مقدمة

بصم الدكتور عبد الكريم الخطيب على حياة لم يعرف فيها الراحة إلى أن وافته المنية. كان الرجل مؤمنا بضرورة مجابهة الاحتلال العسكري والفكري والثقافي، رضع المقاومة مع القطرات الأولى لحليب أمه، فآمن أن الهزيمة ليست قدرا، نهض إلى المساهمة في تحرير المغرب من الاستعمار الفرنسي والإسباني، وسخر لذلك كل ما يملك؛ ماله ونفسه، وحتى مهنته. تميز بإتقانه الجراحة في مجال الطب، والجراحة في مواجهة الاستعمار. عده الباحثون أحد أبرز الوجوه المغربية التي شغلت الساحة السياسية في عصرنا الحالي، لاسيما في الحقبة الاستعمارية، وأثناء بناء المؤسسات الدستورية في فترة الاستقلال.

الخطيب اسم مثير للجدل؛ هو الفرد المتعدد، اجتمعت فيه أزمنة وأمكنة وشخوص مختلفة، شاهد على العصر، بين مؤيديه ومعارضيه، ونظرا لتحفظه عن ذكر بعض الحقائق بقيت مساحات بيضاء وفراغات تحتاج إلى تنقيب وبحث. ولاستقراء مساره النضالي لجأنا إلى الوثيقة المكتوبة والشاهدات كما اعتمدنا على حوارات أجريت معه ومع المقربين منه سواء داخل الوطن أو خارجه، ولم نهمل الذين انتقدوه ومنهم من حجب عنه صفة مقاوم بل وصل الأمر ببعضهم باتهامه بالخيانة والانبطاح للاستعمار وخدمة أجندات خفية، وفي مفارقة غريبة أشاد به الزعيم الجنوب الأفريقي نيلسون مانديلا، وبمجهوداته في مساعدة جنوب إفريقيا على التحرر من الاستعباد ونظام الأبارتايد، كما أثنى عليه زعماء ومقاومون من دول الجوار.

نسبه ونشأته

ولد السيد عبد الكريم الخطيب في مارس 1921 بمدينة الجديدة المغربية، والده هو الحاج عمر الخطيب، الذي اشتغل ترجمانا إداريا في الجزائر. أما والدته، فهي مريم الكباص ابنة امحمد الكباص الصدر الأعظم في عهد السلطان مولاي يوسف، والتي كانت حافظة لكتاب الله كما عرفت بشخصيتها القوية وثقافتها الواسعة. وينحدر الدكتور عبد الكريم الخطيب من أسرة ذات أصول جزائرية.

بعد حصوله على الشهادة الثانوية في الرباط، تابع عبد الكريم الخطيب ابتداء من سنة 1941 دراسته في الطب بكلية الطب في مدينة الجزائر. حيث مكث فيها أربع سنوات، وكان ممثلا للطلبة المغاربة في شمال إفريقيا. ثم انتقل بعد ذلك إلى كلية الطب بالسوربون سنة 1945 ليتم دراسته هناك، وعمل في مستشفى “فرانكو موزولمان” لمدة 6 سنوات. وأثناء مقامه هناك كان يسهر على جمعية مغربية تسمى “دار السلطان”، وقد وشحه السلطان محمد الخامس بوسام من درجة فارس يوم 22 أكتوبر 1950، وكان الطالب الوحيد الذي حظي آنذاك بهذا الشرف تقديرا لجهوده وأنشطته لصالح بلاده. كما شغل مهمة نائب رئيس “جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا” بباريس. وفي سنة 1951 عاد إلى المغرب طبيب جراح، فاشتغل بداية بمستشفى موريزكو (ابن رشد حاليا) بمدينة الدار البيضاء، وذلك قبل أن يفتح عيادة خاصة بداية عام 1952 بنفس المدينة[1].

الخطيب رجل المقاومة وجيش التحرير

في بداية الأربعينيات، وفي سن لا يتجاوز 19 سنة، أسس الدكتور الخطيب رفقة بعض إخوانه الكشفية الحسنية. وتفرع نشاط الكشفية في جل مناطق المغرب مما دفع سلطات الحماية إلى منع الزي الكشفي لما كان يرمز له من قيم وطنية. ثم انخرط الدكتور عبد الكريم الخطيب سنة 1954 في التنظيم السرّي لجيش التحرير بمدينة الدار البيضاء، والذي شرع في مقاومة الاستعمار الفرنسي منذ 21 غشت 1953، وتولى العناية بالشؤون الطبية وبمعالجة المقاومين الذين يصابون نتيجة العمليات الفدائية ضد الفرنسيين، وذلك باعتباره كان طبيبا جرّاحاً، كما تكلف بمهمة جمع الأموال واستقدام السلاح. وفي سنه 1955 التقى لأول مرة علال الفاسي بالقاهرة.

ألهمت أحداث كريان سنطرال الدامية –الدار البيضاء سنة 1952 الدكتور الخطيب حس المقاومة المسلحة ضد الاستعمار، ففي ذلك اليوم المشهود كان الخطيب يعالج المعطوبين والجرحى في مسجد صغير اتخذه مصحة لاستقبال الأعداد الكبيرة من المصابين المغاربة. و بعد هذه الأحداث الأليمة، بدأ الدكتور الخطيب في جمع الأموال وتسليمها للمقاومة كل أسبوع أو أسبوعين قبل أن يحضر أول لقائه بالشهيد محمد الزرقطوني ومحمد منصور وعبد الله الصنهاجي لمدارسة مسألة تنظيم المقاومة وجيش التحرير في الجبال. فانطلق في العمل، وساهم الخطيب ابتداء من سنة 1955 في تأسيس ورئاسة جيش التحرير في الشمال والمعروفة بـ “لجنة تطوان“، المكونة من خمسة أشخاص هم: الدكتور عبد الكريم الخطيب، وحسن صفي الدين، وسعيد بونعيلات، والحسين برادة، والغالي العراقي، وانضاف إليها الدكتور المهدي بنعبود بعد عودته من أمريكا. كما ساهم الخطيب في تشكيل مجلس للثورة في تلك الفترة والمكون من سبعة وعشرين عضوا. يقول الخطيب: “في لقاء جمعني مع الشهيد الزرقطوني، بحضور الإخوان محمد منصور وعبد الله الصنهاجي وسعيد بونعيلات، أخبرني أنه على علاقة بثلاث مجموعات من الجنود المغاربة، كانوا في ثكنة la jonkiere، وأنه يفكر في تحريضهم على الانتفاضة، نصحته بالعدول عن الفكرة، لأنها ستعرض مدينة الدار البيضاء للتطويق والحصار في نصف ساعة، وسيتم القضاء على تلك المجموعات، قلت له، انتظر حتى يبدأ العمل المسلح في الجبال، عند ذلك يمكن الاستفادة من خبرتهم، وأنا مستعد للاتصال ببعض الضباط المغاربة المتعاقدين لتطعيم الجيش…، ويضيف الخطيب، أن جيش التحرير تأسس للضغط على الاستعمار من أجل إرجاع الملك من المنفى، ولما رافق مولاي علي العلوي ابن عمة محمد الخامس إلى مطار أورلي بباريس، طلبت منه أن يبلغ جلالة الملك بأننا شرعنا في تأسيس الجيش”[2]. لقد انخرط الخطيب إذن في صفوف المقاومة المغربية ضد الوجود الفرنسي منذ بداية الخمسينيات، وكان مكلفا في تنظيم المقاومة بالعلاقات الخارجية وتأمين الأسلحة. 

لقد آمن الدكتور الخطيب بقوة بالكفاح المسلح ضد المحتل كسبيل لتحقيق الاستقلال. وهناك في كتابه “مسار حياة” فقرة تحمل عنوان: “حين قال بونعيلات للمهدي بنبركة: “سير فحالك القرطاس ايجيب الاستقلال”، مما جاء فيها: “(…) زارنا في تطوان ليلا المهدي بنبركة ليطلب منّا وقف عمليات المقاومة وجيش التحرير وقضى معنا ليلة كاملة يحاول إقناعنا برأيه مرددا أنه: “لا يمكننا أن نتفاوض مع الحكومة الفرنسية إلّا إذا أوقفتم أعمالكم الفدائية”، وكان هذا شرطا أساسيا قدمه الفرنسيون لبعثات الأحزاب السياسية المغربية. وبعد ساعات طويلة من النقاش قال له أحد الإخوان، وهو بونعيلات سائلا: “المهدي، من أَرجعك من المنفى؟” أجابه المهدي بن بركة: “القرطاس”، فقال له بونعيلات: “سير فحالك القرطاس ايجيب الاستقلال[3].

كما كان الدكتور الخطيب يدرك منذ تأسيس جيش التحرير أن التنسيق مع الإخوة الجزائريين مهم وضروري حتى يكتمل استقلال المغرب العربي كله، لذلك ساهم مبكرا في تأسيس لجنة عليا مغربية جزائرية تشكلت من الجانب الجزائري من أحمد بن بلة، ومحمد بوضياف، ومحمد خيضر، ولحسن آيت أحمد، والعربي بلمهيدي، فيما مثلت فيها قيادات وطنية مغربية من قبيل عبد الرحمان اليوسفي، والدكتور الخطيب، وغالي العراقي.[4]

بعد أن حصل المغرب على الاستقلال رفض الخطيب حل جيش التحرير، وكان يتمنى أن يستمر في مهمته، لأنه كان يرى أن مناطق كثيرة لم تحرر بعد، مثل الصحراء الغربية والصحراء الشرقية، وكانت أمنيته أن يستمر الكفاح من أجل التحرير. وهكذا يقول الخطيب: “بعد رجوعي في 20 مارس 1956، كان السياسيون يخافون من جيش التحرير، وحاولوا حله بإدماجه في الجيش الملكي، أرادوا أن تنضم الفرق الموجودة في الأطلس تحت قيادة عبد القادر بوزار، وكذلك الشبان الذين تكونوا بالمدرسة العسكرية بجنان الرهوني، وكان كل من حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال يدعي أن الجيش معه أو له، وكان ذلك سببا في اغتيال العراقي عالم مدينة فاس، الذي زار أحد نواب بنعثمان اسمه الحطاط، وطلب منه الدخول إلى الرباط باسم حزب الشورى والاستقلال، فوقع اغتياله من طرف جماعة من المقاومين …”[5].

الخطيب ومحمد بن عبد الكريم الخطابي

لم يسبق للخطيب اللقاء مع المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي قبل 1956 إلا في القاهرة، والقرابة بينهما عائلية حيث أن زوجته مفتاحة هي بنت المرحوم السي محمد بوجيبار، الذي كان صهرا مكلفا بشؤون الطفاع في حركة محمد بن عبد الكريم الخطابي، وعمتها هي زوجة الأمير، وعرفه من خلال جهاده وتاريخه، وكان له شوق للتعرف عليه وملاقاته، لأن بعض المجاهدين من قادة معركة الريف كانوا منفيين بمدينة الجديدة، منهم المجاهد السي محمد أزرقان الذي كان مكلفا بشؤون الخارجية في حركة الأمير، كما كانت تربطه مع عمه علاقات ودية منذ وصولهم إلى مدينة الجديدة ودخولهم إلى مدرسة الأوربيين… بالقاهرة زار الخطيب الأمير في بيته ب “كوبا كاردن” وزار أخاه امحمد بن عبد الكريم الخطابي، ولما اشتدت المقاومة كان الخطابي ينصح ابن الكباص، ويتحدث على التطويق المباشر والتطويق غير المباشر وعلى استراتيجية الكفاح، وكان جزء من جيش التحرير يتكون من مقاومين كانوا بصحبة محمد بن عبد الكريم الخطابي منهم: محمد علال، القاضي حسن الزكريتي، الحاج عمرو الريفي وآخرون كانوا يقولون “فاتتنا الشهادة أيام الأمير، فنطلب أن يكتبها الله لنا في هذه الأيام”[6].

الخطيب في خدمة الملكية وإمارة المؤمنين

يعتبر الخطيب من أكبر المؤمنين بالملكية الدستورية وأحد المتشبثين بها والمدافعين عنها، ولا يميل إلى الملكية البرلمانية. كما أن الخطيب لم يكن رجل مقاومة وسلاح فقط، بل رجل سياسة ودولة أيضا. في أكتوبر من سنة 1957 انفصل الدكتور الخطيب عن حزب الاستقلال بعد اتهامه بتمثيل “بورجوازية المدن”، ليؤسس مع المحجوبي أحرضان حزبا ريفيا (حزب الحركة الشعبية). وقد وُضع على رأسه بعض قادة جيش التحرير، وما لبث أن اتخذ صبغة “أمازيغية”، وقد وقف بحزم يُدافع عن الملكية وإمارة المؤمنين.

وفي سنة 1960 عين الخطيب وزيرا للشغل والشؤون الاجتماعية، كما عين سنة بعد ذلك وزير دولة مكلف بالشؤون الإفريقية قبل أن تنضاف إليه في يناير 1963 وزارة الصحة، وبقي يشغل هذين المنصبين إلى غاية نونبر 1963[7]. وبعد انتخابات 1963 انتخب الخطيب كأول رئيس للبرلمان المغربي في سنة 1963 حتى سنة 1965، سنة الإعلان عن حالة الاستثناء من قبل الملك الحسن الثاني، وقرار هذا الأخير بحل البرلمان، الذي شكل حكومة ترأسها بنفسه، واعتذر الخطيب عن المشاركة فيها، وذلك بحجة المرض. كما تولى في سنة 1963 رئاسة المجلس البلدي لمدينة الجديدة.

يشهد للخطيب عندما كان عضوا في اللجنة التي عينت لوضع أول دستور للمغرب سنة 1962 أنه أول من حرص على تضمين إمارة المؤمنين في بنود الدستور المغربي، والتنصيص على إسلامية الدولة. حول ذلك قال الخطيب: لما قدموا لنا أول دستور، وأنا عضو في اللجنة، كان دستورا علمانيا لا إشارة فيه إلى الإسلام ولا الإمارة، فطلبت من الملك آنذاك الحسن الثاني أن ينتبه، المغرب بلد مسلم، والعلاقة التي تربط بين العرش والشعب ملخصة في عقد البيعة، والبيعة هي لأمير المؤمنين، وذلك منذ العصر الموحدي.

 الخطيب ضد نظام الحزب الوحيد

ثلاث سنوات بعد ذلك، شهدت البلد خلالها أحداثا عدة، هزت الاستقرار في، وبدا الصراع على السلطة قويا بين الحكم ومسانيده من جهة، واليسار المغربي بقيادة “حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، ظن حينها الجميع أن العرش في خطر، ولذلك فإن الحاجة إلى حالة استثناء وتفعيل الفصل 35 من الدستور مسألة حيوية من أجل التحكم أكثر في عوامل اللااستقرار، لكن الخطيب رأى عكس ذلك تماما، وأعلن موقفه الرافض لحالة الاستثناء يقول الخطيب: “كنت أعتبر إعلان حالة الاستثناء بمثابة انقلاب أبيض، وكنت أخشى أن يؤدي ذلك إلى انقلابات أخرى حقيقية، ومع الأسف ذلك ما وقع”. كان أحرضان رئيس الحركة الشعبية وزيرا للدفاع حينها، بينما كان الخطيب الرجل الثاني في الحزب، وبسبب موقفه الرافض لحالة الاستثناء، اختلف الرجلان، وطرد أحرضان عدد من أعضاء اللجنة المركزية للحزب، فكان ذلك مقدمة ليؤسس الخطيب برفقة بنعبد الله الوكوتي، رفيقه في درب النضال، حزبا جديدا، أطلقوا عليه اسم “الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية” في يناير منسنة 1967. وفي سنة 1973، أسس الخطيب نقابة حزبه، والتي أطلق عليها اسم “الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب”.

بعد حادثتي محاولة الانقلاب في 1971 و 1972، وجه الخطيب رسالة إلى الملك الحسن الثاني، حول الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المغرب، واعتبر من جهته أن المخرج الوحيد من هذا المأزق الكبير هو العودة إلى الإسلام وتطبيق الشريعة الإسلامية. كان الوضع السياسي في البلد حينها قد استشرى فيه الفساد والصراع، وكان ذلك هو السبب وراء انسحاب الخطيب من الحياة السياسية احتجاجا على وضع لا يزداد إلا سوءا وترديا. بقي الخطيب كذلك حتى بداية التسعينات، حينما دق بابه قياديي “حركة الإصلاح والتجديد”- التي شكلت فيما بعد مع “رابطة المستقبل الإسلامي” “حركة التوحيد والإصلاح”- والذين اعتزموا الدخول إلى الميدان السياسي الحزبي عبر الاندماج في حزب قائم، وذلك بعدما رفضت السلطات الترخيص لهم بتأسيس حزب سياسي خاص بهم هو “حزب التجديد الوطني” وذلك في سنة 1992. كانت البداية بانخراط عدد من أعضاء حركة الإصلاح والتجديد في حزب الخطيب، وفيما بعد تقرر دخول بعض قياديي حركة التوحيد والإصلاح إلى الأمانة العامة لحزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية. وتم عقد المؤتمر الاستثنائي للحزب في يونيو 1996.

استمر الخطيب أمينا عاما للحزب، وشارك في قيادة حملة الحزب في انتخابات نونبر 1997 ورعى مسار الحزب في الموقف من حكومة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، ثم دعم مشروع تغيير اسم الحزب في أكتوبر من سنة 1998 إلى اسم حزب العدالة والتنمية” وذلك انسجاما مع مقتضيات المرحلة السياسية بالبلاد، وانتخب عام 1999 أمينا عاما للحزب بدعم كافة المؤتمرين، وحقق مع الحزب الإنتصار في انتخابات شتنبر 2002 عندما احتل الحزب الرتبة الثالثة، وضاعف وجوده البرلماني ثلاث مرات، وبقي إلى غاية 2004  قائدا للحزب في ظرفية صعبة، خاصة بعد تفجيرات 16 مايو 2003 وما تلاها من حملات شرسة ضد الحزب. وبعد تسليمه المشعل إلى قيادة جديدة في أبريل 2004، حمل صفة الرئيس المؤسس للحزب. ورغم ذلك بقي متابعا لمسيرة الحزب وداعما لها منشغلا بقضاياها حتى وفاته مساء يوم السبت 26 رمضان 1429ه/ 27 شتنبر 2008م.

مذكرة الخطيب الإصلاحية  للراحل الحسن الثاني

تعتبر المذكرة التي أرسلها الخطيب للحسن الثاني، يوم الاثنين سابع رمضان 1392 هجرية، الموافق للسادس عشر من أكتوبر 1972 ميلادية إحدى أهم المذكرات التي عرفها المغرب، وإن لم ينتبه إليها بقدر ما شاع بين الناس مذكرة الراحل الشيخ عبد السلام ياسين التي حملت اسم “الإسلام أو الطوفان”. وتكتسي أهميتها من خلال السياق الذي جاءت فيه، لاسيما أن المغرب عرف إبانها تحولات سياسية، بعد حالة الاستثناء ومحاولات الانقلاب على الملكية. جاء في مقدماتها: “والإصلاح لا يمكن أن يتحقق إلا إذا استنبطنا سبله وطرقه من البعث الإسلامي الذي نترقبه ونتعطش إليه، وننتظره بفارغ الصبر، ويضيف: “فالإسلام في حقيقته الثابتة نظام حياة كاملة، ولا غرو في مقام العمل الصادق أن نستمد مبادئ إصلاحنا وهداية نهضتنا من مبادئه وعقائده التي بنت حضارته الفذة بالأمس، واستعصت على حملات المحو والإبادة المتكررة حتى اليوم”. وبعد أن استعرض الخطيب في مذكرته ما آل إليه الحال شعبيا وحكوميا، بسبب الابتعاد عن شريعة الاسلام، وتفريط الحكومات المتعاقبة، قال للملك الراحل: “وإذا كنا نعتبر أنفسنا دولة إسلامية أصبح من الواجب توطيد دعائم الإسلام في البلاد في أساليب الحكم ووسائله وفي تفكيرنا وسلوكنا وقوانيننا وتعليمنا وإدارتنا وقضائنا”[8].

مناصرة قضايا التحرر في العالم

نشط الدكتور الخطيب من أجل مساندة قضايا التحرر خاصة على امتداد العام العربي والإسلامي، وفي القارة الإفريقية، مقدما تأييده لحركات التحرر في المغرب العربي، وخاصة في الجزائر، حيث أسس لجنة عليا مغربية جزائرية للتنسيق بين المقاومتين المغربية والجزائرية. كما ساند حركات التحرر في إفريقيا خاصة “حزب المؤتمر الوطني الإفريقي” بجنوب إفريقيا بقيادة زعيمه نيلسون مانديلا، الذي حافظ على علاقات متينة معه، إذ قدم له كتابه: “مسار حياة”[9]. كما ساند القضية الفلسطينية، وعمل على تأسيس “الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني” في بيته، كما ساهم في تشكيل “الجمعية المغربية لمساندة للجهاد الأفغاني” بعد الغزو السوفييتي، وخلال الحرب في البوسنة والهرسك سنة 1992 ساهم أيضا في تأسيس “الجمعية المغربية لمساندة البوسنة والهرسك”[10].

شهادات في حق الخطيب

 تعددت الشهادات التي احتفت بشخصية عبد الكريم الخطيب ونضاله وجهاده من أجل الاستقلال، وكذا بخصاله السياسية[11].  ونورد هنا بعض هذه الشهادات لفعاليات سياسية وتاريخية في حق الدكتور عبد الكريم الخطيب، نبدأ فيها بالزعيم الإفريقي المعروف نيلسون مانديلا، الذي قال عن الخطيب: “خشية أن تُنسى الجذور الحقيقية لتحررنا، أود دائما أن أتحدث عن الزعماء الذين دون مساندتهم، لم يكن بإمكاننا أن نخوض الكفاح المسلح (…) وإن من بين هؤلاء الزعماء من رحل عنا مثل نكروما وعبد الناصر وهايلي سيلاسي، ومنهم من لا يزال على قيد الحياة، وأخص بالذكر جليوس نيريري وكينيث كواندا، والرجل الذي نتحدث عنه اليوم، هذا الرجل الذي مارس الكفاح المسلح في وطنه ضد الاستعمار، وأصبح عضوا في حكومة بلاده بعد الاستقلال، وتقلد منصب وزير الشؤون الإفريقية (…) إن هذا الرجل هو الدكتور عبد الكريم الخطيب من المملكة المغربية، إننا مدينون لكل الزعماء الذين ذكرناهم، وتشكراتنا الحارة لهذا المؤمن الشجاع الذي يعتبر من مهندسي كفاحنا المسلح”.

ويقول المفكر الراحل الدكتور المهدي بنعبود -رحمه الله-: “وبعد معاشرته كل هذه السنوات الطويلة، أقول إنه إنسان شغيل ونشيط شجاع، مقدام لا يهاب شيئا، زاهد في الدنيا، تخلى عن عيادته في وقت عز فيه الطب والأطباء في المغرب، كريم سخي يساعد الناس، أسعده الله وعافاه من كل مكروه”.

ويقول رفيقه في الدرب والكفاح والسياسة ، المقاوم وعضو جيش التحرير؛ بنعبد الله الوكوتي: “شخصيا لم أفترق معه منذ معركة الاستقلال، رغم خلافنا في الرأي في بعض الأحيان، ومن خلال هاته العلاقة الطويلة معه، أقول إنه رجل شهم، وفي لأصدقائه، يتحمل كل المحن في سبيل كرامته ولا يتنازل عن مبادئه”.

أما الدكتور سعد الدين العثماني فيقول عن الخطيب: “الدكتور الخطيب سجل وطني وسياسي حافل لا تكفي الحديث عنه مجلدات، رجل شهم، عاش الصمود أيام المحن، قاوم في سبيل استقلال المغرب، وما توانى في مقاومة مختلف أشكال الاستبداد بعد الاستقلال، ودافع عن الحريات العامة بقوة، وعن مؤسسات البلاد، وقال لا حيث يجب أن يقولها، قال لا ضد الحزب الواحد، وقال لا ضد خنق الحريات، وقال لا ضد حالة الاستثناء، وقاوم الإفساد الانتخابي ووقف ضد صانعيه. ونظرا لإسلامية الرجل الواضحة، ولعلاقاته ومعارفه، فكر في تأسيس حزب إسلامي منذ السبعينات، يقول الخطيب: في سنة 1973 استقبلني صاحب الجلالة الحسن الثاني (رحمه الله) في قصر دار السلام، طلبت منه الإذن لي بإنشاء حزب إسلامي، لأن جميع الإيديولوجيات فشلت في تحقيق سعادة الإنسان، والبديل الوحيد لكل ذلك هو الإسلام. مضى الخطيب لتحقيق الفكرة في تجمعات حزب الحركة الشعبية الدستورية (سابقا، العدالة والتنمية لاحقا)، خلال سنوات 1973 و1974 ، وفكر في تغيير اسم الحزب باسم إسلامي واضح هو حزب النهضة الإسلامية، ولكن المشروع اصطدم بإدارة مغربية لا تريد حصول ذلك، وبمناضلين حزبيين رافضين. وبقي الدكتور عبد الكريم الخطيب كالغريب في حزبه وبلده، إلى أن تبدلت الأحوال غير الأحوال، وظهرت الطلائع الأولى من الحركة الإسلامية الراغبة في العمل السياسي، فالتحمت حركة الإصلاح والتجديد وحركة المستقبل الإسلامي (حركة التوحيد والإصلاح فيها بعد) وحزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية، وظهر حزب العدالة والتنمية، ثم شارك في الانتخابات البرلمانية لسنة 1997، واستطاع الحصول على مقاعد خولت له تكوين فريق برلماني، يعتبر إضافة نوعية، وحيوية في الحياة السياسية المغربية دون منازع[12].

وفي جواب عن سؤال ما يجمع أحرضان بالخطيب قال أحرضان: “جمع بيننا الوفاء لشعار بلدنا الخالد الله، الوطن،  الملك، التقينا وكافحنا من أجل الاستقلال والحرية سويا حتى أصبحنا روحا واحدة تسري في جسدين[13].

خاتمة

الخطيب قد يبدو عصيا عن التصنيف، لكن الرجل يكفيه أنه كان منحازا إلى الوطن، وفي خدمة الشعب المغربي منذ أن وطأت قدماه كاريان سنطرال، وبدأ في تمريض الفدائيين، وسخر نفسه فداء للوطن وللعرش، كان شرسا في الدفاع عن مؤسسات الدولة الوطنية، وحرص على الانتصار للبيعة الشرعية، وحلم بالمغرب العربي الكبير، وكان يأمل في أن يتجه المغرب نحو إفريقيا، رجل آمن بالعربية باعتبارها لغة المغاربة، ودافع عن حرف تيفيناغ، واحتضن المغضوب عليهم من أبناء الحركة الإسلامية، وأمنهم على مشروعه الفكري والحضاري، واشترط عليهم الحفاظ على ثوابت الأمة، وغادر السفينة، كان واضحا في خياراته الفكرية، ومنافحا عن الإسلام، واصطف إلى تيار الممانعة، ودافع بكل جرأة عن القضية الفلسطينية، والبوسنية، والأفغانية وغيرها من قضايا الأمة الإسلامية… إنه المجاهد الذي جعل المغرب ظهرا حاميا للكفاح الفلسطيني، ومأوى واقيا لقياداته وزعمائه، وفي مقدمتهم الرئيس الشهيد ياسر عرفات، والذي كان له الفضل بمساعيه في أن يتبوأ لدى المغرب المكانة الرفيعة اللائقة بمستوى قادة العالم الكبار، وفي بيته تأسست اللبنات الأولى لدعم ومناصرة الكفاح الفلسطيني. إنه المكافح العربي والإسلامي، الذي ساهم تحت رعاية الحسن الثاني في التمهيد لتأسيس “مؤتمر القمة الإسلامي”، بعد جريمة الإحراق الصهيوني للمسجد الأقصى بالقدس، وهو الذي ناصر بقوة قضايا الأقليات المسلمة في العالم، وعمل على إسماع صوتها في أروقة الأمم المتحدة، من خلال نشاطه كعضو مؤسس لرابطة العالم الإسلامي.

المراجع
[1] العثماني سعد الدين، شخصيات مغربية مسارات وذكريات، منشورات دار الكلمة للنشر والتوزيع، 2022، ص 126-127.
[2] خليدي محمد، جهاد من أجل التحرير الدكتور عبد الكريم الخطيب الدكتور حافظ إبراهيم، منشورات إفريقيا الشرق، 1999، ص 11.
[3] جهاد من أجل التحرير الدكتور عبد الكريم الخطيب الدكتور حافظ إبراهيم - جيش التحرير المغربي 1951-1956..ومذكرات للتاريخ أم للتمويه - الدكتور عبد الكريم الخطيب: مسار حياة، حوار مع حميد خباش ونجيب كمالي.
[4] خليدي محمد، جهاد من أجل التحرير الدكتور عبد الكريم الخطيب الدكتور حافظ إبراهيم، مرجع سابق، ص 12-13.
[5] خباش حميد، الدكتور عبد الكريم الخطيب: مسار حياة، 1997، ص 63.
[6]  خباش حميد، الدكتور عبد الكريم الخطيب: مسار حياة، مرجع سابق، ص 104-106.
[7] العثماني سعد الدين، شخصيات مغربية مسارات وذكريات، مرجع سابق، ص 134.
[8] العثماني سعد الدين، شخصيات مغربية مسارات وذكريات، مرجع سابق، ص 142.
[9] خباش حميد، الدكتور عبد الكريم الخطيب: مسار حياة، مرجع سابق، ص 03.
[10] العثماني سعد الدين، شخصيات مغربية مسارات وذكريات، مرجع سابق، ص 140-141.
[11] خباش حميد، الدكتور عبد الكريم الخطيب: مسار حياة، مرجع سابق، ص 149 -233.
[12] العثماني سعد الدين، شخصيات مغربية مسارات وذكريات، مرجع سابق، ص 125 وما بعدها.
[13]  المحجوبي أحرضان، الزايغ، منشورات افريقيا، 1999، ص 39.