمة وحدها خصصت 16 مجلدا لهذا النشاط. أنداك اهتدى إلى تصنيف هذا العمل متوخيا فيه وضع مؤلف يسير الباحث على هديه لتحقيق هدفه بأسرع وقت. إذ عمد إلى وضع جداول مؤرخة لكل نوع من الأنشطة تاركا للباحث حرية الوصول إلى الخطاب أو النشاط كاملا في موضعه والوصول إلى هذا الموضع سهل ويسير (ص 5).

يعتبر المؤلف المرحوم الحسن الثاني فارس فن الخطابة الأول، منذ أن كان وليا للعهد إلى أن وافه الأجل المحتوم سنة 1999. وبالرجوع إلى ما خلفه، نقتصر هنا على ما يتعلق بخرجاته التواصلية.

وهكذا بلغ مجموع الخطب التي ألقاها 1106 خطابا وكلمات كانت خلال مناسبات مختلفة، غطت 38 سنة المدة التي قضاها على رأس عرش المملكة، والممتدة ما بين ثالث مارس 1961و23 يوليوز1999 تاريخ وفاته رحمه الله، منها نحو 150 ألقيت بالنيابة عنه، وبعث بالمقابل 979 من الرسائل.

وفى مقدمة خطب العاهل الراحل، تلك التي كان يلقيها خلال المناسبات الوطنية المرتبطة وفق أجندة معروفة وتوقيت محدد، منها على الخصوص خطب عيد العرش، وعيد الشباب، وذكرى ثورة الملك والشعب، وذكرى المسيرة الخضراء، وذكرى تأسيس القوات المسلحة الملكية، فضلا عن مناسبات ترؤسه لجلسات افتتاح دورات البرلمان، وموعد توجه المغاربة والوفد الرسمي والعسكري لأداء مناسك الحج.

كما تتضمن هذه الخطب تلك التي ألقاها المغفور له الحسن الثاني، وهو الملك السابع عشر من عهد الدولة العلوية الشريفة، أو بعثها في مناسبات وخلال أنشطة متعددة ومختلفة كالمؤتمرات والمناظرات والندوات واللقاءات الوطنية أو القارية أو الدولية على اختلاف مجالاتها سياسية و اقتصادية أو اجتماعية و غيرها من المواضيع.

كما تتعلق بتلك التي ألقاها العاهل الراحل الحسن الثاني أمام الملوك ورؤساء الدول في حفلات الاستقبال، أو أثناء استقباله لشخصيات وطنية أو أجنبية، أو في معرض جوابه على كلمات قيلت في حقه، أو عند تعيينه لأعضاء الحكومة، أو السفراء، أو كبار رجالات الدولة. أو عند ترؤسه للدروس الحسنية الرمضانية، أو بمناسبات وضع الحجر الأساس أو تدشين العديد من المشاريع خاصة منها السدود والمنشئات الصناعية والفلاحية والثقافية والاجتماعية وغيرها.

ففضلا عن مساهمته وهو وليا للعهد رفقة والده المغفور له محمد الخامس في تحرير المغرب من الاحتلال الفرنسي، كان الراحل معروفا بحنكته ودهائه السياسي منذ ريعان شبابه، فقد ذاق إلى جانب والده قساوة المنفى والإبعاد من طرف المستعمر إلى كل من كورسيكا ومدغشقر.

وخلال فترة حكمه أرسى المغفور له الحسن الثاني أحد عظماء العالم في القرن الماضي، دعائم الدولة المغربية الحديثة، وتمكنت المملكة، بفضل سياسته من تحقيق العديد من الانجازات من قبيل الوحدة الترابية، وتثبيت لبنات ودائم الدولة الحديثة، كما يرى عدد من الباحثين. كما خلف في المقابل إرثا دبلوماسيا..

وقد تم جرد وتصنيف الخطب والمحاضرات والكلمات التي ألقاها الحسن الثاني ابتداء من سنة 1941 إلى سنة 1961 قام ب 98 من نشاطا مختلفا، منها 62 خطابا ألقاه في مناسبات دينية وسياسية واجتماعية وأدبية ورياضية.

كما ألقى محاضرات بلغ عددها خمسة، عناوينها حول “الضمير الاجتماعي” و”وسائل العمل والإنتاج للقضاء على البطالة وتحقيق نهضة المغرب” و”الديمقراطية” و”تعبئة الشباب وبناء المغرب الجديد” و”التطلعات الوطنية والدولية لمغرب الاستقلال وشبابه”. وقدم تسعة تصاريح في اللقاءات والندوات الصحفية، زيادة على ذلك، ألقى نيابة عن والده المغفور له محمد الخامس، خطابا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في رابع أكتوبر 1960.

أما الزيارات الرسمية التي قام بها خارج تراب المملكة منذ اعتلائه العرش (67) مرة، كما أدلى ب 222 من التصاريح في اللقاءات والندوات الصحفية داخل وخارج المغرب لمختلف وسائل الإعلام الوطنية والدولية.

وألقى أربعة أحاديث دينية خلال سلسلة الدروس الحديثية لشهر رمضان في 25 دجنبر 1966، و16 دجنبر 1967، و4 دجنبر 1968، و17 غشت 1978. كما ألقى خطب وكلمات خلال ثمانية دروس دينية. وأمر بإقامة صلاة الاستسقاء في مجموع ربوع المملكة سبع مرات سنوات: 1984 مرتين، و1985، و1992 مرتين، و1995، و1998. كما أمر بالإمساك عن ذبح أضحية العيد للضرورة مرتين وذلك في 30 غشت 1984، و29 مارس 1996. وأصدر فتوى تبيح الإفطار في رمضان للعاملين في حملة محاربة الجراد في أبريل 1988.

ومن جهة أخرى، قام خلال فترة حكمه باستقبال أكثر من 500 مرة عددا من الملوك والأمراء ورؤساء الدول داخل المغرب، و115 مرة خارج المغرب. كما قام باستقبال عدد من رؤساء الحكومات الأجنبية داخل المغرب 110 من المرات و11 مرة خارج المغرب.

أما استقبال الأمناء العامين للمنظمات الدولية فكان عددها 87 داخل المغرب و6 مرات خارج المملكة. وكان نصيب استقبال شخصيات مختلفة من مختلف الآفاق كالعلماء والسياسيين والعسكريين ورجال الأعمال والأدباء والمفكرين والفنانين والرياضيين وغيرهم.

لم يكتف المغفور له الحسن الثاني بكل ذلك بل قام بتأليف عدد من الكتب من قبيل مؤلفات: “التحدي” الصادر سنة 1976 بست لغات: العربية، الفرنسية، الإنجليزية، التركية، الصينية، الإسبانية، و”ذاكرة ملك” سنة 1993 وطبع بالعربية والفرنسية والألمانية، و”عبقرية الاعتدال” و”الإسلام في مواجهة تحديات العصر” سنة 1995.

خاتمة

جاء في نهاية التوطئة: ردد الملك الراحل الحسن الثاني في إحدى حواراته عبارة ” الأسلوب هو الإنسان نفسه”، وهذه المقولة تنطبق عليه حرفيا، فخطبه وحواراته تكشف شخصيته فمن خلال  هذا الكتاب المعنون ب”الحسن الثاني الذاكرة والتاريخ” تسافر إلى تلك والحوارات الصحفية الكثيرة والمتنوعة التي قد تكون صادمة في بعضها مما جعله يتحدث بلغة قوية وجرأة نادرة، حيث أظهر عنادا تجاه معارضيه، لقد قرأت جميع رسائله وحواراته واخترت منها أكثر الجمل التي تعبر عن الخصية هذا الرجل جرأته وقوته في التعبير.

واليوم ونحن ننقب في مواقف وبطولات ومنجزات هذا الملك العظيم، فإن الشعب المغربي يشهد ويلمس جهود وارث سره جلالة الملك محمد السادس الذي وضع المغرب على سكة القرن الواحد والعشرين، مع ما يتطلبه ذلك من عصرنة وتحديث، عنوانها الأوراش الكبرى التي فتحها جلالته في ظرف وجيز والتي طالت جميع الميادين بدون استثناء ستكون موضوع تنقيبنا وبحثنا مستقبلا إن شاء الله (ص 9).