توطئة

ينسب المذهب المالكي إلى الإمام مالك بن أنس الأصبحي المولود سنة 179 هـ على الصحيح، والمتوفى بالمدينة وهو صاحب ثاني المذاهب الأربعة في القدم، ويقال لأصحابه: أهل الحديث، واختص إمامه بمدرك آخر للأحكام غير المدارك المعتبرة عند غيره وهو عمل أهل المدينة. وقد اعتمده المغاربة ضمن اختياراتهم المذهبية، وذلك لمميزاته وأصوله المتفردة، ومنها وفرة مصادره وتنوع أصوله بين النقل والرأي المستند إلى الشرع، وتوسعه في استثمار الأصول المتفق عليها، وقبوله أنواعاً من الحديث لا يقبلها غيره، كالحديث المرسل، ورحابة الصدر في المسائل الفقهية، وقابليته للتطوير والتجديد، ومرونتهن وكذا السماحة والتيسير، والوسطية والاعتدال، ومراعاته للبعد المقصدي والبعد الاجتماعي والمصلحي، والمنطقية والعقلانية والواقعية، والسلامة من البدع، ومراعاة المآلات…

ولعل عنوان الكتاب “العلمانية والمذهب المالكي” يشد القارئ إليه، ويجعله يطرح سؤالا جوهريا حول علاقة هذا المذهب بالعلمانية، وما أهداف الكتاب، وفي أي سياق يأتي هذا المؤلف؟.

ويأتي هذا الكتاب لمؤلفه مصطفى باحو ضمن سلسلة بحوث في العلمانية، وهو الكتاب الثالث من هذه السلسلة، بعد الكتاب الأول “العلمانية المفهوم والمظاهر والأسباب”، وهو الذي جعله صاحبه طليعة للسلسلة. وقد طبع في الرباط، ونشرته جريدة «السبيل» المغربية في غشت 2011م، والكتاب الثاني”العلمانيون العرب وموقفهم من الإسلام” وطبع في المكتبة الإسلامية بمصر. وكتاب “العلمانية والمذهب المالكي” يقع الكتاب في 204 صفحة، وصدر عن جريدة “السبيل”.

مضامين الكتاب

حاول المؤلف في هذه الرسالة البحث في موضوعين هامين، لهما ارتباط بموضوع العلمانية: الأول: العلمانية والمذهب المالكي. والثاني: ماذا يعني تطبيق الشريعة في المذهب المالكي؟. وهما موضوعان مترابطان متداخلان يكمل أحدهما الآخر، فتطبيق الشريعة الإسلامية يعني رفض العلمانية، والعكس صحيح، ولذلك جمع بينهما في هذه الرسالة. ولا تخفى أهمية هذين الموضوعين في إطار التعرض لموضوع العلمانية وبحث موضوعاتها المختلفة وتناولها من زوايا مختلفة، والمؤلف سلط الضوء على أهم جوانبها وأبرز تجلياتها، متجبنا الاشتباك مع معارضيه ومخالفيه مفسحا المجال للعرض الهادئ لنصوص واضحة بينة لا لبس فيه العلماء المذهب المالكي. (الكتاب ص 5)

وبين في الرسالتين أن المذهب المالكي عبادة وشريعة، علاقة بين العبد وربه، وعلاقة بين العبد ومحيطه، وأنه لا حجة عند المغاربة على مر تاريخهم إلا الشريعة، ولا مرجع إلا هي، وأنه لا يجوز التحاكم عند المالكية إلا إلى القرآن والسنة. وأن السياسة إذا لم تتقيد بالشريعة فهي مرفوضة، وأن المذهب المالكي ظل يحكم المغرب في شتى مجالات الحياة: السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، إلى أن جاء الاستعمار فغير وبدل وأوقف العمل بأحكام الشريعة في عدة مجالات. كما بين كيف أن الحفاظ على الأحكام الشرعية أهم واجب على السلطان عند علماء وسلاطين المغرب.

وتكلم عن عناية السلاطين العلويين بالزكاة الشرعية وإلغاء المكوس، وإنكار المالكية لتبديل الزكاة بالضريبة، وأنه وَقَفَ خَلْفها دول غربية على رأسها فرنسا وإنجلترا، وأنها أحد أهم أسباب خلع السلطان عبد العزيز من قبل علماء مراكش وفاس.

ثم أبرز أن الدول التي حكمت المغرب كانت حريصة على تطبيق الشريعة ومن ضمنها الحدود الشرعية. بل إن بعض الحكام مثل يعقوب المنصور كان يقيم الحدود حتى في أهله وعشيرته الأقربين.

وظل هذا دأب الدولة العلوية الحاكمة في المغرب منذ نشأتها إلى ما قبل الحماية ودخول الاستعمار، حتى أنكر السلطان العلوي محمد بن عبد الله تبديل الحدود الشرعية بالقوانين الوضعية وقال: وذلك من المنكر الذي لا يرضاه الله له والمؤمنون، لأنه خرق للشريعة وإبطال لأحكام القرآن. (الكتاب ص 6)

كما ظل الخمر ممنوعا طوال تاريخ المغرب، ولم يرخص لغير اليهود والنصارى ببيعه وشربه، ولم يعرف أن الدولة المغربية أعطت ترخيصا لمسلم لبيع الخمر إلا بعد مجيء الاستعمار.

كما تعرض المؤلف لعناية الدولة العلوية بجمع الجزية من اليهود، ومناهضة علماء المالكية للبنوك الربوية. وأن الربا لم يدخل في صورة منظمة ومؤسسة إلا لما سقط المغرب فريسة للتدخلات الأجنبية، في عهد السلطان عبد العزيز، وكان إحداثه للبنك الربوي أحد أهم أسباب خلعه وتعيين السلطان عبد الحفيظ مكانه.

ثم تحدث عن علمنة القانون في تاريخ المغرب وبين أن الظهير البربري أهم مظاهر العلمنة في المغرب. وأن المحاكم الإسلامية المعتمدة على المذهب المالكي كانت تشمل جميع المخالفات سواء كانت الأحوال الشخصية أو الجنائية أو غيرها. وأول من فصل بين القضاء الشرعي المعتمد على الشريعة  والقضاء الجنائي وغيره هو المقيم العام ليوطي.

وفي ظل الاحتلال والحماية الفرنسية تم إقصاء الشريعة الإسلامية وإحلال القانون العلماني الوضعي محلها. وبين أن أهم أهداف السياسة البربرية هي: فرنسة البربر، وإخراجهم من الإسلام والقضاء على القرآن، وتنصيرهم. (الكتاب ص 7)

وفي الرسالة الثانية بين ماذا يعني تطبيق الشريعة في المذهب المالكي من الناحية السياسية والإعلامية والاجتماعية والقانونية والاقتصادية. ونقل نصوص المالكية في ذلك.

هذا، ولا يفتأ العلمانيون في اختراع الشبهات تجاه تطبيق الشريعة الإسلامية واتخذوا ذرائع شتى لذلك، كان من إبرازها: اتخاذ الأقليات أداة اعتراض على حاكمية الشريعة واستعملوها ورقة ضغط وعقبة في وجهها. مع أن الشريعة ظلت تحكم خلال قرون عديدة، ولم تشكل مسألة الأقليات أية مشكلة أو عائق في وجه الشريعة، ولم تنتقص الشريعة شيئا من تدين هذه الأقليات، لأن شرائع هذه الأقليات ليس فيها فقه معاملات مدنية. فالشريعة الإسلامية ليست بديلا لشريعة مدنية نصرانية، وإنما هي بديل للقانون الوضعي العلماني الذي جاء به الغزاة القاهرون للأغلبيات والأقليات جميعا.

فليس للنصارى تشريع قانوني يهدده تطبيق الشريعة. بل العلمانية هنا هي المذهب الند للإسلام والنصرانية معا لا النصرانية. وتطبيق الشريعة يكفل للنصارى حرية تدين أكثر مما يكفلها لهم النظام العلماني. وبالتالي فعلى النصارى دعم تطبيق الشريعة الإسلامية بدل التخويف منها .

وطالما روج العلمانيون أن العلمانية هي الحل المثالي لتجاوز التشظي المذهبي، وليست هذه إلا ذريعة لتجاوز الإسلام وقيمه وشرائعه. فها هو لبنان الجريح مثال صارخ لتلك العلمانية البئيسة المفلسة. ولا توجد دولة تعيش حالة، من الاضطراب والفوضى، وانعدام الأمن والتناحر السياسي بدون أدني هدف مثل لبنان، لا يجتمع أهلها يوما إلا تفرقوا في اليوم الموالي أكثر عما كانوا قبل اتفاقهم. ولم تجلب لهم العلمانية إلا الضعف والوهن. (الكتاب ص 8)

إجمالا تضمن الكتاب بعد المقدمة، كما أسلفنا، محورين أساسين:  الأول : العلمانية والمذهب المالكي ، واشتمل على المذهب المالكي عبادة وشريعة، إنكار المالكية للحرية بمفهومها العلماني، السياسة إذا لم تتقيد بالشريعة فهي مرفوضة، توقيف العمل بأحكام الشريعة في المغرب، الحفاظ على الأحكام الشرعية أهم واجب على السلطان، تحريم المالكية التحاكم إلى غير الكتاب والسنة، إنكار المالكية لتبديل الزكاة بالضريبة، أول من بدل الزكاة الشرعية بضريبة الترتيب، تطبيق الحدود الشرعية في عهد الدولة العلوية: الخمر، الدعارة، عناية الدولة العلوية بجمع الجزية من اليهود، مناهضة المالكية للبنوك الربوية، أحكام أخرى. ثم الظهير البربري أهم مظاهر العلمنة في المغرب وموقف المغاربة منه، جاء فيه: علمنة القانون: فرنسة البربر أحد أهم أهداف السياسة البربرية، الإخراج من الإسلام والقضاء على القرآن، وتنصير البربر، والاحتجاج ضد السياسة.

وعنون المحور الثاني: ماذا يعني تطبيق الشريعة في المذهب المالكي؟ من الناحية السياسية، ومن الناحية الإعلامية، ومن الناحية الاجتماعية، ومن الناحية القانونية، ومن الناحية الاقتصادية.

وذيل الكتاب بملاحق:  قرار رقم: 48 (10/ 5) بشأن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، قرار رقم: 99 (2/ 11) بشأن العلمانية، قرار رقم: 100 (3/ 11) بشأن الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة، قرار رقم: 146  (4/ 16) بشأن القراءة الجديدة للقرآن وللنصوص الدينية.