المغاربة وفلسطين في القرن العشرين.. أدوار شعبية وحـزبية رائدة لدعم القضية

توطئة

تَعرّض المغرب لأصنافٍ من الاحتلالات الأجنبية، من مرحلة ما قبل الميلاد وإلى القرن العشرين، واجهَها المغاربة بصمودٍ وإرادةٍ وعزيمةٍ على الاستقلال، واستعانوا بدولهم العظيمة، المرابطية والموحدية والمرينية والسعدية والعلوية بصدِّ تطلُّعات الأجانب صوبَ بلادهم، فحُقَّ للشعب المغربي أن يُوصَفَ بالشعب المقاوِم، وأن توصَف دوله بالدُول الـمجاهِدة.

وفي السياق المعاصِر؛ تَزامن الاحتلال الفرنسي والإسباني للمغرب مع تزايد الأطماع الصَّهيونية في فلسطين، حيثُ صدَر وعْد بلفور خَمس سنوات فقط على معاهدة الحماية 1912، لذا كانت الأوضاع واحدة والمعركة واحدة والمصير واحد، ونشأت مِن ثَمَّ علائق قوية ومتينة بين فلسطين والمغرب طيلة القرن العشرين، بَنَت على ما كان من سالِف العلاقات وأواصر المحبة والتعاون منذ زمانٍ بعيدٍ. نستحضر في الجزء الأول من هذا المقال؛ محطات بارزة وناصعة لمظاهر التضامن والإسناد الشعبي والمدني والطّلابي المغربي، عبْر مسار تاريخي – تَرْكِيبي ينطلق من عصر الانتداب البريطاني على فلسطين إلى نهاية القرن العشرين.

مظاهر التضامن والتآزر الشَّعبي

تَفتَّحَ وعْي المغاربة إزاء مخاطر الاحتلال البريطاني لبلاد الشام مُبكِّراً، فـساهموا في تعزيز ارِتباط شبابهم وبَنيهم بأرض فلسطين التي هي سُرّة أرض الشام، وترافعوا بمختلِف الأشكال التي كانت بين أيديهم أو قادتهم إليها أفكارهم، ونرصد ذلك موَثَّقًا في الآتي:

الترافع الدبلوماسي والنضال الثقافي والدعم المادّي:

كانت أُولَى مؤشِّرات وعْي الحركة الوطنية المغربية بقضايا المشرق العربي في إرسال وفود طلابية إلى فلسطين، و”كان وَراء توجيه بِعثة تعليمية إلى نابلس بفلسطين في أكتوبر 1928″[1] السيد عبد السلام بنونة، كانت أغلبها من تطوان “تَلَقَّحَت بأفرادٍ من المنطقة السلطانية (..) تتألَّف من تلامذة الثانوي”[2] بهدف الدِّراسة في مدرسة النجاح _ التي أضحت اليوم جامعة _ وقد استمرَّت “أفواج الطلبة المغاربة تأتي تِـباعا إلى مدرسة النَّجاح حتى العام 1935”[3]، كما كان السيد بنّونة وراء مشاركة المغرب في “المؤتمر الإسلامي العام في القُدس في دجنبر 1931”[4].

واحتضَنت مدينة طنجة فعاليات تَنظيم مَسرحية بعنوان “صلاح الدين الأيوبي“ بمسرح “سِرفانطيس”، وقد “تَوجَّه لحضورها من تطوان ما يزيد على 250 شخصا”، وفي 18 مارس 1929، “أُعيد تمثيل رواية صلاح الدين الأيوبي بثَغْر طَنجة، وحضَرها ما يزيد عن 300 شخص من تطوان“[5].

تَزايدَ اهتمام المغاربة بهذه القضية لا سيما بعد اندلاع أحداث “حائط البراق”، وما واكبَها مِن مواجهات عنيفة بين المسلمين واليَهود في القُدس (غشت 1929)، تابَعها المغاربة عبر قُصاصات الجرائد الوطنية والدولية الصّادرة آنذاك بالمغرب. وقام أهل فاسٍ بتأطير مِن شباب الحركة الوطنية بإعداد عريضة احتجاجية ضِدّ الأعمال العدوانية في الأقصى، ورَفعوها إلى ممثِّل بريطانيا في طنجة السيد “ماكدونالد“ بوساطَة باشا مدينة فاس، عبَّروا فيها عن “سُخطٍ تامٍّ على السياسة الإنجليزية”[6]. وأكَّدت الصَّحافة الفرنسية أنَّ العريضة “غَطَّتْها آلاف الإمضاءات المطلوبة من المسلمين بدون استِثناء”[7]. ثم سُلِّمتَ نسخة مُصوَّرَة من العريضة في صيف 1929 لـمُفتي فلسطين السيد أمين الحُسيني أثناء زيارة لباريس وِفْقَ شهادة الأستاذ المرحوم محمد الفاسي[8].

سنواتٍ قليلة بعد هذا الحادث؛ بادَر سكان مدينة سَلا بتأطير من خلايا الحركة الوطنية إلى إصدار عريضة تضامنية مع الشّعب الفلسطيني وَجَّهوها إلى رئيس مكتب المؤتَمَر الإسلامي الدائم بالقدس، أكَّدوا فيها تَلبِية نداء الأخُوّة الإسلامية، وأخبروه فيها أنّ المغاربة أَدَّوا صلاةَ الغائب تَرحَّما على أرواح شهداء القدس الذين قَضَوا في مُظاهرات 1933.

وفي سنة 1933 قامت جماعة تحت مُسمّى “لجنة الدِّفاع عن فلسطين الـمُقدَّسة” بمدينة طنجة وأعَدَّت لائحة لــ”متبرِّعين لفلسطين”[9]، وفي العام الموالي، أَرْسَل الوطنيون المغاربة احتجاجًا مكتوباً إلى القنصل البريطاني بالمغرب أكَّدوا فيه رَفْضَهم للسياسة البريطانية في فلسطين ووعد بِلفور.

أرسَل حوالي 60 شخصاً من مدينة سلا عريضة احتجاجية سنة 1936 إلى القنصل العام الإنجليزي في الرباط طالبوا فيها بتوقيف الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين، ورفْض المآسي والفظائع النازلة بالفلسطينيين، وتَساءَلوا عن مصير “بلادٍ نُقدِّسها بل ونَفديها بأرواحنا”[10]. وحاولوا  إرْسال عريضة إلى وزارة الخارجية البريطانية بلندن، للتَّعبير عن استنكارهم لسياسة إنجلترَّا بصفتها قوة الانتداب المكلَّفة بإدارة فلسطين باسْم عصبة الأمم”.[11]

وبالدعم العيني والمالي لم يَبخل المغاربة على أشقائهم الفلسطينيين؛ نُطالِع هذا في شهادةٍ للضابط المغربي المقاوم المرحوم الهاشمي الطُّود يقول فيها “لا زلتُ أذكُر حمْلةَ جَمْع التبرُّعات للمجاهدين الفلسطينيين سنة 1937 في القصر الكبير، تلك الحملة التي تَـجَـنَّدت لها القيادات الوطنية وعلى رأسها الأستاذ عبد الخالق الطريس، والتي كان لها صَدىً تعبَويا عميقاً، وبالنسبة لي شخصيا غَيَّرت مَجرى حياتي، فقد شاركتُ مع شباب المدينة في جمع التبرعات، وأصبَح لي منذ ذلك التاريخ قضية؛ هي قضية فلسطين”[12].

وعندما عَزمَت الإدارة الاستعمارية لفلسطين سنة 1937 تقسيمها بين الإنجليز والعرب والشَّتات اليهودي الأجنبي؛ عُقِدَت في المغرب سلسلة تجمُّعات بالمساجد، وإلقاء خطَب وإرسال برقيات تضامُن واستنكار، وجَمع التَّبرعات، وتأسيس “اللجنة القومية للدفاع عن فلسطين برئاسة الحاج الفاطمي الشراكسي في مدينة الجديدة”[13]. وفي مُدن فاس، الرباط، الدار البيضاء؛ عُقِدت اجتماعات عمومية بالمساجد، تُلِيَت أثنائها سورة الإسراء، ودَعا الناسُ مع الشهداء والمجاهدين في الثروة الفلسطينية.

بِدورهم تَقدَّم طلبة “الاتحاد الوطني لطلبة المغرب” بمقرر حول فلسطين في مؤتمرهم 13 المنعقد سنة 1969، عبَّروا في بيان المؤتمر الوطني الثّالث عشر على “التَّرابط المصيري بين الإمبريالية والصَّهيونية، مما يُحتِّم ربط النِّضال ضد إسرائيل بالنضال ضدّ الإمبريالية، واعتَبَر أنَّ القضية الفلسطينية قضية وطنية”[14].

ثم جاءت المسيرة الخضراء في نونبر 1975؛ ورفع المغاربة فيها لافتات حَملت عبارات “مَسيرة الصحراء؛ بداية المسيرة لتحرير القدس”، للتأكيد على عُمق ومَتانة الروابط بين الشعبين.

الإسهام النضالي في الكفاح المسلَّح:

بُعَيْدَ صدور قرار مجلس الأمن الذي قَضَى بتقسيم فلسطين بتاريخ 29 نوفمبر 1947؛ وجَّه الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي نداءً دعا فيه العرب والمسلمين للجهاد وردّ العدوان الصهيوني الغاشم على الأراضي المقدَّسَة. فتَطَوَّع المغاربة في الجهد الكفاحي مِن أجل تحرير فلسطين في جميع الميادين السياسية والمالية والاجتماعية، وحتى في الميدان؛ وذلك بالعمل المسلَّح والمقاومة، حيث شارَك حوالي “أحد عشر مجاهدا” من بينهم: عبد السلام الطود من القصر الكبير، محمد بن صبيح من تطوان، عبد الكريم الفيلالي من مكناس، الحاج محمد البرنوصي من مكناس أيضا، قاتَلوا “أوَّلَ الأمر في موقع البْـريج جنوبَيْ غَزَّة، حيث واجَهت وِحدَتُنا في أكثر من موقِعة عصابات الهاغانا بقيادة الإرهابي مِناحِيم بيغن، وعصابات إرغون تسفاي لومي بقيادة الإرهابي إسحاق شامير. ثم تَقَدَّمت الوحدة داخل التراب الفلسطيني حتّى مَدينة غَزّة حيث مَكَثَت لمدّة خمسة عشر يوماً (..) لتَستَقر بَعد ذلك في مُثلَّث أُسدود-عسقلان-بربرة، على مسافة 36 كيلمتراً جنوب تل أبيب”[15]، وكان هذا في يناير من العام 1948.

كما اتّضَحَ الدَّعم الشعبي في سنة 1968، عندما تَـمَّ تأسيس “الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني” مِن طرف مجموعة مِن الوطنيين الذين يَنتمون لمختلف الوظائف والقطاعات والتوجّهات، وتَـمَّ الشروع في تنظيم أوَّل حملة عمومية لجمْع الدّعم والاحتياجات دامت ثلاثة أشهر خلال سنة 1970، سارع فيها المغاربة إلى تقديم الأغطية ومختلِف أنواع الـملابس الصوفية للثوار الفلسطينيين، وتَسابَقت النساء الـمغربيات في صُنْع الـمَعاطِف الصوفية لهم بأيـدِيـهِنَّ، وأسهَمت هذه الحملة بجمع 260 ألف درهم، و20 سيارة من نوع جيب، و4 سيارات كبيرة”[16].

مبادرات وإسهامات الأحزاب السياسية المغربية

في عهد الانتداب البريطاني البغيض؛ نظَّمَ حزب الإصلاح الوطني بتطوان تجمُّعا خطابيا حاشدا في مسرح “إسبَنْيول” بهدف التعريف بالقضية الفلسطينية وتخصيص السيد محمد الطاهر الفتياني _ مَرسول مُفتي القدس _ بكلمة مطوَّلةٍ حَضَّ فيها الشعب المغربي على جمْع التَّبرعات لفائدة ضحايا ومنكوبي فلسطين. كما ألقى المناضل المهدي بنونة بدوره كلمة في المهرجان. ثمَّ نَظَّم الحزب للضَّيف الفلسطيني أنشطة أخرى في القصر الكبير والعرائش وأصيلة وذلك طيلة شهر غشت من سنة 1938.

ويوم 12 شتنبر من سنة 1939 قام “حزب الوحدة المغربية” بقيادة العلّامة المكي الناصري بجمْع تبرّعات مالية بلَغَت 2226 بسِّيطة إسبانية، أُضيفَ إليها مَبلغ 1865 بسَّيطة تبرَّعت بها ساكنة مدينة طرفاية، وأرسِل المبلغ الإجمالي إلى رئيس اللجنة العليا للدفاع عن فلسطين بمصر.

فيما حَظيَ قرار التقسيم الجائر باهتمامٍ واسعٍ من قبل الجماهير الشعبية والأحزاب المغربية، وصدرت بإزائه البيانات وأُرْسِلَت البرقيات، مِن ذلك؛ رسالة بعث بها حزب الاستقلال إلى الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة احتجَّ “فيها بشدّة ضدّ هذه السياسة الصهيونية التي ليست إلا نوعا من الاستعمار المنبوذ في الضمير الدولي”. وفي رسالة أخرى إلى جامعة الدول العربية عبّر فيها عن رفضه التّام لقرار التقسيم وطالب الجامعة بــ”اتّخاذ خطوات سريعة في سبيل الدفاع عن فلسطين وأهلها”[17]، فيما تبرَّعت بقية الأحزاب الوطنية بمبلغ مليون ونصف فرنك فرنسي لصالح الجيوش العربية المتوجهة للجهاد في فلسطين سنة 1948.

وذَكَرَت جريدة “العلَم“ المغربية في عددها الصادر يوم 13 ماي 1947 أنّ الزعيم علال الفاسي أكَّد في بيان له على رغبة الشّعب المغربي القوية في وقف الهجرة الصهيونية، وطالبَ باستقلال فلسطين وإنشاء دولة ديمقراطية مستقلة”.[18] و”لقد أَوْلَى الحزب حَشْد الشَّعْبِ للاحتجاج على السِّياسة الصَّهيونية قَبْل التَّقسيم وبَعْدَه، وطَالَبَ مَعَ “الشَّمال الإفريقي” جمعية الأمم المتَّحدة بالاستماع لرأيه في الموضوع، وما أَنْ أَعْلَنَ العرب دخولهم فلسطين لتأديب العصابات الصهيونية؛ حتى قام الحزب للتَّكتل والتضامن ومقاطعة الصهيونيين في داخل البلاد، كما خُصِّصت مساعدات للجيوش المتحالِفة”.[19]

ولما اعترفَت فرنسا وأمريكا بالدولة الإسرائيلية الجديدة سنة 1948؛ بادر “حزب الشورى والاستقلال” المغربي إلى توجيه برقية إلى السلطان محمد الخامس التمَس فيها منه “التدخّل لدى الحكومة الفرنسية لمطالبتها بالعدول عن الاعتراف كيفما كان نوعهُ بدولةٍ تُضمر العداء المطلَق للعرب”، وأوضحت له أنّ “كلَّ قرار يُـــتَّخَذ في اتجاه الاعتراف بإسرائيل؛ يُــعَدُّ عملا عدوانيا واستفزازيا ضدَّ الشعوب الإسلامية قاطبة، ويُـثير استنكار العرب”[20]. وبعث الحزب برسائل احتجاج إلى رئيس فرنسا ورئيس البرلمان الفرنسي وإلى ممثِّل الولايات المتحدة الأمريكية في طنجة أَعرَب فيها عن “احتجاجه البليغ على التصويت بالترحيب على ملتمَس التحية والتزكية والمباركة لدولة إسرائيل المزعومة”[21].

وفي مدينة تطوان؛ أحْيا شباب “حزب الإصلاح الوطني” ليلة الإسراء والـمعراج في مسجد الريسوني، وقاموا فيه ببيع عدد كبير من جريدة (الحرية)، وجَعلوا المبيعات رِيعاً لدعم منكوبي عرب فلسطين سنة 1948.

وحِين تأسَّست منظمة التحرير الوطني الفلسطينية؛ كان الأستاذ علال الفاسي وحزبه أوَّلَ المعترفين بالمنظمة على الصّعيدَيْن العربي والإسْلامي، وكانت قيادة فتْح تُلقّبه بــ “الوالد”، وتستشيره في كثير من القضايا. وعندما قَرَّرت منظمة فتح القيام بأوّل عملية مقاومة مسلحة كان علال الفاسي مِن الشخصيات القليلة التي علِمت بتوقيت ونوعية العملية الجهادية لقوات العاصِفة[22].

من جهته؛ أسَّس حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية صحيفة أطلَق عليها اسم (فلسطين) “وهي الصّحيفة التي ظَلَّ يُصدِرها الحزب منذ 11 سنةً، من أكتوبر 1968 إلى غاية صيف 1971”[23].

وعلى نفس الخطى سارت مجلَّة “أنفاس” اليسارية، خصوصا حينما تحوَّلت مِن مجلة أدبية إلى مجلة سياسية ابتداء مِن العدد 15 الذي أكَّدَ على ضرورة “مُساندة كفاح الشَّعب الفلسطيني التَّحَرُّرِي وذلك بكلّ وسائل وأشْكال التَّعبير”.