توطئة

شَكّل جيش التحرير المغربي حالةً نضالية متميِّزة في البيئة الـمغاربية والإفريقية، ومُلْهِمة للـمُطالِبين منذ 1930 باستقلال المغرب، ومُـحفِّزة لنشاط الذاكرة الفردية والـجماعية، لتوثيق الأحداث ومُجرياتها، والوقائع وتأثيراتها، والشخصيات ومواقفها، والعمليات وأصدائها. فاغتَنَت المكتبة المغربية والعربية بـمذكرات وكُتب وروايات عن ملحمة جيش التحرير في شمال المغرب وجيش التحرير في الجنوب، أكّدَت اهتمام المغاربة بفنّ التوثيق والتأريخ، وأتاحت للباحثين والناشئة الاطلاع على جوانب معروفة وأخرى دَفينة أو سرية من تاريخ نضال وكفاح جيش التحرير الـمغربي.

الذّاكرات وأنواعها على سبيل الإجمال

الذاكرات الفردية والجماعية أنواع، نسوق على سبيل الذّكْر منها:

الذاكرة الرسمية: وهي مجموع ما تحتفظ به الدّول والـحكومات وأجهزة الـمخابرات العسكرية والأمنية من المعطيات والوثائق والسِّجلّات والتقارير الخاصة بها، وبتاريخها، أو تلك الـمُعبّر عنها في دوريات وتقارير وجريدة رسمية تصدُر عن الدول وباقي عمليات التوثيق الـمختلفة.

الذاكرة الحزبية: الـمُعبّر عنها في مُجمَل التراث الوثائقي للأحزاب السياسية وقادتها، وأرشيفها وبياناتها ومشاركاتها الـعلمية والإعلامية وأنشطتها الـمختلفة، وتاريخها النضالي والحكومي وغيره.

الذاكرة الشعبية: الـمتجسّدة في ذلكم المخزون الحضاري العريق “المتواتر الـحلقات [من] أدَقّ دَقائق شعائر وممارسات الولادة والموت الأولى إلى أيامنا (..) إلى الـمطبوخ والحكايات الشعبية والنصوص الشفهية”[1] للفلاحين والبسطاء والمقاومين والعلماء وغيرهم، تتكامَل ذاكرات أفراد الـشعب جيلاً تلو جيل لتُشكّل الذاكرة الجماعية الشعبية في امتدادها الـحضاري والثقافي والفولكلوري والديني والاجتماعي.

الذاكرة الأثرية: التي تُفصِح عنها حصيلة المعمار والآثار والمواقع الأركيولوجية والـمباني والـمَدافن والسّراديب والأسوار الـمُحصَّنَة والمآذن والقِباب والقُصُور العريقة، تُؤرِّخُ لنا بالطّوبِ والحجر والزليج والجبص والنقش ما أبدعته الأيادي، وتنتصب شاهداً على العصر الذي شُيّدت فيه.

الذاكرة الفردية: وهي من شِقّين؛ ذاكرة فردية قائمة على الشّفهي، أي الرواية الشفهية لأحداث معينة، وذاكرة قائمة على المذكرات الشخصية والإصدارات الفردية ذات الطابع التاريخي أو السياسي أو الصحفي-الحواري، وهي الصّنف الذي يَندرِج ضِمْـنه ما نتطرَق إليه في هذا الـمقال عن حضور وقائع ومسارات وتجربة جيش الـتحرير في بعض المذكرات الفَرْدية، وبَيان أهمية دينامية الأحداث ونشاط الذاكرة.

المذكرات الشخصية شاهِداً على عمليات جيش التحرير

تُجسّد لنا حَصيلة ما وَقفنا عليه من مذكرات وكتابات الذاكرات الفردية والـثنائية والـجماعية عن جيش التحرير المغربي فَضَاءً للكتابة أو السّيرة الذاتية أو الحوار، وفضاءً للشّهادة الشّفهية والإدلاء بالوثائق والمستندات التّاريخية، و”تُعَدُّ المذكرات مِن أبرز تجليات الذاّكرة، وهي تُكتَب في الواقع مِن قِبَل أشخاص شاركوا في الأحداث التاريخية التي يَرْوُونهَا. وتَدْخُلُ في عداد الشّهادات، لأنّ المقصود منها التّعريف بالماضي مِن طرف أشخاص شاهَدُوه، بل وساهموا في أحداثه”[2] واحتَفَظوا بما يُغْني رصيدنا عنه.

وفيما يلي نماذج وعينات مُختارَة، نستنطق مُعطياتها ونَسْتَجلي أخبارها بشأن تجربة جيش التحرير المغربي بالشَّمال المغربي:

مذكرات المقاوم عبد السلام الجبلي المعنونة بـــ“أوراق من ساحة المقاومة المغربية”، الصادرة عن المطبعة الورّقة الوطنية، مراكش، في طبعتها الثانية سنة 2021، جاءت حَسَب تقييم دارسيها ومُقدّميها بـــ”الصِّدقية في رواية الوقائع، والموضوعية في صياغة الأحكام، والتّحلي بمبدأ النقد والنقد الذاتي في مقاربة الكثير من المواقف والإشكاليات السياسية الـمُثيرة للجدل”[3]، مَدّنا فيها مولاي عبد السلام بمعطيات وافية عن عمليات المقاومة الفدائية والظروف العامة والخاصة التي قادَت لتأسيس جيش التحرير واندلاع المواجهة الميدانية ضد الاحتلال، وعن مواقف عناصر جيش التحرير[4] من مفاوضات إكس-ليبان. وفي ثلاث صفحات أخرى يُقدّم إفادات مِن زاوية نظره فيما يخص الطريقة التي صُفّيَ بها العضو البارز في المقاومة المسلحة وجيش التحرير وقتئذ المعروف بعباس المساعدي، ثم تطرَق بتفصيلٍ لــ”مُلابسات حَل جهازَيْ الـمقاومة وجيش التحرير”.[5]

المذكرات الشخصية للمقاوم الأسبق إدريس فرشادو التي عنوانها “كفاح ونضال وجهاد أمّة”، وظّف صاحبها مخزون ذاكرته وشهادته في سَرْد معلوماتٍ عن خلايا المقاومة بالرباط وبعض عناصرها الذين تجاوبوا مع نداء التحرير وانضموا إلى جيش التحرير المغربي[6]، وتحدّث عن إسهامه مدة ثمانية أشهر من انطلاق عمليات جيش التحرير في “كتابةِ المناشير وتوزيعها، وجمْع التبرعات، والتخطيط والتنظيم والحراسة”[7] في مدينة الرباط، وانخراطه في كثير مِن العمليات الفدائية دعْمًا وإسنادا لروح ثورة التحرير التي أَعقبت نفي السلطان محمد الخامس (تــ 1961). كما يَسرد الشاهِدُ قائمةً بأسماء الشباب الفدائيين من الدار البيضاء والرباط الذين فَرُّوا إلى المنطقة الخليفية وتَلَقَّوا لشهور تأطيرا مباشرا من السيد عبد الكريم الخطيب قائد جيش تحرير الشمال والسيد عبد القادر بوزار الضابط الجزائري، بالمكان الشهير باسم جنان الرهوني بمدينة تطوان، وهم المناضلون: “علال الإدريسي، رضوان اغفير، محمد بركاش، إبراهيم الإدريسي، عبد الرحمن عليوة، عبد الغني الودغيري، مصطفى العبدري، عبد القادر بنيوسف، عبد الفتاح سباطة، محمد الأزموري رمزي، العربي رودياس”[8]، والكاتب بهذا العمل يَحفَظ لنا أسامي العناصر الثانوية في هرمية جيش التحرير، ويُخلّد إنجازات أبطال الهامش والـمتطوعين الذي بَذَلوا الغالي والنفيس دون أن نتمكّن نحن أجيال اليوم من سماع أصواتهم أو قراءة مذكراتهم.

مذكرات المقاوم الساسي الإسماعيلي الذي خَصّص كتابا مرجعيا مهما صَدَر له عن المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير في طبعته الأولى سنة 2021 بعنوان “ذاكرة مقاوم؛ سرد لأحداث تاريخية بالصور والوثائق من 1950 إلى 1965″، ضَمّنَه صورا ووثائقَ لأدواره في جيش التحرير، كإيراده نموذج بطاقة المعلومات المسلَّمَة إلى أفراد جيش التحرير، وقائمة بأسماء وصِفَات “المؤسِّسين والمسيِّرين لجيش التحرير في قبائل مغراوة ولمطالسة التابعة لمركز مزكيتان”[9]، و”المؤسّسين والمسيرين لجيش التحرير في قبيلة بني بويحيى التابعة لمركز صاكة”[10] مِن توابع إقليم كرسيف، وإتْيانِهَ بوثائق تضمّنت قوائمَ مساهمات المواطنين في تموين جيش التحرير، وقوائم أخرى للمتبرعين، مما يدلّ على حقيقة وجود حاضنة اجتماعية كُبرى لحرب التحرير. ويَنفرد الإسماعيلي بنشْر رسالة[11] تُقدِّمُ معطيات سرية تتعلّق برصْدِ الحكومة الفرنسية جائزة مقدارها مليوني فرنك لمن يغتال القياديين البارزين في جيش تحرير الشمال؛ عبد الله الصنهاجي وعباس المساعدي.

فيما اتّخذَ للفصل الثالث من الكتاب عنوان “مِن العمل الحزبي إلى جيش التحرير”، استعرَض فيهِ مَسيرة المساهمة النِّسائية في جيش التحرير، ذاكراً نماذج من النساء المغربيات الأبيات؛ منهنّ السيدة غيثة المساعدي، والمجاهدة مينة بنحدو، والمجاهدة عائشة بنت محمد. ويَسْتَحْضِر في هذا المقام بعض المهام التي أناطتها به القيادة الميدانية لجيش التحرير في الناظور، ومنها “مرافقة مجموعة مِن المناضلات اللّواتي تربطهنّ صِلَة قَرابة وثيقة بزوجة عباس المساعدي للالتحاق بجيش التحرير مِن أجل مساعدة أفراده في تهييء الأكل والشّرب، وتَطبيب الجرحى ومواساة المكلومين”،[12] كما يُحيطنا عِلْماً في هذا الفصل بترتيبات تكوين لجنة التنسيق بالناظور بين الثورتين المغربية والجزائرية، وَيذكر أسامي شخصيات من منطقة عين زورا في دوار أولاد حقون “منطلَق ثورة جيش التحرير المباركة، والحاضنة المناصِرة للمجاهدين”،[13] والاستعدادات الأولى لحرب التحرير، مُرْفِقًا صورةً لمن أطلق عليهم “أبطال نقْل الأسلحة في ظروف جد صعبة”[14] لمراكز جيش التحرير في الريف والشرق، وذكر أسماء بعض المواطنين المتطوعين في صفوف جيش التحرير بعد عودتهم مِن الحرب العالمية الثانية ومن معارك الهند الصينية.

أما الفصل الرابع فخصّصه للحديث عن ميعاد انطلاق الثورة يوم 2 أكتوبر 1955، وفيه معطيات عن اللقاء التحضيري للهجوم، ومراحل إخراج الجنود مِن ثكنة الكُوم[15] وإلحاقهم بجيش التّحرير، ولحظات الإعداد لعملية فم صاكة، وعملية إحراق مستودَع لدول الحلفاء بمنطقة حاسي مظلم، وكمائن اختطاف الجنود الفرنسيين ومطاردة العملاء في كرسيف والنواحي. كما لم يُفَوّت الحديث عن بعض “التّصدعات في صفوف جيش التحرير”[16] لا سيما القيادة العسكرية والمدنية. فيما أَفْرَدَ الفصل الثامن لإيراد شهادته على مآل رجال المقاومة وجيش التحرير بعد استقلال المغرب.

خاتمة

إنّ ما قَدّمناه من نماذج مُختارة للتدليل على قيمة ونشاط الذاكرة الفردية في صيانة ذاكرة الكفاح الوطني، ولا سيما مرحلة العمل المسلح بقيادة جيش التحرير في شمال المغرب، الذي نُخلّد في سنة 2024 الذكرى 69 لانطلاق عملياته يوم 2 أكتوبر 1955، بعد مخاض عسير وظروف متقلّبة وترتيبات شاقة وتضحيات نبيلة؛ لا يَفي بالغَرض، ولا يُـقدّم الصورة التي كانَتْها مرحلة جيش التحرير، تأسيسًا وتدبيرا وسلاحاً وكفاحاً، ولا يُحيط إلا بشذرات من شهادات بعض الأفراد على عصر حرب التحرير، فيما تظلّ المذكرات والإصدارات الأخرى _ “صفحات من ملحمة جيش التحرير بالجنوب المغربي“، للمقاوم محمد بن سعيد آيت يدر، الصادرة في طبعتها الأولى سنة 2001، و”مذكرات مؤسِّس وقائد مقاتِل في صفوف جيش التحرير” لــعبد العزيز أقوضاض، الذي أعَدّه ونشره الباحث محمد لخواجة سنة 2008، و”ذاكرة نضال وجهاد؛ حديث عن سنوات التحرير والجمر والغبار” للسيد الغالي العراقي أحد أعضاء القيادة العليا لجيش التحرير بشمال المغرب، و”الريف بين القصر وجيش التحرير وحزب الاستقلال”، للباحث مصطفى أعراب الذي قام بنشره سنة 2001، والمذكرات الشخصية للقائد العام لجيش التحرير المغربي الدكتور عبد الكريم الخطيب التي حَملت عنوان “مَـسار حَياة”[17]، وبعض أعداد “سلسلة مواقف؛ شهادات وإضاءات”، للدكتور محمد عابد الجابري، وسلسلة “وجود وأحداث من ذاكرة المقاومة وجيش التحرير بالمغرب” التي نشرتها المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، مُستضيفةً المقاومينَ سعيد بونعيلات والحاج المهدي الناموسي وحسن صفي الدّين والحاج الحسين برادة _ مُساعِدةً على بِناء تمثُّل أوضحَ وصورةٍ أفصَح لمسار كفاح جيش التحرير وأعلامه وقادته ومتطوّعيه.

المراجع
[1] انظر: مقال "الرجل والمرأة في التراث الشعبي؛ الذاكرة الشعبية الجماعية الفولكلورية"، دون اسم الكاتب، مؤسسة هنداوي، مصر، 2024.
[2] (الطاهري) عبد العزيز، "نحو مقاربة علمية لتاريخ المغرب خلال زمن الحماية"، ص 61.
[3] (الجبلي) مولاي عبد السلام، "أوراق من ساحة المقاومة المغربية"، المطبعة الوراقة الوطنية، مراكش، الطبعة 2، 2021، ص 11.
[4] (الجبلي) مولاي عبد السلام، "أوراق من ساحة المقاومة المغربية"، مرجع سابق، ص 135.
[5] (الجبلي) مولاي عبد السلام، "أوراق من ساحة المقاومة المغربية"، مرجع سابق، ص 161.
[6] (فرشادو) إدريس، كفاح ونضال وجهاد أمة، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الطبعة الأولى، الرباط، 2015، ص 37.
[7] (فرشادو) إدريس، كفاح ونضال وجهاد أمة، مرجع سابق، ص 41.
[8] (فرشادو) إدريس، كفاح ونضال وجهاد أمة، مرجع سابق، ص 82 – 83.
[9] (فرشادو) إدريس، كفاح ونضال وجهاد أمة، مرجع سابق، ص 22.
[10] (فرشادو) إدريس، كفاح ونضال وجهاد أمة، مرجع سابق، ص 23.
[11] (فرشادو) إدريس، كفاح ونضال وجهاد أمة، مرجع سابق، ص 25.
[12] (فرشادو) إدريس، كفاح ونضال وجهاد أمة، مرجع سابق، ص 68.
[13] (فرشادو) إدريس، كفاح ونضال وجهاد أمة، مرجع سابق، ص 72.
[14] (فرشادو) إدريس، كفاح ونضال وجهاد أمة، مرجع سابق، ص 79.
[15] (فرشادو) إدريس، كفاح ونضال وجهاد أمة، مرجع سابق، ص 89.
[16] (فرشادو) إدريس، كفاح ونضال وجهاد أمة، مرجع سابق، ص 128.
[17] انظر: (الخطيب) عبد الكريم، "مسار حياة"، إعداد حميد خباش ونجيب كمالي، تقديم نيلسون مانديلا، الطبعة 1، 1997.