توطئة

الكتابُ الصادر عن المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير في طبعته الأولى سنة 2011 ضمن وَرش “تَراجم أعلام المقاومة”، في 115 صفحة. والكتاب في الأصل تجميع لمداخلات وكلمات الباحثين والضيوف وممثلي أسرة المرحوم في الذكرى الأربعينية لوفاة المشمول برحمة الله المهدي بن عبد السلام بنونة، التي انعقدت بمدينة الرباط أواسط سنة 2010، وهو توثيقٌ لسيرة وأدوار عَلمٍ من أعلام الوطنية الأماهد، ابن حاضرة الشمال وعاصمة المقاومة (تطوان)، وتقديمٌ لشهادات فيّاضة بالاعتراف والإنصاف، تَمحَّلت تقريبَ جوانب من الحياة الشخصية والسياسية والنضالية والإعلامية للأستاذ الكبير المهدي ببن عبد السلام ينونة، وتسليطٌ للضوء على إسهام نوعيٍّ له زَمن التحرير والنضال السياسي من أجل مغرب حُر ومستقل وناهض.

مضامين الكتاب

في عز انطلاق شرارة المواجهة العسكرية بين الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي والاحتلال الإسباني؛ ازدان فراش آل بنونة يوم ٢٢ فبراير 1918 بالطفل الذي سيصير أحد رواد الحركة الوطنية المغربية، وأنشَط مناضلي الشمال، وصحفي لامع ودپلوماسي فوق العادة.

كان أولَ الشباب المغاربة دراسة بنابلس في فلسطين سنة 1929، وأوّل طالب مغربي يلتحق بتخصص الصحافة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. اشتغل فيما بين 1941 – 1945 بأعرق الجرائد العربية (الأهرام)، ومنها انتقل لممارسة مهام رئيس التحرير لجريدتي: (الحرية) و(الأمة) اللتان كانتا لسان حال “حزب الإصلاح الوطني” الذي انضمّ إليه المهدي إلى جانب عبد الخالق الطريس ومحمد طنانة وقادة آخرين، والناطق باسم كل الوطنيين يوم اشتدّت قبضة الإقامة العامة الفرنسية في المنطقة السلطانية على حرية الرأي والنشر وحرية الصحافة..

ولإجادته اللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية؛ إلى جانب العربية التي يُتقنها إتقانا، كتَب المهدي شِعرا ونثرا ومقالات قيّمة، ولنشاطه السياسي الكبير؛ تَم انتدابه لتمثيل الحركة الوطنية لدى هيئة الأمم المتحدة سنة 1947، وقد استَثمر مُقامه هناك؛ ليترأس “مكتب المغرب” في نيويورك، ناقلا بذلك مجال تدويل القضية المغربية من الجامعة العربية والمحيط العربي إلى الإطار الدولي الأممي. وقد طالعتُ في الكتاب نبذة من تقارير استخباراتية إسبانية فيما بين 1947-1949 تؤكد وقوف المهدي وراء عدم قبول اندماج إسبانيا الفرنكوية في المنتظم الدولي، وإرباكه مساعيها في الانضمام لهيئة الأمم المتحدة. كما رَفعَ في ذات التاريخ ملتمسَ قطْع الدعم المالي والمساعدات العسكرية عن فرنسا لدى لجنة الميزانية الأمريكية بالكونغرس.

من نضالاته السياسية والدبلوماسية المشهودة؛ الضغطُ لانعقاد أُولى جلسات مجلس الأمن لتدارس القضية المغربية عقب نفي السلطان محمد الخامس، وذلك مساء 21 غشت 1953، بل قَبلها بسنوات، يوم كان يحثّ ممثلي الدول العربية والمغاربية لتدارس الملف المغربي في أروقة الأمم المتحدة إلى جانب الملف الفلسطيني والإندونيسي.

يُجلِّي الكتاب عناصر إسهام نوعِيٍّ للأستاذ المهدي بنونة إزاء القضية الفلسطينية، التي ولِع بها شابا، وخبّرها صحافيا ودبلوماسيا، وأحاط بمجريات موقعها ضمن الصراع الدولي وفي عقلية كبار أوربا وأمريكا وبريطانيا خلال مُقامه في نيويورك وعمله في الأمم المتحدة. وقد توقفنا بكثيرٍ من الفخر والاعتزاز عند مضامين البرقية التاريخية التي بعثَ بها إلى قيادة حزب الإصلاح الوطني باعتبارها “الشاهد على حَدث” قرار التقسيم الجائر في حق فلسطين سنة 1948. فالرجل قاد جولات ماراطونية لإقناع ممثلي الدول العربية (العراق، اليمن، سوريا، لبنان، مصر، السعودية) الحاضرة في الأمم المتحدة بعدم التصويت على قرار تقسيم كوريا، في مقابِل إقناع ممثلي دول الكتلة الشيوعية (بولونيا، أوكرانيا، بيلاروسيا، منغوليا، يوغوسلافيا) بعدم التصويت على قرار تقسيم فلسطين، يوم كان عدد الدول المجتمِعة للتصويت (59 دولة)، وذلك لكَسبِ (21 صوتا لفائدة عدم تقسيم فلسطين)، الأمر الذي كان سيعرقل بلا شكّ قرار التقسيم، إلا أن الوفود العربية تلكّأت في التجاوب مع مُقترح (المهدي) فكان ما كان مما نعرفه في مسار القضية الفلسطينية الجريحة!

بعد انتهاء مهامه النضالية سياسيا ودبلوماسيا؛ استُقبِل استقبالا وطنيا حارا في سبتة وتطوان، وأدلى بتصريحات للصحافة تنمّ عن وعي دقيق بتفاصيل القضية المغربية ومسار الدفاع عن الحق العادل للمغرب في استرجاع سيادته واستقلاله وعودة السلطان. ثم استأنف دوره الوطني في الداخل.

عقِبَ الاستقلال؛ عيَّنه الملك محمد الخامس عضوا بالديوان الملكي مكلفا بالعلاقات العامة والإعلام، وظل ناشطا دپلوماسيا وسفيرا للمغرب بأكثر من دولة ولسنوات عديدة.

نال شرف تأسيس (وكالة المغرب العربي للأنباء)، ونجح في تسييرها في ظل شُح الموارد وضعف الإمكانيات، وظل رئيسها إلى أنْ أمَّمتها الدولة سنة 1973. وأطلق بالمبلغ المالي الزهيد الذي تَلَقّاه من الحكومة مقابل تأميم الوكالة؛ جريدة La Dépêche في الدار البيضاء. كما أهَّلته قدراته الصحفية لرئاسة (وكالة الأنباء الإسلامية الدولية) في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية، وإطلاق سلسلة وكالات أنباء في تونس والسينغال والجزائر وليبيا ومالي..

إلا أنه سرعان ما حَوّل الوجهة صوب العمل في إطار منظمة الهلال الأحمر الدولية، إذ ستمنحه سمعته ووطنيته فرصة النيابة عن الأميرة (لالة مليكة) في منظمة الهلال الأحمر المغربي لسنوات طويلة، ونَيل عضوية اللجنة التنفيذية لمنظَّمتيْ الهلال الأحمر والصليب الأحمر بجنيف أواسط الثمانينات.

وإلى جانب أعماله الوطنية الرائدة؛ تبقى أهم مبادرة ساهم فيها والتي نسيتها الذاكرة الوطنية وتاريخ المغرب الراهن؛ صياغته لمشروع “دستور” تَـقدَّم به وطنيو الشمال في فاتح ماي سنة 1954، وهي الوثيقة السابقة على زمانها، والتي _ مع الأسف_ بقيت حبيسة أرشيف حزب الإصلاح الوطني بتطوان، الذي اندمج في حزب “الاستقلال” مطلع 1956، فانطفأت الفكرة وولد المشروع ميتا !

كما خلّف الرجل كتابيه الشهيرين، “المغرب.. السنوات الحرجة”، باللغة العربية، و”مغرِبُـنا.. القصة الحقيقية لقضية عادلة” باللغة الإنجليزية، ومقالاتٍ فوقَ العَدّ.

وقد أجمَعت الشّهادات الموضونة في هذا الكتاب، وأجمَع العارفون بالرجل؛ أنه تميز طيلة مساره بالمبادرة، ونكران الذات، والصبر والثبات، ونشر المعرفة، والنضال. مع ما رافق ذلك من أخلاقٍ عربية إسلامية حميدة.

خاتمة

هذا غيض من فيض ما تضمّنه الكتاب عن مسار رجل وطنيّ كبير، الذي قد لا يكون مَحطَّ اهتمام ومعرفة به في أوساط شباب اليوم والأجيال الصاعدة، ولا حتى أولئك الذين يمُرّون بُكرةً وعشيا على منزله العريق بالمدينة القديمة بتطوان.

وافته المنية فجرَ 23 مارس 2010 عن عمر ناهز 92 سنة بالرباط، ودُفنَ بتطوان المحروسة.