توطئة

إن الكتابة عن الزعماء التاريخيين لاسيما السياسيين منهم، تعد مجازفة صعبة، يركبها الخبراء ومن يملك عينا ثاقبة، ينظرون به إلى الأشياء بعد وضع عواطفهم وأحاسيسهم جانبا لكي تتسم رؤيتهم بالموضوعية ولو نسبيا. وقد شهد الحقل الثقافي المغربي خلال السنوات الأخيرة خوض البعض لتجربة الكتابة عن زعماء عرفهم المغرب، بعضهم كتب سيرته الذاتية وآخرون كانت سيرهم غيرية. وآخرهم إسماعيل العلوي صاحب “إسماعيل العلوي؛ نبل السياسة.. مسيرة حياة“. ويعد اليوسفي أحد هؤلاء، الذين شغلوا الرأي العام حيا وميتا. وقد سبق أن قدم  عبد الله حمودي، الأكاديمي وأستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة برينستون الأمريكية، لـ “أوراق من زمن السياسة.. اليوسفي كما عشناه” لمحمد حفيظ وأحمد بوز، وتحدث عن مميزات مضامينه، ومؤلفا الكتاب الأخير يشتغلان أستاذين جامعيين، وكانا عضوين ومسؤولين بحزب عبد الرحيم بوعبيد، والمهدي بن بركة، وعمر بن جلون، واليوسفي. وقد تحدث حمودي عن مميزات مضامين المؤلَّف وأسلوبه “بكيفية حاسمة عما نقرؤه عادة في مذكرات السياسيين المغاربة، نساء ورجالا”، بعدما اختار كاتباه أن “يرويا تجربة سياسية بتداعياتها الخطيرة، ومخلفاتها التاريخية، ألا وهي تجربة ما سمي ‘التناوب التوافقي’، بعد عقود من الحكم السلطوي، وسنوات الرصاص، وما تبع ذلك من دساتير وانتخابات وحكومات ظل يخيِّم عليها، منذ الاستقلال، مشكل مشروعية المؤسسات والحكم بصفة عامة”.

وإن من أهم ما كتب عن اليوسفي، بلغة الشعر والزجل كتاب “تنطفئ الأيقونات لكنها لا تموت.. مرثيات عبد الرحمان اليوسفي رحمه الله”، وهو ديوان شعري جماعي، قدم له حسن أوريد، وأعده الدكتور أحمد رزيق، والأستاذة دليلة حياوي. ويقع الكتاب في 71 صفحة، وقد صدر عن مطبعة وراقة بلال، الطبعة الأولى سنة 2020م.

مضامين الكتاب

لقد ترجل عبد الرحمن اليوسفي، في صمت، ويعد أحد آخر الزعماء الوطنيين بالمغرب، وبرحيله، حسب حسن أوريد،  يفقد المغرب والمغاربة والعالم العربي والأممية الاشتراكية شخصية فذة، لم ينفصل عندها النضال من أجل دولة ديمقراطية ومجتمع حر وطنيا عن الوحدة مغاربيا، والعزة والكرامة على مستوى العالم العربي، ومحورية القضية الفلسطينية.

في أكتوبر 2015م، حرص عبد الرحمن اليوسفي على تنظيم لقاء وفاء للزعيم المهدي بن بركة بمناسبة الذكرى الخمسين على اختطافه، ومن الشخصيات التي كان عبد الرحمن اليوسفي حريصا على استضافتها، الدبلوماسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي، وكان من الشهادات المؤثرة تلك التي قدمها الأخضر الإبراهيمي، وكان حينها سفيرا للجزائر في مصر، وكانت الاتصالات مع الزعيم المغربي المهدي بن بركة تتم عبر سفارة الجزائر. تعشى الاثنان بالقاهرة في مقر الإقامة الجزائرية بتاريخ 28 أكتوبر حتى الفجر، واصطحب الأخضر الإبراهيمي المهدى بن بركة إلى مطار القاهرة، وكان المهدي يحمل جواز سفر جزائري باسم محمد الزايدي، ليعرف المصير المعلوم… (مقدمة الكتاب، ص: 10).

كانت حياة عبد الرحمن اليوسفي غنية، فقد كان من الرعيل الأول من شبيبة حزب الاستقلال، واضطلع بتهريب السلاح من إسبانيا إلى كل من الثوار في الجزائر وجيش التحرير بالمغرب، من خلال تواجده حينها بمدريد والدور الذي اضطلع به الملحق العسكري لمصر بمدريد فتحي الديب، في دعم جيشي التحرير في المغرب والجزائر. غداة استقلال المغرب، اختار عبد الرحمن اليوسفي الجناح اليساري إلى جانب المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد والفقيه البصري، وتعرض جراء ذلك للسجن والمضايقات، وانتهى به الأمر إلى النفي. كانت فترة متوترة من تاريخ المغرب، وكانت تلقي ظلالها على الاشتراكيين المغاربة، وكانوا أغلبهم يميلون إلى ما كان يسمى بالخيار الثوري ضد النظام، ولكن خيارا آخر سوف ينضج، وهو الخيار الديمقراطي، الذي سيتزعمه عبد الرحيم بوعبيد، ويتبلور من خلال إنشاء الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1975م، وسيزكي عبد الرحمن اليوسفي من منفاه بفرنسا هذا الخيار من خلال بعثه بتسجيل صوتي للمؤتمر، إلا أنه لن يدخل المغرب إلا سنة 1980م.

بدأت حياة جديدة لعبد الرحمن اليوسفي حين تولى مسؤولية الكاتب الأول الحزب الاتحاد الاشتراكي خلفا لعبد الرحيم بوعبيد، سنة 1992م. كان مهندس بناء الثقة مع القصر، في أفق نص دستوري جديد، وحل القضايا العالقة في حقوق الإنسان، رغم دقة الظرف بالنظر لاعتقال النقابي نوبير الأموي… استطاع الملك الراحل الحسن الثاني أن يكسر الجليد معه، في أول لقاء به، بتقديمه لولديه ولي العهد حينها الملك الحالي وأخيه الأمير رشيد.

كان الملك الحسن الثاني يعرف أن شريكه في إنجاح التناوب هو اليوسفي ولذلك أخذ اليوسفي على نفسه خيارا صعبا عرضه لانتقادات من لدن راديكاليي الحزب وشبيبته، وهو التصويت على دستور 1996م، وقال قولته الشهيرة ضد منتقديه، ليس في السياسة تأمين ضد كل الأخطار. وبالفعل تحقق معه التناوب، وترأس عبد الرحمن اليوسفي الحكومة في فبراير 1998م، واعتبرته الصحافة المغربية أول وزير أول. استمرت حكومة التناوب، وما كان لها لتستمر لولا حكمة اليوسفي الذي اصطدم أولا بما كان يسمى بجيوب المقاومة، وتحامل حزب الاستقلال، ثم بمحاولات للنسف منها تسريب رسالة للفقيه البصري حول ضلوع قياديين من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في المحاولة الانقلابية للجنرال أوفقير. واتخذ اليوسفي حينها قرارا صعبا، هو منع الجريدة التي نشرت الرسالة «لوجورنال» مع أسبوعية “الصحيفة” و”ماكازين دومان”. استغني عن اليوسفي سنة 2002م، رغم أن حزب “الاتحاد الاشتراكي” تصدر نتائج الانتخابات، وهو ما اعتبر إجهاضا التناوب الديمقراطي.

ومنذ ذلك التاريخ بدأت فترة جديدة من تاريخ اليوسفي أضحى فيها سلطة معنوية، رغم أنه نأى عن الأضواء. تعرض لوابل من الانتقادات من ذوي الرحم، ولكنه وجد صدرا رحبا في المجتمع وفى جيل جديد وعرفت له الدولة ومؤسساتها عفته وسموه الخلقي وأخلاقيات الدولة. ظل وفيا لأصدقائه فحفظ ذكراهم ورعى تكريمهم، منهم المهدي بن بركة، وعبد الحميد مهري الأمين العام السابق لجبهة التحرير الوطني، ومحمد باهي، وحافظ إبراهيم (من تونس)، وعابد الجابري.

ما يحضرني، يقول حسن أوريد، من هذه الصور التي تكشف شخصية الإنسان أكثر من الأحداث الجليلة، مما حكاه لي، وهو إذاك تلميذ في ثانوية مولاي يوسف بالرباط في الأربعينيات، على أستاذ جزائري يدرس اللغة العربية، وكان الدرس حول معاني الحروف، وحروف الصغير التي تفيد القبيح من الأمر، ومنها حرف السين، وما كان من اليوسفي إلا أن نطق بكلمة “الفرنسيس” (الفرنسيون)، فرد الأستاذ على التو: «اليوسفي» وهو يشفع ذلك بابتسامة تدل على حس الدعابة وقوة البديهة. التقت كل الأطياف في المغرب وخارج المغرب، على تقديره، وتكريم ذكراه. ولعل مما يستأثر بالاهتمام أن عزى فيه الملك محمد السادس مشيدا بوطنيته وحكمته، والرئيس الجزائري عبد المجيد تبون مذكرا بمساندته للثورة الجزائرية وإيمانه بالوحدة المغاربية، وأن يرقد الرقود الأبدي إلى جوار شخصية مغربية متفردة، من قيادي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ومن تقلد رئاسة الحكومة في فجر الاستقلال، عبد الله إبراهيم. (مقدمة الكتاب، ص: 14\15)

جاءت مرثيات الكتاب على الشكل التالي: الأخبار صحيحة لإدريس بلعطار، الحزن يسكنني لإسماعيل علالي، جبل الشموخ لحسن برما، تظل السيرة وحدها بلا كفن لحفيظة الفارسي، لليوسفي الحر حين ترجل لخالد العقبي، الخطب لدليلة حياوي، عبد الرحمان لرضوان أفندي، متوجا بالأبدية، تغنيك النايات لسفيان مديلي، عبور واحد لا يكفي لجنازة هذا الجبل لصالح البريني، عريس الموت لعزيز بنسعيد، عنا يرحل لفريدة بوفتاس، يوغلون تباعا في الرحيل لمحمد العياشي،  مروا ثقالا بما قد أشاعا لمحمد النابت، خاص من بحالك بزاف لمحمد موثنا، الوداع اليوسفي الأخير ليحيى الشيخ.