مقدمة

نِصفُ قرنٍ وسنواتٍ تفصِلُنا عن تاريخِ تَدمير مدينة أكادير الساحلية إثْرَ زِلزالٍ عظيمٍ فاجأها تمام الساعة (23.41) فهَدَّها هَدّا، وخَلَّف آلافَ القتلى وأودى بآخرينَ معطوبين ومنكوبين، وكانَت للحادِث الطَّبيعي انعِكاساتٌ على الديمغرافية والمجال بالمنطقة، وعلى الوضع السياسي للبلادِ، بحيثُ يُمكنِ عَدُّ زِلزال أكادير من جُمْلَة الأسباب التي كانَت وراء إسقاط حكومة الأستاذ عبد الله إبراهيم، إذْ شُهوراً قليلةً بعدَ ذلكَ؛ يوم 20 مايْ سيُنهِي الملك محمد الخامِس مدفوعاً بولِيِّ عَهدِه الأمير الحسن حكومة اليسار.

وقُروناً قَبْلَ ذلكَ؛ اهتَزَّت السواحل المغربية من سَبتة إلى الصويرة على إيقاعِ زلزال بَحري ضَرَبَ ساحِل العاصمة البُرتغالية يوم 31 أكتوبر 1755، كما ذكَرَ ذلكَ الضُّعيِّف الرباطي في الجزء الأوّل من “تاريخه”[1]، وأَورَدَته موسوعة “كرونولوجيا تاريخ المغرب من أقْدَم العصور إلى القرن العشرين” مُؤكِّدةً على وُقوعه في ذلكم التاريخ، ومُعِدَّة إياه “زِلزالاً عَظيما”.[2]

الصحافة شاهِدٌ على النَّكبة

كانُ يومُ 2 مارس 1960 الذي حَلَّ فيه السلطان محمد الخامس في أكادير لمعاينة الوضْع الأليم، وإطلاقه لنداء التَّضامن الأخوي والتآزر الإنساني مع أُسَر الضحايا والمصابين، يومَ التغطية الوطنية والعالَمية لِزلزال أكادير، وإنْ كانَ قد سَبَقَ ونُشِرَت قُصاصات عن الخبر يوم فاتح مارس.

الصحافة الدولية:

أوْلَت صُحفُ كثيرٍ من بُلدان أمريكا وأوربا والمملكة الـمتّحِدة والمغرب الكبير[3] عناية كبيرةً بالحدث، وبادَرَ مَبعوثوها بنَقْلِ مشاهِد الفاجِعة إلى الرأي العام العالمي والعربي. فكَتَبَت جريدةُ (ديلي سكيتش) البريطانية واصِفة المشهد: “كانت عَشرة ثوانٍ من جَهَنَّم عَصَفت بأكادير الجميلة”، وعنْوَنت جريدة (ديلي ووركر) صفحتها الرّئيسية قائلة: “مدينة تموت تحت الشَّمس الـمُشرِقة..، خمسة آلافٍ يموتون في عشرة ثوانٍ، هذه أهوال الزِّلزال الأكبر”. ومن أمريكا كَتَبَت جريدةُ (نيويورك هيرالد تريبيون) في افتتاحيتها: “في أطْلالِ أكادير تختلِطُ جُثَثُ الأفارقة والأوربيين والسواح والأهالي، إذْ لَقوا جميعاً حَتْفَهم في ذلكَ الميناء الجميل الـمُحاطِ بأشجار البُرتقال والنَّخيل”، وحَضَّت الضمير الإنساني على الـمُسارَعة لنجدَة الإنسانية الـمنكوبة جنوب المغرب. ونَقَلت صُحُف فرنسا صُوَر التدمير ومشاهِدِ الـجهود المبذولة لاستِخراجِ الضحايا من تحت الأنقاض، فكتَبَت جريدة (لورور) مقالاً بعنوان “أكادير الجميلة ستُبْنَى من جديد”، فيما علَّقَت جريدة (ليبيراسيون): “لقد انمَحَت نِهائيا من الخريطة الجغرافية أجمل مدينةٍ تقع على شاطئ إفريقيا الشمالية”. وأوْردَت صحيفة (فرانس سوار) تقريراً من سِتِّ صَفحاتٍ مرفوقٍ بصورة كُتِبَ أعلاها “لَـم يبقى لأكادير وُجود”، وعلَّقَ الصحفي باري جور: “لم يبقَ أثَرٌ لمدينة أكادير، ففي بِضع ثوانٍ انْمَحت أجمَل مدينة على أبواب الصحراء من خريطة العالم، آلافٌ من الموتى والجرحى. إنَّ المغرب في حُزْنٍ والعالم بأجمعه يُشارِكه حُزنَه”. وخَصَّصَت إذاعة (أوربا رقم1)  برنامجها لمساء 2 مارس للحديث عن منكوبِي الزلزال، وتلَقَّت اتِّصالاتٍ من أشخاصٍ معنويين وأطبّاء وممرِّضات ورجال أعمال أعْرَبوا عن رغبتهمِ في تقديم الـمُساعدَة والانتِقال للمغرب لدعمِ إخوانهم في الإنسانية، ووجّه راديو (لوكسمبورغ) نداء إلى الفرنسيين للتّوجه صوب أكادير إسعافا لمن تبقّى مِن الجالية الفرنسية هناك.

الصحافة المغاربية والوطنية:

كَتَبَت جريدة (العمل) التونسية قائلة “إنَّ فاجعة كُبرى أصابت المغرب، فقد حَطَّم الزلزال غالبية بنايات أكادير، وخلّف خسائر فادحة في الأرواح والعتاد. فعدد الجرحي نَـيَّفَ على الآلاف، وإنّنا سنواجه معاً هذه الكوارث بكلّ الإمكانات التي هي في مُستَطاعنا، ونرفع تعازينا إلى جميع عائلات الضّحايا، بل إلى جميع المغاربة ملِكا وحكومة وشعبا”. وفي العدد (4040) ليوم 5 مارس؛ صدَّرَت جريدة (العَلَم) المغربية واجِهة عددِها بعنوان “أكادير منطقة مُحَرَّمة؛ عدد الضحايا على وَجه التّقريب عشرة آلاف شخص”، متحدّثة عن الخطوات التي باشرها مولاي الحسن معية وزارة الصحة العمومية وفرق الإنقاذ ووحدات الجيش، كإخلاء المدينة من ساكنيها إلى خارج نطاق مداه 20 كلمترا، واستِئناف انتشال الجثث، وعقْد لقاء وزاري مساء نفس اليوم بحضور الملِك.

وبعد ثمانية أيام من الحادثة؛ عادت أكادير لتحتلَّ واجِهات كُبريات الصُّحف الأوربية. حيثُ نشَرَت جريدة (الفيكَارو) الفرنسية نداءً على صَدْرِ عددها ليوم 9 مارس 1960، فيما اختصَّ الرُّكن العِلمي لِجريدة (كومبا) في بَحْثِ الأسباب التقنية والعِلمية للكارثة، ودراسة الموقِع الجيولوجي لمدينة أكادير الواقعة في مناطِق حسَّاسة، مُطالِبةً السلطات المغربية بضرورة الأخذ بعين الاعتِبار كافّة المعطيات الـجيولوجية عندَ الشروع في تَشييدٍ جديدٍ للمدينة. وقد كان محمد الخامس قدَ أعلنَ يوم 2 مارس أنَّه عازِمٌ على جَعْلِ فاتِحِ مارس من العام 1961 يومَ التّدشين الجديد لأكادير الكبير مُصرِّحا بقوله “لئن حَكَمت الأقدار بِـخَـرابِ أكادير؛ فإنّ بناءَها موكول إلى إرادتنا وعزائمنا”.

تعازي وبرقيات.. تضامنات عابرة للقارات

ما إنْ تَداوَلت الصُّحف خَبَرَ زلزال أكادير، وما إن دوَّت صفّارات الإنذار في بعض الـمُدن؛ حتى تلَقَّفه الرأي العام الدولي والمحلي بالتعاطُفِ والقيام بالواجِب الرَّمزي والعملي، وإظهارِ مشاعِر الـمُواساة للمغرب والمغاربة. فقد تلقَّى الملك محمد الخامِس برقيات تَعزية من الأشقاء العرب والأفارقة والمسلمين تِباعاً، كــإبراهيم عبّود رئيس الحكومة السودانية، وأحمد سيكوتوري رئيس غينيا، وجَلال بيار رئيس الجمهورية التُّركية، وأحمدَ أحيحو رئيس حكومة الكامرون. ومِن مُمثِّل الجالية المغربية في دكار، ومِن طَرف زُهير خان ملِك أفغانستان، ومن رئيس الجالية الإسلامية بجُزُر الفلبّين، ومِن عاهل أندونيسيا أحمد سوكارنو، ومِن شاه إيراه رضا بهلوي. ومِن باقي سفُراء المغرب لدى الدول الأجنبية. كما أذاع راديو (صوت الجزائر) تعزية باسم الشّعب الجزائري إلى الشّعب المغربي ومَلِك البلاد والحكومة فيما أسماه “المصاب الجلل”، فيما فضَّل التونسيون بَعْث وفد رسمي مَثَّلَه عضْوَا المكتب المركزي للتعاون الوطني اللّذان قدّما تعازي الرئيس الحبيب بورقيبة، وزار عضوان من الحزب الدّستوري التونسي قادة حزب الاستقلال للتّعبير عن التعاطف والوعدِ بتقديم ما في الوسع ماديا ولوجيستيا ومعنويا للمغرب. كما وَرَدَت برقيات تعزية مِن نَقابة عمّال الفوسفاط بخريبكة، وأخرى من المكتب المحلّي للشبيبة الصِّناعية بمكناس، وبرقية من النقابة الحرّة بالدار البيضاء، وأخرى من جمعية المدرّسين الآسفِيين إلى ولي العهد عبّروا فيها عن “وضْع أنفسهم رهن إشارة الواجب الوطني”. في حين عمَّم الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بلاغاً يُنهِي فيه إلى عموم الطلاب التوافد على مقرّ الاتحاد لإسعاف ومساعدة المنكوبين الوافِدين على العاصمة..

ومِن دُول العالم؛ وَفَدت على المغرب برقيات وتعازي مِن أُولَافْ ملك النّرويج، وعاهل الحبشة هيلا سيلاسي، ومِن خوسي ماريا بِنتو رئيس جمهورية سلفادور، ومِن رئيس المجلس الوطني الفرنسي شابان دالماس، ومن الصِّين وجَّه رئيس الصليب الأحمر ليشوان برقية تعزية للأميرة مليكة، ومِن ممثّل اتحاد الطلبة الإسبانيين، وجهاتٌ أخرى من مُنظّمات إغاثية وطِبية.

تآزُر إنساني ومبادرات

تَجاوَزت أشكال التعبير عن التَّضامن مع المغرب في محنته ما هو معنوي، إلى التضامن بالأيادي والأموال والمعدّات المدنية والعسكرية والتّطبيبية والإيواء وغيرها مما نقَلَتْه لنا صحافة الوقت، صور طافِحة بالإنسانية ومعاني التّلاحُم بين الشعوب، ولا سيَما منها المغاربية والعربية، التي كانت وشائجُ زَمن الكفاح من أجل التحرير ما تَزال قوِيةً، ودِماء الأخُوة تَسري في أوصالِ القادة والأحزاب السياسية والمسؤولين. ورغم أنَّ المغرب كان حديث عهْدٍ بنيل الاستقلال؛ إلاَّ أنَّ الـمُستَعْمِرَين السابِقين وباقي دُول العالم تعاطَتْ مع المغرب في نازِلتهِ العصيبَة بما يليقُ به من إعظامٍ واستِقلالية وسيادةٍ ومُناصَرَةٍ.

إنَّ تِعْدادَ أوجُه الدَّعم والـمُسانَدَة للمغرب ولمدينة أكادير سنة 1960 يَعِزُّ عن الحصْر، من شَهادات الناس ومذكِّرات الزعماء السياسيين وصُحُفِ العالَم وأرشيفِ الشخصيات الاعتِبارية وغيرها مما يُمكِن أن تُجْرَدَ منه ملامِح مَلْحَمة التّلاحم في عِزَّ وطْأة الحدث العظيم، إلّا أنَّنا نتوقَّفُ هنا عندَ تِلك التي رَصَدْتها عَيْنُ الصَّحافة الوطنية، أو تناقَلَتها من صُحُفٍ أجنبية عن طريقِ تعْرِيبها أو إيرادِها بلُغتها، وساهمت في جَعْل الذاكرة الراهنة للأجيال في قَلْبِ الحدث؛ الذي لم يُعايِشوه.

المبادرات المدنية:

كانتْ جُهودُ المدنيين من مُنظمات وجمعيات وأحزاب ونقابات واتِّحاداتٍ وشركات خاصّة في الطَّليعة، واختلَفَت مبادَراتها لتقديم العَون، إلا أنَّها اشترَكَت في منَزعِ الإنسانية والبَذْلِ ساعَة الحاجة.

ففي ألمانا وجَّهت (الجمعية الألمانية للطَّلبة ضدّ التسلُّح الذرِّي) خِطاباً إلى الأمين العام للأمم المتِّحِدة همر شيولد تطلُبُ فيه فَتْحَ تحقيقٍ لتحديدِ ما إذا كان زِلزال أكادير قد تَسَبَّبَت فيهِ التجربة الذّرية التي أجْرَتها فرنسا على تُراب صحراء المغرب. وقد كانَت فرنسا قد فجَّرت قُنبلتها الذَّرية أسابيعَ قَبلَ ذلكَ، قُوبِلَ الفِعْل باحتِجاجاتٍ عاصِفة وإضرابات دعا لها وقادها حِزب الاستِقلال، وواكَبَ مُعظَم الفعّاليات المغربية والإفريقية المناهِضة للتجربة جَريدةُ (العلم) في يومياتها. ويوم 3 مارس وَضَعت (العصبة الدولية للصليب الأحمر) مُعدّاتها رهن إشارة مندوبها في المغرب ماكسن ديماري وطالَـبَـتْهُ بالتّـنسيق مع الهلال الأحمر المغربي و”تحريرِ تحقيقِ حول الحاجيات الـمستعجَلَة”. وأرسَل (الهلال الأحمر النّرويجي) شُحنة من الأغطية والإعانات وطالَب أفراده بالتدخّل في عمليات الإنقاذ، وزاد على ذلك نَقْلَ (125) من الحَرَس البَلَدِي و(350) طُنّا من الماء العَذْبَ إلى أكادير على مَتْنِ باخِرة اكْتراها لهذا الغرض. كما سَلَّم (الصّليب الأحمر الفِنلندي) مبلغ إحدى عشر مليون فرنك للمغرب، ووهبَ (الصليب الأحمر الهولندي) (1.200) كلغرام من عُلب البلاستيك الدّموية، ومساعدات أخرى وصَلَت من الهلال الأحمر السّوفيتي. ومن لشبونة؛ تَبَرَّعَت مؤسّسة (كِيل بِنْكْيان) بمبلغ مائتي ألف سكودو،كما اقْتَـرَحَت (الحركة البرتغالية للشّبيبة) على اليونيسكو إنشاء مخيّم دولي للشّباب بالمحاذاة من أكادير كي يساعِدوا في إعادة بناء المدينة، وهو المقترح الذي عُرِض للمصادقة في مؤتمر يوغوسلافيا نهاية مارس 1960. وافتتَحَت صحيفةُ (أسطومبوسطن) النرويجية يوم 9 مارس اكتِتاباً عامّاً للتبرُّع لفائدة منكوبي الزّلزال، وكانت جمعية الطَّلبة النرويجيين أوَّل المساهِمين. وتَبَرَّعَ مُواطن أمريكي بما قيمته مليونيين وخمسمائة ألف فرنك لجرحى أكادير.

المبادرات الرسمية:

ومِن أشكال التَّضامن التي عبَّرت عنها الدَّول وحكوماتها والـملوك والقادة العَرب والغَربيين والأفارقة؛ نذكر:

إقدام (مجلس الحكومة البلجيكي) على مَنْحِ 100 مليون فرنك للمغرب وطائرتين محمّلتين بالأدوية والأغطية، وقيمة مالية بَلغت أربعين ألفا أسداها ملك بلجيكا ليوبولد وحَرمه. وحُلول طائرة كَندية بمطار أكادير على متنها أطباء وممرّضون وثلاثة أطنان من الأدوية وعشرون ألف دولار هدية من حكومة بلادها. كما أنْشَأت ألمانيا الشرقية منذُ 2 مارس قَنْطَرَة جوية بين فرانكفورت وأكادير لنَقْلِ المعِدّات لرفْعِ الأنقاض ونَشْلِ الجُثث. ومن ألمانيا الغربية وصَلت طائرة الجيش الجوّي حاملة شحنات من اللقاحات، وسِرْبًا من الطيران لنقل المصابين فيما بين أكادير والدار البيضاء. ويوم 5 مارس بَعَثَت الولايات المتّحدة الأمريكية بخمسة آلاف طنٍّ من القمح وخمسين طنّا من الحليب ومائتين من الجنود وفرقة من المهندسين للإغاثة في أكادير، وحَلّ سفير واشنطن لدى المغرب شارل يوستْ في أكادير للوقوف على ما ينبغي عملُه. كذلك؛ توصّل المغرب بسبعة أطنان من الحليب من (المملكة المتحدة)، وبمبلغ عشرة آلاف دولار من (حكومة الفيتنام). وأوقَفَ سِلاح الجوّ الإسباني طائراته لخِدمة ونَقْلِ أفراد القوّات المسلَّحة المغربية من مطار طنجة إلى أكادير، واحتَضَنَت مُسْـتَـشـفيات مارسيليا حوالي (225) مِن منكوبي الزّلزال. وأهْدَى البابا يوحنّا الثالث والعشرين خمسة آلاف دولار لعلاج المصابين.

ومن إفريقيا والعلم العربي؛ توصَّل المغرب بمنحة حكومية من (لبنان) قيمتها مائتي ألف جنيه وفريق طبِّي، وأرسلت (القاهرة) سبعين مليون فرنك وكمّيات مِن الأدوية ومجموعة مِن الأطبّاء، كَمَا أقْلَعَت باخرة محمَّلَة بمختلف أنواع المساعدات مِن ميناء الإسكندرية صباح 4 مارس. ووافَت جمهورية (غانا) حكومة المغرب بمبلغ مقداره (25.000) دولار، ووفَدَت طائرة تونسية محمَّلة بالخيام يوم 8 مارس إلى أكادير. وفي (عمّان) دعا الملك حسين إلى اكتتاب وطني كان أوّلَ المساهمين فيه. ومِن (بَغداد) أعطى الجنرال عبد الكريم قاسم أوامره بإيفادِ خمسة وسبعين مليون فرنك مع هيئة الأطباء العراقيين إلى أكادير. ووفي الرياض تبرّع الملك سعود بما مقدراه مائة وخمسين مليون فرنك للمغرب.

التّفكير اجتِماعيا.. ملحمة التضامن الشعبي بين المغاربة

كَان للكارثة وقْعُها الـمُؤْلِمِ على المغاربة من مختلِف الشرائح، رَصَّت صفوفهم متّحِدين في ميدان العمل والمبادرة، لتضميد الجراح وإيواء الأيتام ووهْبِ الدَّمِ والتضرُّع لله بالدعوات والصَّلوات، لأنّ “فاجِعة أكادير أحدَثَت انقلاباً في التفكير العام، التفكير العميق لإصلاح أحوالنا في ديننا ودنيانا” كما كتب الصحفي الزهراوي في جريدة (العلم)، عدد 6 مارس 1960.

رغم إقدام السلطات المغربية على وضْعِ أكادير تحت الحـجر الصحي الإلزامي 40 يوماً؛ إلّا أنّ البلاد تداعت بـمُدُنِها وقُراها لمواساة أكادير، وأداء الواجب الإنساني والدّيني والوطني، والتعبير عن معدِن المغارِبة الأصيل، وتضامنهم النبيل. وفي ظلّ افتقار الشَّعب لوسائل التواصل والاطلاع آنذاك؛ لعِـبَت جريدة (العَلَم) وبعض الجرائد الناطقة بالفرنسية في المغرب، على إيصال حقيقةِ الحدث يوما بيوم. فقد تلقَّت ونَشَرَت بيانات وقُصاصات وتغطيات صحفية لفعاليات ومبادرات وطنية ومحلية، وواكَبَت دينامية الفِعل الحِزبي والحكومي والـمَلَكي في أعقاب الزلزال. ويمكن أنْ نُعدِّد مِن مظاهِر التضامن المجتمعي لمحاتٍ نُجمِلها في الآتي:

جمَعت مدينة طنجة على مَدارِ الأسبوع الأوّلِ للنَّكبة أربعةَ عشر مليونَ فْرَنكٍ. وفي تطوان أُقْفِلَت المتاجِر وصُلِّيتْ صلاة الغائب بمعظم المساجد يوم 5 مارس ووفَدَت على بَيتِ العامِل (الحركة النسوية) و(الاتّحاد النّسائي) وبعض منظّمات (الشبيبة الاستقلالية) مُعزِّيةً ومُستجيبة للنداء الوطني، ونُصِبَت منذُ 6 مارس خِيامٌ في أحياء متفرِّقة من المدينة لجمع التّبرعات، كما قَرَّرت شركات النقل العمومي بالمدينة التبرّع بِدَخْلِ يوم واحد لفائدة منكوبي أكادير، ناهيك عن المعونات التي تَكفّل بجمعها المجلس البلدي وحَرَم قُنصل إسبانيا ووالِدة السيد الطيب بنونة وعدد من الشخصيات. وافتَـتَح عامِل الدّار البيضاء مَكاتب في كلّ مُقاطعات المدينة لاستِقبال مساهمات المواطنين. وفي آسفي انضمَّ مدراء مؤسّسات التعليم المغربية والحرّة والإسرائيلية والأوربية في جمعية ركَّزت جهودها على إيواء المنكوبين وتوزيعهم على العائلات في المدينة. وأَفْرَغت (مؤسسة محمد الخامس لإنقاذ الضَّرير) بمدينة فاس دارا لإيواء المنكوبين، وأَسَّسَت لجنة كفالة أبناء شُهداء الاستِقلال مركزاً لإيواء 20 طِفْلاً مَمَّن نُكِّبوا في فاجعة أكادير، وأبْلَغَت الحكومةَ عَزْمَ المؤسَّسة إيواء المكفوفين الناجين من الحادثة. وفي مدينة الصويرة فَتَحت البلدية باب تسجيل المتطوِّعين بين سِنّ 20 و30 للتوجُّه إلى أكادير بهَدَفِ الإسهامِ في رَفْعِ الأنقاض. فيما أعلنت عِدة أُسَر مغربية بمكناس وفاس وطنجة والرباط والدار البيضاء عن رغبتها في إيواء المنكوبين وتبنِّي اليتامى، كما بادَرت محلِّيات حزب الاستقلال ومناضليه نساءً ورجالاً بنَشْرِ عناوين منازلهم في الصُّحف، مُبْدِينَ استِعدادهم لإيواء الأطفال الأكاديريين المنكوبين، وقد نشَرت جريدة (العَلم) قائمة ضمّت (42) اسما، (36) من إجمالي اللائحة نسوة. ومِن مراكش كَــتَبَ مُراسِل (العَلم) يوم 8 مارس: “بَعْد النكبة الأليمة التي تعرَّضَت لها مدينة أكادير انْعَقَدَت اجتِماعات تحت إشراف الباشا بالقصر البلدي، وبحضور ممثّلين عن الشبيبة والرياضة والاتحاد الوطني لطلبة المغرب والهلال الأحمر والأحزاب السياسية واتّحاد الفِلاحة والشَّــغَّالين والصُّـنّاع؛ وانتُخِب الدكتور برّادة رئيساً للجنة المركزية، وقد اتَّصَلَ بمكتب اتحاد الطَّلَبَة أربعون عائلة كُلُّها على استِعداد لَـتَبَنِّي الأطفال وتَربِيتهم”، كما استَقْبَلت مُستشفيات مراكش عددا من الـمُصابِين، ولِتحقيقِ انخراطٍ أوْسَع للطلبة في علميات التضامن الوطني؛ مَنَح رئيس الجامعة المغربية محمد الفاسي عُطْلَةً لجامعات الرباط والدار البيضاء إلى غاية الإثنين 7 مارس. كان للطلبة دور فعّال أثناء النكبة؛ إذْ بادر (الاتحاد الوطني لطلبة المغرب) إلى التّطوّع بمناضليه وجَنَّد الطّلبة لجمْعِ الإعانات المالية وتهييء قاعاتٍ لاستقبال الـمُصابين، كما تَوَزَّعت أعداد أخرى مِن الطُّلاب على مُستشفيات الرباط وسلا والدار البيضاء لمساعدة الطّواقم الطبية. وبِدورهم؛ شارك تلاميذ وتلميذات (مجموعة مدارس محمد الخامس) بالرباط في تقديم التبرعات المادية. ومِن الإسهام ذي الطابع الفنِّي – الثّقافي؛ إحياءُ فِرقة مسرحيةٍ فرنسية عَرْضًا مسرحياً بالعاصمة تونس يوم 10 مَارس خُصِّصَت مداخيله لفائدة مَرْضَى ومُصَابِي الزلزال، كما سُلِّمَت مداخيل حَفلة مسرحية أخرى نَظَّمها فَرنسيونَ لِسفير المغرب كيْ يُقدِّمها عَوْناً لسُلطات بِلادِهِ. كما أوْقَفَت الـمُطرِبة المصرية أمُّ كلثوم مداخيل عدد من حفلاتها لضحايا الزلزال بما قيمته (330) مليون سنتيم، في حين أَعْلَنَ المركز السِّينمائي المغربي الزيادة في أثمنة التذاكر ليوم 4 مارس وإلى غاية منه في جميع دُور السينما، على أنْ يُـخَصَّص مَبلغ الزِّيادات لفائدة منكوبي الزلزال. وفي المجال الرِّياضي؛ عمِل الكاتب العام للجامعة الملكية المغربية لكُرة القدَم على إقناع بعض الأندية في إسبانيا وفرنسا لتنظيم مباريات ودية، فتمَّ تنظيم مباراة بين إشبيلية والجيش الملكي يوم 22 مارس، وأخرى بَين نِيم والقوات المسلحة الملكية وثالِثة بين الراسينك وأتلاتيكو بيلباو، خُصِّصَ ريعها لفائدة المصابين والمنكوبين. وفي المجال المهني-النقابي؛ تنازَل عمّال النقابات الحرة عَن أجرة يوم واحد لفائدة منكوبي أكادير. وخَصّصت الطائفة العِبرية يوم الأحد من الأسبوع الأوّل للزلزال؛ للصلوات بجميعِ بِيَع المملكة المغربية، ترحُّمًا على أرواح الشهداء. كما طالَبت الطائفةُ التجارَ اليهود التوقُّف عن مزاولة التجارة والمساهمة في “يوم الحزن الوطني”. وعُمِّمت قراءة اللَّطيف في المساجِد وإقامة صلوات الغائب ترحُّما على أرواح الضّحايا، وخُصِّصَت خُطب في معظم حواضر المملكة لحثّ الناس على الرجوع لطريق الله المستقيم وأخْذِ العبرة ممّا نَزل بإخوتهم المغاربة في أكادير. وتطوَّعَ مئات الأفراد من منطقة سوس ومن رجال القوات المساعِدة وقدماء المقاومين وجيش التحرير في عمليات نَشْلِ الـجُثَثِ ونقْلِ المصابين، إلى أنْ صدر قرار تطويق المدينة ومنع الـمَـدنيين من المبادرة في الإنقاذ، نَظرا لارتِفاع دَرَجة الحرارة وتعفُّن الجثث بما أدّى لمخاطِر انتشار وَبائَيْ “التّـيفوئيد” و”التِّـيفوس”. وتَمَّ فَرْض ضريبة التضامن الوطني وكان التجاوب المغربي معها واسعا ومشهودا.

ومن خلال العبارات التي وَصَفَت بها الجرائد الوطنية زلزال أكادير “المصيبة العُظمى”، “النكبة الـكُبرى”، “الكارثة الوطنية”، “الفاجعة الأليمة”، “الطّامة الـكبرى”..؛ نلمس _ ومن خلال الصور التي ما يزال يدخر بها الأرشيف _ طبيعة وآثار الزلزال الذي حوّل المدينة إلى “شهيدة” تُبْكِي مَن شاهَدَ أخبارها وطالع أحوالَ ناجيها.

المراجع
[1] الرباطي الضّعيّف: "تاريخ الدولة السعيدة"، تحقيق أحمد العماري، ط 1، 1986
[2] القبلي محمد: "كرونولوجيا تاريخ المغرب من عصور ما قبل التاريخ إلى القرن العشرين"، ط 1، 2012.
[3] أعداد جريدة "العَــلَم" الصادرة منذ فاتح مارس لسنة 1960، والمودَعة بمصلحة الأرشيف والصُّحف، بالمكتبة العامة  والمحفوظات بمدينة تطوان.
[4] القبلي محمد (تنسيق): "تاريخ المغرب؛ تحيين وتركيب"، ط 1، 2012.
[5] الفاسي علال: "النقد الذاتي"، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التّحرير، ط 9، 2010.