توطئة

يتقاطع التاريخ والذاكرة الفردية في كون الأول من صُنْع الثاني، وما تُدركه الذات الإنسانية أنَّ الفرد من ضمن الجماعة ومعها يَصنع التاريخ بشكل أو بآخر، ويُخلِّد شهادته، ويُدلي بوثائق ومُستندات، وصور وأرشيفات، تُساعِد في صيانة الذاكرة التاريخية وحِفظ الحقوق الشرعية والقديمة لموضوع ما، أو لقضية مَثار حساسية كملف الصّحراء المغربية[1].

فالإنسان ذو أبعاد متعددة، له قُدرة على تغطية الماضي والحاضر والإسهام في المستقبل، ولاشك أنَّ العقول كذلك ليست على نمط واحد، لكن ما سجّله المؤرِّخون والعلماء والمفكِّرون هو أنَّ الفرد له ذاكرته الفردية في التعاطي مع الزمن والأحداث والسيرورة التاريخية، إلّا أنه فرد لا يمكنه أن يُفيدَ بذاكرته فقط، بل يلزمه ضَمُّ شهاداته وإضاءاته ومخزون ذاكرته إلى ذاكرة الجماعة، وقد أجاد في ذلك المؤرّخ الفرنسي جاك لوكوف الذي ينتمي لمدرسة الحوليات الشهيرة[2] وصاحِب دراسات بَـحثت في العلاقة بين التاريخ والذاكرة.

القضية الوطنية في نماذج من المذكرات الفردية

إنّ تناوُل موضوع قضية أقاليمنا الجنوبية ونضال المغرب من أجل استكمال الوحدة الترابية من خلال استرجاع شهادات وكتابات لبعض الرموز التي امتلأت حُبّاً وتقديراً للأقاليم الجنوبية ولثقافة الصحراء ووفَّت بحقِّ مقاوميها وعلمائها وشعرائها وحركاتها الصوفية الـمجاهِدة؛ يُطلِعنا على مَدى التّعبئة الهامة للعمل الوطني الوحدوي، في ميدان المقاومة والسياسة والتعليم، والترافع المدني-الدبلوماسي والتأليف. وبالنظر إلى دينامية الشهادات الفردية والجماعية التي أضْحت تُطبَع وتُنْشَر على أوسع نطاق في السنوات الأخيرة، فإننا لن نكون مَعنيين باستحضارها باللغتين العربية والفرنسية أو وِفق مسار تاريخي منذ بدء صدور أُولى المذكرات وإلى غاية عامنا هذا؛ وإنما سنقتصر على نماذج اخترناها على علم وعناية، لتكون مادة وصْفية أوَلية بين يدي القراء.

ذاكرة العبادلة بن الأغضف

تجربة آل ماء العينين في خدمة الوحدة الترابية والدفاع عنها بالمال والنفس غنية عن التعريف، والشّهادات التي قِيلت في حقِّ الأبناء البَرَرة للشيخ الأغضف (العبادلة ولاراباس وغيرهما)، مُعرِّفة بدورهم في مناصرة القضية الوطنية، بما كان لهم من دور دبلوماسي- تَرافُعي مُفيد للقضية الوطنية مُتدَاوَلة في أكثر من كتاب وعلى أكثر من لِسان.

نستدعي في هذا السياق ذاكرة الأستاذ والمحامي والمثقف العصامي العبادلة بن الشيخ الأغضف رحمه الله (1926-1976)، الذي شارك في دورة الأمم المتّحدة فيما بين شتنبر – دجنبر من العام 1966، عضوا ضِمن الوفدِ الـمُبتَعَثِ من قِبَلِ وزارة الدولة الـمُكلَّفة بموريتانيا والصّحراء _ التي كان يرأسها آنذاك الأمير الحسن بن إدريس العلوي _ ، فآتَت مداخلاته أمام اللجنة الرابعة المكلّفة بتصفية الاستعمار في الأمم المتحدة أُكْلَها، وسَرَّعَت بإرجاع سيدي إفني إلى السيادة المغربية. كما وَظَّف مخزونه من إتقان اللغة الإسبانية، مع ما وهبه الله من فصاحة اللّسان العربي، وصِدْق اللهجة؛ في الدفاع عن مغربية الصحراء، ومحاوَرة الاحتلال الإسباني وممثِّلي الدّول في هيئة الأمم المتحدة، وفي تأطير الـمواطِنين على معرفة الجوانب التاريخية والشّرعية والقانونية للصحراء المغربية. وتَوَّج هذا الجهد الحقوقي والعلمي والنضالي؛ بالإسهام في التعبئة والتحضير للمسيرة الـخضراء الـمُظَفَّرة سنة 1975، التي شاركَ فيها مُبتَهِجا بتحقيق بعضِ أحلامه وآماله في مغرب وحدوي مُستقِل من سبتة إلى الكويرة.

ومن أدواره البارزة التي خلدتها الشهادات الفردية والجماعية في حقه؛ نذكُر مساهمتَه المباشِرة في تدبير وإنجاح المؤتمر الهام الذي تَرَأَّسَهُ ولي العهد آنذاك الحسن الثاني، والمعروف بمؤتمر بوخْشـيبة[3] سنة 1958، ودوره البارِز في رأب الصّدع وتقريب وجهات النّظر بين قادة جيش تحرير الجنوب وأعضائه غَداة الإعلان عن حَلّ جيش التحرير وإلحاق أعضاءه بالقوات المسلّحة الـملكية. وسَعْيُه الـمتواصِل مُذْ عادَ مِن الرباط حامِلاً ظَهيراً سُلطانيا يَقضي بتعيينه مُشرفا تَربويا على كل التعليم الـحُرّ في الصحراء؛ فبادَر بنشاطٍ وهِمّةٍ بإنشاء “مدرسة محمد الخامس الحرة” في مدينة العيون، وأشرَف على مئات التلاميذ، ودَعَا الـمعلِّمين وشيوخ القبائل إلى التعاون على تعليم الأطفال الصحراويين.

ذاكرة المفكّر محمد عابد الجابري

ومما تُخبرنا به الشّهادات والذاكرات الفردية عن مسار القضية الوطنية وصولاً للحظة المسيرة الخضراء؛ ما أوْرَدَهُ المثقَّف السياسي الراحل محمد عابد الجابِري (تــ 2010) في “مذكّراته السياسية والثَّقافية” من أنَّ حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بقيادة الزعيم الوطني عبد الرّحيم بوعبيد نظَّم وقادَ مسيرة شعبية سلمية حاشِدة في مدينة أكادير للمطَالبة بجلاء الاستعمار الاسباني واستِرجاع الصحراء الغربية؛ الأمر الذي شكَّلَ فُرصة استِثنائية اسْتَثْمَرها الحسن الثاني (تــ 1999) وطوَّر الفِكرة في اتجاه تنظيم مسيرة خضراء رائدة.

وفي ذات السياق؛ ذَكر الراحل (الجابري) في الفُصول (29 – 37) من الجزء الثالث من كتابه “في غمار السياسية؛ فِكراً وممارسةً”[4]، أنَّ فِكرة عَرض قضية الصّحراء على أنظار محكمة العدل الدّولية كانت مِن بنات أفكار الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد، التي وافَقه عليها الملك الراحل، وأحال الملف على قُضاة محكمة لاهاي، واستثمَر وقْتَ التوصُّل بالجواب في التحشيد والتعبئة الداخلية والخارجية لحَدَث المسيرة الخضراء الشّعبية.

ذاكرة الملك الحسن الثاني

يحتفِظ لنا كتاب ذاكرة مَـلِك بمعطيات ذات قيمة تاريخية هامة جدا، عن تدبير الدولة والحسن الثاني للمسيرة الخضراء، وخبايا التواطؤات والمناوشات التي كانت تتعرض لها وحدتنا الترابية من لَدن نظام القذّافي وميليشيات البوليساريو، كما نتعرَّف عن مكانة المسيرة الخضراء وفكرتها ومصيرها في عَقْل ونفسية الملك الراحل.

يستحضر الملك مسألة النزاع الترابي منذ مَطالع سنة 1963، وما تلاها من حرب مع الجارة الجزائر، ثم المناوشات التي كابَدها المغرب في الجنوب الشرقي وفي المنطقة الغربية، حاول معها تجنّب التصعيد أو جَر المنطقة إلى حرب مدمِّرة، لإيمانه ويَقينه في الحقوق التاريخية والشرعية للمغرب في أقاليمه الصحراوية، معبّرا عن هذه القناعة بقوله “اعتقدتُ دائماً أنه ليست لي أية مصلحة في أن يُصاب جيراني بالحمى، كما أنه ليس من مصلحتهم أن يُصابَ المغرب بمرض”[5]، فأبان بذلك عن نبوغ سياسي في تدبير إشكال خطير ما يزال يُعَد من أعقد القضايا الخلافية في القارة الإفريقية.

ذاكرة جريدتَيْ العَلَم الاستقلالية والمحرِّر الاشتراكية

ويمكن العودة كذلك إلى أرشيف جريدة (العَلم) لسنوات: 1953 – 2016، وجريدة (المحرّر) لسنوات: 1963 – 1976 المتوفرة نُسخهما في قسم الأرشيفات بالمكتبة العامة والـمحفوظات بمدينة تطوان، وبخزانات المغرب الأخرى.

وهذه الذاكرة الصحفية الوطنية تُشكِّل “ذاكرة فردية وجماعية” ذات قيمة تاريخية عالية؛ تساعد الباحثين والإعلاميين والـجَمعويين والناشئة في تشكيل صورة واضحة عن وقائع قضيتنا الوطنية زمنئذٍ، وتُغذّي فينا روح الاستمرارية في البحث والفهم والاستيعاب العلمي والحقوقي والسياسي والثقافي للقضية الوطنية.

ذاكرة تأليفية أخرى.. غنية ومتعددة

ويمكن العودة إلى أكثَر مِن مرجِع وكتاب ووثيقة ونُصوص وملفات وجرائد وطنية للإحاطة عِلما بالكمّ الغزير من المعطيات التاريخية حول الصحراء المغربية، جُذوراً وماضيا وحاضِراً.. وللاطلاع على الواقع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي لمنطقة تقع على مساحة تُقدَّر بــ 266.000 كلم مُربّع، وذلك في:

  • الحركات الاستقلالية في المغرب العربيللعلّامة الراحل علال الفاسي الذي قضى عمره مناضلا ومدافعا ومُعرّفا بحقوق المغرب التاريخية في أرضه وصحرائه، وتوفي في بوخارست بعد أداء آخر مهمة دبلوماسية كان موضوعها أساسا حشْد الدعم الدولي والدبلوماسي للوحدة الترابية.
  • مجتمع الصحراء في الكتابات الاستعمارية“،الصادر في الطبعة الأولى 2010، متوفِّر بالمكتبة العامة والمحفوظات – تطوان، تحت رقم: 18921، لمؤلفه الأستاذ والباحث المجد رحال بوبريك.
  • قضية الصحراء المغربية ومخطّط التسوية الأممي؛ دراسة قانونية وسياسية في مسارات التسوية في نطاق المنظمات الدولية، للكاتب عبد الحق الذهبي، صادر الطبعة الأولى 2003، متوفِّر بالمكتبة العامة والمحفوظات – تطوان، تحت رقم: 18298، تاريخُ وُرودِه: 2011.
  • الصحراء المغربية؛ حقيقة وتاريخ، لكاتبه محمد عنان، صدَرت الطبعة الأولى سنة 1975، متوفِّر بالمكتبة العامة والمحفوظات – تطوان، تحت رقم: 9710، وهو من الإصدارات التي واكَبَت مرحلة تدبير وإدارة الدولة لحدَث المسيرة الخضراء.
  • (المملكة المغربية) إدارة الدولة المكلَّفة بالإعلام: مِن أجل تحرير أراضينا المغتَصَبة؛ الصحراء، سبتة ومليلية والجُزر الجعفرية، الطبعة الأولى 1974، متوفِّر بالمكتبة العامة والمحفوظات – تطوان، تحت رقم: 8137.
  • الصحراء المغربية؛ حقائق وأوهام حول النّزاعللأستاذ الوزير السابق مصطفى الخلفي، مسنود بوثائق ومُستندات قانونية وحقوقية وقرارات أممية ومُعطيات اقتصادية وجغرافية وبَشرية تخص أقاليمنا الجنوبية، ورؤية الكاتب – ومن موقع الممارسة والمسؤولية الحزبية والسياسية – لخيار الحكم الذاتي للصحراء وإيجابياته.
  • الموسوعة القيِّمة للأستاذة بهيجة السيمو، تحت عنوان الصحراء المغربية من خلال الوثائق الملكية“، الصادرة في ثلاثة أجزاء عن منشورات مديرية الوثائق الملكية، الطّبعة الأولى 2012.

خاتمة

في هذا الاستحضار الثقافي والعلمي للذاكرة المكتوبة لبعض الأفراد والجماعات إزاء قضيتنا الوطنية؛ نتمحّل إمكان مواصلة المسير، حريصين على تعبئة جميع الوسائل البشرية والعسكرية والاقتصادية والفكرية والتنظيمية التي نملكُها للدفاع عن وحدة البلاد وسلامة أراضي الوطن، ومُستندين إلى خِبرتنا التاريخية في التعايش والسِّلم والحوار، وإلى أرشيف ذاكرتنا الفردية والجماعية، وإلى وثيقتنا الدستورية وأطروحة الوحدة، داعمين لمقترح دعم مقترح الحكم الذاتي لجهة الصّحراء، ومُواصِلين لجهود إنهاء النّزاع وتحرير الصحراء المغربية التي نعتبرها قِسماً هامّاً من التراب الوطني استناداً إلى مبدأ وحدة التراب الذي تَضَمَّـنَتْهُ كلّ الأوْفاق الدولية، ومتشبِّثين بالوطنية المـتفَتِّحة، الوطنية الـمؤمِنة بوحدة المغرب الكبير كضرورة تاريخية، وعازِمين على مزيدٍ من ثقافة التـملُّك العمومي لقضية الصحراء، فهي مِلكٌ للشَّعب والأمة المغربية والنِّظام المغربي.

المراجع
[1] انظر: (بونعيلات) سعيد: "وجوه وأحداث من زمن المقاومة والتحرير _ شهادات"،منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، منشورات عُكاظ، الطبعة الأولى أبريل 2001. وأيضا: (اليازغي) محمد: "الصحراء هويّــتنا"،حوار يوسف ججيلي، دار النشر المغربية، الصادر سنة 2018.
[2] لوغوف جاك، "التاريخ الجديد"،ترجمة محمد الطاهر المنصوري، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، طبعة غشت 2009، في 612 صفحة.
[3] "وقائع الحفل التكريمي للمجاهد المرحوم الشيخ العبادلة بن الشيخ محمد الأغضف بن الشيخ ماء العينين"، أعمال ندوة نظمت بالرباط 2003، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التّحرير، الطبعة الأولى 2004.
[4]الجابري محمد عابد: "في غمار السياسة؛ فكراً وممارسة"ج 3، منشورات الشبكة العربية للأبحاث والنّشر، الطبعة الأولى 2010، بيروت – لبنان.
[5] ابن محمد الحسن الثاني: "ذاكرة ملك"، حوار مع الصحفي إيريك لوران، منشورات جريدة الشرق الأوسط، الطبعة الأولى 1993، ص: 84