في أصل كلمة الجلباب وأول من ارتداه من المغاربة

لم يكن لفظ الجلباب شائعا إلا في المغرب والأندلس؛ ويعتقد أن أصله من الكلمة العربية “جلباب” كما أورد ابن منظور في لسان العرب؛ وكلمة جلابية في المغرب لم تكن تعني سوى لباس خاص بالرجال من اختصاص الفئات العامة والفقراء وتستهوي الأشخاص والمحترفين للحراسة الليلية والصلحاء[1].

وأولى الإشارات الدالة على أن الجلباب كان لباسا خاصا بالصلحاء  ما أورده صاحب كتاب “دوحة الناشر” في ترجمته لأحد صلحاء مدينة تطوان بداية القرن 15م، وذلك زمن السيدة الحرة؛ “وكان أبو عبد الله محمد البهجة الأندلسي من أصحاب الشيخ أبي الحسن يشتري له _ أي للرجل الصالح _ برنوسا وجلابية وشاشية”[2] . كما أن الإشارة إلى الجلباب قد وردت كذلك  عند  صاحب كتاب” الروض العطر الأنفاس” في ترجمته لأحد صلحاء فاس؛ وهو سيدي عزوز [3].

ولم يقتصر لبس الجلباب على الصلحاء من المغاربة فقط؛ بل كان لباس الفقراء كذلك؛ حيث إن الفرنسي مويط الذي قضى إحدى عشر سنة في الأسر زمن السلطان المولى إسماعيل العلوي؛ قد  أشار إلى هذا اللباس باعتباره لباس الفقراء؛ حيث يقول في مذكراته التي ألفها بعد رجوعه إلى فرنسا: “وكان لباسنا عبارة عن جلباب من صوف ذي غطاء للرأس وكمين ككساء راهب؛ وكان يصلح كقبعة”[4]. وأما لباس العلماء والأغنياء والأعيان فقد كان مختلفا؛ حيث وصفه ليون الإفريقي (الحسن الوزان) الذي زار مدينة فاس أواسط القرن السادس عشر بالقول: “وأهل فاس أعني الأعيان منهم أناس محترمون حقا؛ يرتدون في الشتاء ملابس من قماش الصوف المستورد من الخارج؛ تتكون من سترة ضيقة جدا لها نصف أكمام (يشير في تصورنا للبدعية)؛ توضع فوق قميص وفوقها عباءة واسعة مخيطة من أمام ويغطون كل ذلك ببرنس (سلهام) ويلبسون على رؤوسهم  قلنسوة ويلفون حول القلنسوة عمامة من كتان تدور مرتين حول الرأس وتمر تخت الذقن؛ ومن عادة العلماء والأعيان المتقدمين في السن أن يلبسوا سترات عريضة الأكمام مثل ما يلبسه نبلاء البندقية[5]. ولم يغفل الحسن بن محمد الوزان الإشارة إلى لباس فقراء وعامة مغرب القرن 16م بالقول: إنهم كانوا يرتدون ثوبا من نسيج صوف البلاد الخشن وبرانسهم (السلهام) من نفس النسيج .

وإذا أردنا  مزيد تدقيق في الكيفية التي كان يتزيى بها الخاصة من الناس؛ فإن ذلك يقتضي الرجوع إلى لباس السلاطين؛ وخصوصا سلاطين الدولتين المرينية والسعدية؛ والتي وردت إشارات عن طريقة اللباس لديهم في المراجع التاريخية. فإذا كان السلاطين من  بني مرين والوطاسيين قد حافظوا على بعض الأزياء الرسمية التي سادت في العصر الموحدي؛ كالعمامة  والبرنس؛ وأضيف إليها الإحرام والجبة؛ لكن باللون الأبيض؛ شعار الدولة[6] . فإن السعديين الذين حكموا المغرب بداية من أواسط القرن السادس عشر لم يكن يتعدى لباسهم بداية دخولهم فاس الدراعة والكساء[7]. لكنهم سيستفيدون بعد ذلك من تقاليد المرينيبن في اللباس؛ بل سيصبح اللباس التركي هو اللباس الرسمي لملوكهم خصوصا زمن عبد الملك واحمد المنصور الذهبي؛ وهو اللباس الذي استمر كجزء من تقاليد السلاطين العلويين زمن المولى الرشيد والمولى إسماعيل[8] .

 متى أصبح الجلباب المغربي لباسا للملوك والسلاطين؟ 

لا أحد يمكن أن يقدم جوابا شافيا في غياب المراجع التاريخية التي يمكن أن تقدم تاريخا محددا؛ والاستثناء الوحيد الذي استطعنا الوقوف عنده؛ هو كتاب” العز والصولة” الذي يؤرخ لفترة حكم السلطان عبد الرحمان بن هشام العلوي؛ وهي البدايات التي صادفت العشرية الثانية من القرن التاسع عشر؛ حيث سيتولى هذا السلطان الملك بعد وفاة عمه السلطان المولى سليمان سنة 1822م. فمؤرخ الدولة العلوية عبد الرحمان بن زيدان يصف في كتابه” العز والصولة” لباس السلطان بقوله: “وإذا دخل القصر لبس طبق ما قدمنا قلنسوة بدون عمامة ولباسه المعتاد سروال وقميص قفطان من الملف، أو ما يشاكله بحسب طقس الزمان وفرجية وجلابة من النسيج الوطني؛ وأما السلطانين المولى الرشيد والدولة إسماعيل فإنهما كانا يقلدون ملوك الدولة السعدية “[9] .

وأما لماذا أصبح الجلباب جزءا من لباس السلطان، فلا أحد يمكن أن يقدم إجابة شافية؛ غير بعض الفرضيات التي تقبل التأكيد أو النفي؛ ومنها حسب ظننا: هو تمييز السلطان عمن هم في خدمته، والمقصود بهم “مشاورية القصر”؛ خصوصا وان لباس هؤلاء وإلى اليوم عبارة عن القفطان وفوقه الفرجية أو المنصورية ( نسبة إلى المنصور الذهبي)، ثم السلهام أو البرنس دون الجلباب، وهو اللباس السلطاني الذي كان يلبسه السلطان أحمد المنصور الذهبي؛ وأصبح جزء من لباس البلاط السلطاني. كما أن ارتباط الجلباب بالصلحاء وعامة الناس؛ سيجعل السلطان لن يتورع في ارتدائه، خصوصا إذا استحضرنا  سيرة سلاطين تميزوا بالزهد والتقرب من العامة من الناس، كالسلطانين المولى سليمان وابن أخيه السلطان عبد الرحمان بن هشام، هذا الأخير الذي لم يكن يتورع عن لبس المرقع من الثياب، فقد شوهد حسب ما أورد المؤرخ عبد الرحمان بن زيدان و قد لبس سروالا مرقعا من إحدى رجليه وهو يهم بالدخول إلى العاصمة الإسماعيلية (مدينة مكناس)[10].

انتشار  الجلباب بين النخب المغربية وعموم المغاربة

وقد قامت نخب المجتمع المغربي نهاية القرن 19 كما أورد وستر مارك في كتابه “مراسيم الزواج في المغرب”  (المنشور بداية القرن 20) باتخاذ الجلباب لباسا لها، متخلية عن  المحيط (ثوب يلف فوق اللباس) بالمحيط، فالناس على دين ملوكهم. ويؤكد صاحب نفس الكتاب على أنه في تلك المرحلة ظهر الجلباب كلباس خاص بداخل القصور المخزنية، لكنه بالتدرج تجاوز أسوارها وانتشر لدى الفئات الوسطى والسواد الأعظم من السكان.

وأما الإشارات التي تدل على أن الجلباب أصبح لباسا مخزنيا؛ ارتداء  سفير المولى عبد الرحمان بن هشام عبد القادر أشعشاع  لما أعتبره الفرنسيون لباسا وطنيا، حيث قدموا وصفا دقيق لهذا السفير الذي كلف بسفارة مهمة إلى باريس بين سنتين 1845م و 1846م. ومما جاء في هذا الوصف الفرنسي لهذا السفير المغربي: أن هذا الأخير “يلبس طربوشا حادا في نهايته؛ وتحيط به عمامة من الثوب الموصلي الرقيق، ويحيط برأسه ثوب أحمر  اللون من الكشمير.. ويرتدي فوق عدة أقمصة قصيرة لباسا فضفاضا، يسمى الجلابة، وهو اللباس الوطني في المغرب “[11].

ظهور الجلباب النسائي

وأما لبس النساء للجلباب فقد حاولت نساء فاس بداية القرن العشرين أن يستبقن عجلة الزمان، وذلك من خلال اتخاذ الجلباب لباسا لهنن مما سيدفع نخب مدينة فاس لمواجهة الأمر بكل قسوة وشدة. و للتدليل على  هذه الواقعة فقد تطلب الأمر الرجوع إلى الحوالات كمصدر تاريخي هام، خصوصا وأن كتب التاريخ لا تسعفنا على ذلك، وهي الحوالات التي عنيت بتوثيق أوقاف المدن وما يحبس على المساجد والمدارس والفقراء. فقد ورد في حوالة القرويين توثيق يرجع تاريخه إلى 10 صفر 1323 وهو ما يوافق 15 أبريل 1905، إشهاد على 12 نسوة بعدم الركوب على الدابة وعدم لباسهم السلهام أو الجلابة.

وقد كان هذا الإشهاد الموثق والذي يخضع لكافة شروط التوثيق دليلا على المقاومة الكبيرة والشرسة التي واجه بها المجتمع الفاسي الذكوري نساءه اللواتي حاولن التزيي بلباس كان إلى عهد قريب لباسا سلطانيا خالصا. وإن كان هؤلاء قد نجحن في ذلك، حيث ستصف إحدى الفرنسيات نساء فاس وهن يرتدين الجلباب في احد أعراس المدينة، بعدما كانت هؤلاء النسوة بداية القرن العشرين خصوصا الكريمات النسب يتلحفن بقطعة طويلة من قماش ابيض(حايك) يحجب أشكالهن تماما، ويتلثمن لزوما بلثام أبيض غليظ يترك العينين مكشوفتين كما ورد في كتاب “فاس قبل الحماية” لروجي لوطورنو[12].

وبذلك تطور الجلباب المغربي عبر السنين، من لباس للرجال ليصبح مشتركا بين الرجال والنساء، بعد أن تخلت النساء عن لبس الملحف الذي كان سائدا. كما أنه تطور في شكله، حيث كان في بداية أمره عند الرجال واسعا فضفاضا ثم أصبح بالتدرج أكثر قربا من الجسم دون أن يلامسه ولا أن يحدد ملامحه. وعلى امتداد السنوات تطور في تفصيله وخياطته حتى استوى على صورته المعروفة حاليا، وأصبح مع البرنس والبلغة اللباس الوطني للمغاربة[13]، بل أصبح هذا اللباس جزء من التقاليد المعمولة في المناسبات الرسمية؛ خصوصا أثناء افتتاح البرلمان .

المراجع
[1] مقر محمد، اللباس المغربي من بداية الدولة المرينية إلى العصر السعدي، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 2006، ص 153.
[2] دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر ؛ محمد بن علي ابن عسكر الحسني الشفشاوني، ص 43.
[3] أبي عبد الله محمد بن عيشون  الشراط، الروض العطر الأنفاس بأخبار الصالحين من أهل فاس، ص 131.
[4] رحلة الأسير مويط، ترجمة محمد حجي و محمد الأخضر، دار المناهل للطباعة والنشر، 1990، ص 63.
[5] الحسن بن محمد الوزان الفاسي، وصف افريقيا، ترجمة محمد حجي و محمد الأخضر، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط2، 1983،  ص 151.
[6] اللباس المغربي من بداية الدولة المرينية إلى العصر السعدي، مرجع سابق، ص 203.
[7] اللباس المغربي من بداية الدولة المرينية إلى العصر السعدي، مرجع سابق، ص 205.
[8] عبد الرحمان بن زيدان، العز والصولة في معالم نظام الدولة، الجزء 1، مطبوعات القصر الملكي، الرباط، 1961، ص 57.
[9] العز والصولة في معالم نظام الدولة، مرجع سابق، ص 57 .
[10] العز والصولة في معالم نظام الدولة، مرجع سابق ص 60.
[11] محمد بن عبدالله الصفار التطواني، رحلة الصفار إلى فرنسا 1845-1846، تحقيق سوزان ميللر وخالد بن الصغير، ترجمة خالد بن الصغير، دار السويدي، 2007، ص 53.
[12] اللباس المغربي من بداية الدولة المرينية إلى العصر السعدي، مرجع سابق، ص 154.
[13] محمد بوسلام، اللباس التقليدي في المغرب: الجذور والإنتاج والأصناف والتطور، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2014، ص 141.