توطئة

إنّ العلويين الـحاكمين في المملكة المغربية اليومَ في شخص الملك محمد السادس بن الحسن فَرعٌ من الشّرفاء الـحسنيين، جَدُّهُم يُدعى حسن بن القاسم، الـمُلَقّبِ بالدّاخل، “قدِمَ من اليَـنبع”[1] بالحجاز مع ركْب الحجيج المغربي، وحَلَّ بمنطقة تافيلالت بالجنوب الشرقي في عهدِ دولة بني مَرين، خلال القرن السابع الهجري، الموافق للعام 1265 الميلادي.

خَلّفَ الحسن أولادا صلحاء، من بينهم علي الأول، الذي عاش سنواتٍ في الأندلس[2] ثم عاد للمغرب، ومِن ذُريته ينحدِر المولى الشريف بن علي “الـمُجمَع على فَضْله ودينه وصلاحِه”[3]، الأمير الذي بويِع سلطانا علويا فيما بين 1631م-1636م، وتوفيَ تارِكا وراءه اثنا عشرَ ولَدا[4]، ومسيرة تاريخية حافِلة لإحدى أقوى الدول المركزية في العصر الحديث بالمغرب الأقصى.

مِن الكيانات الإقليمية إلى وِحدة الدولة

توَزّعتِ الترابَ المغربيَّ كياناتٌ سياسية وزعامات دينية وزوايا صُوفية ملأت السّمع والبَصر في المرحلة الممتدّة بين انهيار السّعديين وظُهور العلويين، مما حَـتّمَ ضرورة جَـمْع الكلمة وَصَون وحدة الأمّة المغربية تحت قيادة سياسية وشرعية جَديدة، وهو ما تَمَّ بخطواتٍ مُتَتالِيات معَ الأمراء المؤسسين الأوائل للدولة العلوية.

خَلَّف المولى الشريف بن علي أبناءً تناوَبوا على الحُكم، أوّلهم محمد الأوّل الذي استفرَغ الوُسعَ لإلحاق الهزائم بالزاوية الدِّلائية، فنازَلَهم في معركة القاعة سنة 1646م إلا أنّ جيوشه انهَزَمت أمامهم، ثم خاضَ ضدّهم معارك أخرى في فاس، غير أنّهم أخرَجوه منها مرة أخرى سنة 1650م.

فثارَت ثائرة المولى الرشيد، وتَـخَالَف مع أخيه محمد، وعطّلَ تحرّكاته في الشرق، وتقاتَلا إلى أن انتهى الأمر بالأمير محمد قتيلاً في إحدى المعارك “ببَسيطِ أنكاد”[5] نواحي مدينة وجدة في شهر غُشت مِن سنة 1664م. أما الرشيد بن الشريف فدَشَّن عَهْدَه بالسيطَرة على تازة ونواحيها، ثم قَصَد سجلماسة، وواجَه الحْـيَايْنة، وَصعَد إلى فاس فلاحَقَ جيوش الثائر الخضِر غيلان وهَزَمه شمال فاس واضطَرّه للرحيل إلى أصيلة، ثمّ ضَمّ إلى نفوذه مدينة القصر الكبير وُصولاً إلى تطوان حيثُ ألْقَى القَبْض على آل النّقسيس و”رَجع بهم إلى فاس”[6]، وواجهَ الدِّلائِيّين[7] في معارك عديدة إلى أن انتصَر عليهم وشتّتَهم وهَدّم زاويتهم ونَفى عُلمائهم إلى تلمسان وآخرين إلى فاس بدءًا من سنة 1668م. وتَمكّن في غضون خَمْس سنواتٍ مِن توسيع حُكم العائلة العلوية وتوحيد المغرب.

مرحلة السلطان الـمولى إسماعيل

عقِبَ وفاة الرشيد في قصره بمراكش؛ تَولى الـحُكم أخاه المولى إسماعيل بن الشريف يوم 3 أبريل 1672م، فوسّع من نطاق حُكمه من بسْكرة في الجزائر إلى السودان ومشارِفها، فـ”تَـمَهّدت له البلاد ودانَ له قَريبها وبَعيدها”[8].

اهتمّ السلطان إسماعيل بقضية الأمن، وبادَر إلى بناء القِلاع والتّحصينات، وأكْثَــرَ مِن توفير أحباسه الخاصة على المساجد والزوايا والمعاهد الدينية[9]، وتأسيس جيش عبيد البخاري الذينَ حَرّر بهم مدينة المهدية وأَسَر بفَضْلِ صمودِهم وقِتالِيّتهم “نَـحو الثلاثمائة من الكفار”[10] حسب تعبير الإفراني، واسترجع طنجة سنة 1683م من يد الإنجليز، وبَعْدَها العرائش سنة 1689م، ثم أصيلة سنة 1690م، واستَرَدَّ “ثَغْـرَ باديس من ثُغور الرّيف على يَد قائد تطوان البطل المجاهد المرابط السيد عبد الكريم الخطيب”[11]، وواجَه المتمرّدِين، وقمَع ثورة ابنه محمد عليه وتمكّن من قَتْله سنة 1704م. حتى صفى لو الجَو، فــوَطّدَ “الأمْنَ بسَيْفه السَّقيل ورأيه الأصيل”.[12]

مكَث المولى إسماعيل في الحكم حوالي 55 سنةً، عاصر خِلالها الملك لويس الرابع عشر، وشطْرا مِن حياة الملك لويس الخامس عشر، وكانت له معهما مراسلات وعلاقات، وَوسّع مِن صِلاتِه بالأوروبيين، وكان يحرص على تعليم أبنائه اللغات الأجنبية، ويَسُّن سياسات الشدة واللين بسياسات التّقريب والتّحبيب، ويتولّى قيادة الحرْكات السلطانية إلى كثير من مناطق المغرب، إلى أن أدْرَكَتْه الوفاة في مارس من سنة 1727م دونَ أن يُعيِّنَ وليَّ عهده.

إشكالات التّوريث وأزمة الثلاثين سنة

دخَل المغرب إثْر وفاةِ السلطان العظيم مولاي إسماعيل في صراع ونزاع دام حوالي 30 سنةً، وَقف خَلْف كثير من أطواره إشكالية توريث العرش، وفَراغ في القيادة القوية الـجامعة، وغياب هيئة الحلّ والعقْد أو ضُعفها وعدم قُدرتها على التدخل، وتَنامي نفوذ جيش عبيد البخاري، الذين أضْحَوا قُوّة ضاربة من الناحية العسكرية، وكُتْلة مؤثِّرة سَلبا في الحياة السياسية بالبلاد وحاسِمة في مسألة اختيار السلاطين والتّلاعُب بهم وتَغليب المصلحة الشخصية على حساب المصالح العليا للمغرب الأقصى، إضافة إلى عَوْدَة منطق الولاءات للقبائل والعشائر والأفخاذ والزعامات المحلية والغنائم ضداً على منطق الولاء لقيمة الوحدة الدينية والسياسية كما أُرْسِيت منذ عهد الدولة المرابطية.

ففي تلْكم السّنوات العِجاف؛ سيطَر جيش عبيد البخاري على الحياة السياسية بالمغرب، وتلاعَب بالأمراء والسلاطين، فتداوَل على العرش كُلٌّ من أحمد (تــ 1729م) وعبد الملك (تــ 1729م) وعبد الله (تــ 1757م) _ الذي بويِع سلطانا على المغرب سِتّ مرات _ والمولى علي، ومحمد الثاني والـمُستضيء وزين العابدين. كما ظَهرت زعامات محلية استَأثَرَت بتدبير بعض المناطق في المغرب، أشهَرُهم القائد أحمد بن علي الرّيفي في طنجة وأحوازها، والقائد عمر لوقَش في تطوان طيلة الفترة الممتدّة من 1727م إلى 1733م، والقائد محمد واعْزيز على آيت يدْراسن في الأطلس.

أعوام الاستقرار والانفتاح والإصلاح

لم تَشفَع جهود السلطان عبد الله بن إسماعيل التي هَمّت تشتيت قُوى القوّاد الكبار وقمْع الـتمرّدات القبلية وضرْب بعضِها ببعض وتوحيد كلمة جيش الودايا وفاس وعرب الخلط؛ في استتباب الأمْن وتثبيت العرش العلوي وتهدئة الأوضاع، إلى أن تَوَلّى عرش المغرب السلطان القوي محمد الثالث سنة 1757م، فشَرَع في إضعاف شَوكة جيش عبيد البخاري، وتقوية الجيوش الأخرى، و”اختَلَط مع العامة بغير حجاب”[13]، وأمَر ببناء بُرج مرتيل حينَ حَلّ في زيارة رسمية بتطوان سنة 1173 هجرية، وعرّج على العرائش فأقام بها حاميات عسكرية وعين عليها القائد ابن زاكور، ثم انتقل إلى الرباط وسَلا فَبَنا بهما بِضعة حصون وأوراش لبناء السّفن.

نَظّم السلطان عمليات استرجاع مدينة الجديدة مِن أيدي البرتغاليين، وضَرَبَ الحصار على سبتة، إلى جانبِ شروعه في تأسيس مدينة الصّويرة على الساحل الأطلسي الجنوبي فيما بين 1760م- 1767م، وتنشيط الحركية التجارية والاقتصادية، وتوقيع المعاهدات والاتفاقات الدولية مع السويد والدنمارك والنرويج وإسبانيا وفرنسا، وإرسال السفراء “لبلاد النّجليز”[14]، واعترافه باستقلال الولايات الـمتّحدة الأمريكية. كما سَنّ سياسة التواصل والانفتاح والتّعاون مع البلدان العربية والـمغاربية الشقيقة، وصاهَر حُكّامَ الحرمين الشّريفين وكانت بينه وإياهم هدايا وهِبات وعلاقات مَتينة، ومع الدولة العثمانية كذلك، جنْبا إلى جنْبٍ مع فرْض الهدوء والأمن في البلاد، وتقريب العلماء النّاصحين، وتقوية بيت مال الدّولة، والتحكّم في توازنات الزوايا والطرق الصوفية، وإعادة تنظيم ومأسسة هيئة المخزن حتى عُدَّ في نظر بعض المؤرّخينَ “مُؤَسّسَ المخزن الحديث”[15]، فعادَ الاستقرار للوطن، وعادت الحياة إلى ما كانت عليه مِن الرخاء والعَمل الـمنتِج.

إنّ هذه الجهود الكبيرة والـمَقْدُرة الفَذّة عند محمد الثالث على أن يكون سُلطانا وإماما وسيّدا شَريفا في الآن نفسه؛ قادَته فعلاً إلى بعض الإنجازات الهامة جدا بعد أزمة استقرار السلطة لثلاثين سنةً، ولكنها إنجازات بقيَت محدودة بالنّـظر إلى السياق والبيئة التي كانت تُحيط بها. إلا أنّ الدارس لسنوات حُكم السلطان المذكور لا يَسَعه إلّا أنْ يُقَرّرَ أمرينِ مهمّين؛ “أن يُـنَوّهَ بشخصية السلطان وبنواياه، وأن يُشير في نفس الوقت إلى التّخلّف الذي كانَ يطبَعُ الـمجتَمع المغربي ماديا وأدبيا وفكريا. كان محمد الثالث مُصلِحاً حَقّا، لكن في مُحيط جِدّ محدود، وبأهداف جدّ متواضِعة”[16].

سَيُؤدّي مُشكل توريث العرش مرّة أخرى إلى هَدْرِ الجهود الإصلاحية للسلطان محمد بن عبد الله، وانتشار الفوضى. فما إن تُوفيَ السلطان سنة 1790م حتى قامَ ولَده اليَزيد داعيا بالبيعة لنفسه، الأمر الذي خَلَق له صراعات وحروب مع إخوته، فانقسم المغرب بينهم، فالشمال بايَع المولى سلامة بن محمد الثالث[17]، والحوز ومراكش بايعت المولى هشام، فيما انفَرَدَ المولى عبد الرحمن “بإقامة إمارة مُستقِلة في سوس[18] دونَ أن يكون راغبا في ذلك ولا طامحا في السلطنة العلوية، وإنما هي رياح الفراغ السياسي بالمنطقة ألْجَأته إلى هذا الخيار.

ورغم أنّ السلطان اليَزيد بن محمد حاول إعادة تجميع وتنظيم جَيْشَيْ العبيد والأوداية[19] على طريقة المولى إسماعيل ليُوقِفَ طموحات إخوته وتمرّدات القبائل عليه؛ إلا أنّ هذا المشروع سيبوء بالفشل. وسيُعلَن عن مُرشّحٍ جديد بَايَعه أهل فاس ومكناس وجيش الودايا والأمازيغ، إنه أخوه المولى سليمان، الذي رُشِّح للحُكم بغرض إنهاء التوتر الذي تَلا وفاة السلطان اليزيد سنة 1792م، وفي ظرفية دولية اتّسَمت باندلاع الثورة الفرنسية.

وبعد خمْسة أعوام من التطاحن والاقتتال بين الإخوة، خلُصَ الأمر للمولى سليمان، الذي تمكّن من التصالح مع إخَوَيْهِ عبد الملك وعبد الرحمن، والاستفادة من التنازل الـمُفاجئ عن العرش من قِبَل المولى هشام سنة 1795م. فيما أعلَن سلاَمة العصيان وغادَر إلى الجزائر العثمانية، وبايع أهل تازروت بمحضر قَبائل “عَبدة ودكالة وأحمر والشاوية وغيرهم”[20] الحـسين بن محمد الثالث.

شَرع السلطان سليمان في تَثبيت مركَزه بدءًا مِن سنة 1797م، بسَنّ سياسة إستراتيجية قامت على “اللجوء إلى وساطة القوى الدينية، وإضعاف الـمناطق الساحلية المتمرّدة عَبْر اعتراض ومُصادَرة تجارتها البحرية، والتقرّب من إسبانيا سَعْيا إلى إقناعها بتغيير موقِفها من أزْمة الخلافة بالمغرب (…) وتَفادي مواجَهات عسكرية مُكَلِّفَة ومُدَمِّرة”[21]، وإحكامه للحِصار المخزني الرسمي على المراسِي الثّائرة، بهَدَف لاستِكمال مشروع الإصلاح الذي بَدَأه والده محمد الثالث.

وبعد مسيرة حافلة بالتحديات والإكراهات والسعي للإصلاحات وتَوقّي ارتِدادات التحولات الخارجية العاصِفة، وتَدبير التوازن بين المخزن المحلي وقبائل الجبل و”بربر السّهل” والعلماء والزوايا والجبايات والمداخيل؛ ساءت الأحوال في السنوات الأخيرة من عهد المولى سليمان متأثّرَةً بمخلّفات لطاعون الأكبر المغرب، وتمادَت بعض الاتحادات القَبلية في مُناكَفة السلطان، وقامت ضدّه ثورة عارمة في تطوان وأخرى في فاس لتَنصيب إبراهيم بن اليزيد[22] سلطانا، ولم يُسلِم المولى سليمان الروح لباريها سنة 1822م حتَى هَدّته تلكم الأحداث.

سلاطين مرحلة اختلال التّوازنات الدولية والإقليمية

توَلّى السلطان عبد الرحمن بن هشام الـحُكم بعَـهْدٍ من عمّه المولى سليمان، في ظرفية دقيقة اتّسَمت بإنهاء الوجود العثماني في الجزائر من قِبَل الجيش الفرنسي سنة 1830م، واحتلال تونس سنة 1881م، فبلاد شنقيط وشمال السينغال سنة 1889م، ولجوء الـمقاومة الجزائرية لطلَب الدّعم والعَون مِن المخزن المغربي، الأمر الذي أَدّى إلى ضغوط عسكرية فرنسية على المغرب من جهته الشرقية، والضغط على السلطان لتسليم المقاومين الجزائريين ورَفْض الدعاء باسمه على منابر الجزائر، وصولاً إلى اندلاع حرب إيسلي سنة 1844م، كانت نتيجتها هزيمة قاسية للجيش المغربي، وإقرار معاهدة ترسيم الحدود في لالة مغْنية عام 1845م لَـم تُنصِف المغرب في حدوده التاريخية والترابية، ليَتوفّى السلطان ابن هشام سنة 1859م ونار حرب تطوان تضطرم، والمواجهة ضد إسبانيا في أشدّ لحظاتها.

وأمام اختلال التوازن بين ضفّتي البحر الأبيض المتوسط؛ بانقلاب ميزان القوى، وتنامي حالات استعمار مباشِر لكثير من مناطق القارة الإفريقية، سيجد السلطان محمد بن عبد الرحمن نفسه مُضطرّا للتوقيع على معاهدة صُلح مع إسبانيا لإنهاء حرب تطوان سنة 1860م، ثم توقيع وِفْق بيكلار مع فرنسا سنة 1863م، فالـمعاهدة التجارية مع بريطانيا ودخولها وسيطا في العلاقات بين المغرب والدّول الأوربية، مما صَعّبَ مهمة القيام بالإصلاحات الضّرورية في مغرب القرن التاسع عشر.

ومع حلول سنة 1873م سينتقل العرش إلى السلطان الحسن الأول بعد وفاة أبيه بحيث “بايعه أهل الحل والعقد شُورةً إذ لم يكن له عهد من الإمام الذي سبَقه”[23]، لينطلق في سَنّ سياسات الباب المفتوح لمواكَبة التحولات الدولية ولصَدّ مطامع الدول الاستعمارية في المغرب، فدشَّن الحسن علائق خارجية على أسُس جديدة مع الخصوم الدوليين الذين هُم أنفسهم الأصدقاء التجاريون والسياسيون والدبلوماسيون للمغرب، فكانت “السفارات بينه وبينهم دائبة في كل القضايا والشؤون”[24]، حيث بعثَ بالسيد “الحاج محمد الزبدي الرباطي إلى إنجلترا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا لغرض لَــفْت أنظار حكومات هذه الدول تجاه مشكلة نظام الحماية الدبلوماسية والقنصلية”[25] في شهر ماي من سنة 1876م، ومالَ إلى استحسان “التّعامل مع ألمانيا، وأبدى المخزن فيها رأيا مُسبَقا”[26]، وعمِل على إرسال البِعثات العلمية إلى الخارج، وتطوير المطبعَة، وتأسيس “معملٍ كبير للسكر في فاس”[27]، كما كان عازما على “رَبْط أنحاء مملكته بخطوط السّكك الحديدية وإنشاء التلغراف”[28].

إلا أنّ جهودَه الإصلاحية اصطَدَمت بعراقيل عديدة، منها: تنامي الحمايات القُنصلية والتدخلات الأجنبية في الموانئ والجمارك والقضاء والتعليم والتجارة، وتتَالي الضغوط العسكرية في السواحل الصحراوية للمغرب، وتخلُّف البنيات التقليدية، ورفْض عناصر في المخزن لإصلاحات السلطان، فكان أن انعَقدَ مؤتمر مدريد سنة 1880م لتدويل القضية المغربية، ولِيَجَد المغرب نفسه وحيداً في مواجهة كِبار أوروبا، ومُحاصَراً بجوارٍ مَغاربيٍّ مُحتَلٍّ شرقاً (الجزائر) وجنوباً (شنقيط والسينغال).

ارتَحَل هذا “السلطان الـمُحَنّك الدّاهية”[29] إلى دار البقاء في ظروفٍ لم يتمكّن معها من تولية أحدِ أولاده العَهْد من بَـعْدِه، فآل الأمر إلى الصدر الأعظم باحماد بنموسى، الذي أشرَف على تدبير الدولة ريثما يصِل الأمير عبد العزيز _ الذي ادّعى الصدر الأعظَم أنّ والِده أوْصَى بالبيعة له قَبْل مماته _ سنّ الرُّشد.

وما كادت تُهِلُّ مرحلة حُكم السلطان عبد العزيز بن الحسن (1900م-1908م) حتى اندلعت أحداث تمردات خطيرة بالمغرب، وفَشا نُفوذ ذوي الحمايات الأجنبية، وتراجع الدور الجهادي والتربوي للزوايا والطرق الصوفية، واضطَرّ المخزن العَزيزي للاقتراض من بنك لندن وبنك باريس ليُغطّي نفقات الإصلاحات والمعارك التي كان يَخوضها ضد ثورة بوحمارة الزرهوني.

وفي مطالع سنة 1906م تجرّأت القوات الاستعمارية الفرنسية على احتلال الشاوية وضَرْب الدار البيضاء وقَنْبَلة الصويرة، وبالتزامن مع ذلك، عُقِدَ مؤتمر الجزيرة الخضراء الذي أطْلَق اليَد لفرنسا وإسبانيا لاقتسام المغرب، وهو الأمر الذي تأجَّل لسنوات، كان خلالها المغرب يعيش على وقْع دَعوات إصلاحية دستورية ويَقظة صحافية جديدة، وخلافات حادة بين أتباع عبد العزيز الذي أضْحَت سُلطَته في نظر المغاربة “واهِية، وشَوْكَته في الضّعْف مُتناهِية”[30]؛ وأشياع عبد الحفيظ، الذي تَمكّن بعد معارك صغيرة، وبِدعْمٍ من العلماء والزعماء في أخذ البيعة المشروطةَ، والتّـسَمِّي بسلطان المغرب سنة 1908م.

مِن قَبضة الاحتلال إلى رَحابة الاستقلال

قاوم المغرب في شخص السلطان عبد الحفيظ وهيئة المخزن المغربي وبعض الشخصيات محاولاَت فرض الاحتلال الـمباشِر، وقبِلوا بأخَفّ الضّرَرين؛ الرّضا المبدئي بما “أسْفَر عنه مؤتمر الجزيرة الخضراء من الاستعانة بالخبرة الدولة في تنظيم “شؤون المغرب الـمَريض وتجديد دفاعاته العسكرية والمخزنية والاقتصادية، مع “الاعتراف بوحدة ترابه وسيادة سُلطانه واستِقلاله”[31]، إلا أنّ مسار التاريخ آنذاك، وأخطاء المغرب، فَرَضَت واقعا جديدا على البلاد، عنوانه إنهاء قرونٍ من الاستقلال والسيادة، وبداية عهْد الـحَجْر والحماية.

لم تكن تلك الإصلاحات التي أقدَم عليها المغرب، واعتزامه إجراء تعديلات على الحياة النيابية والسياسية والاقتصادية بالتي تُوقِفُ أطماع الاحتلال، فكانت سنة 1912م قاسية ومُحزِنة للمغاربة، بويِعَ فيها السلطان يوسف بن الحسن (تــ 1927م) دونَ أن يكون قادراً على أيّ حَركة أو رَدّ فِعْل ضد الاستعمار، وفقَد المغاربة فيها استقلالَ بلادِهم وحُرية تَنقّلهم وسِيادة سلطانهم على البلاد، وألْجأتهم إلى الـمُشاهَدة اليومية للقوات الغازية وهي تفرِض نَفْسَها عليهم بالقوة، مما خَلَق حالةً مِن الثورة والمقاومة الـمُسلّحة، لم تهدأ ثائرتها من بواكير 1912م وإلى غاية 1934م، ثم استَكْمَلت مِشوارها مع رموز الكفاح الوطني والسياسي والسّلمي مع الحركة الوطنية والأحزاب السياسية المغربية فيما بين 1934 و1944، لتندْلع مِن جديد شرارة الـمواجهة مع الاحتلالين الفرنسي والإسباني بعد الحرب العالمية الثانية، وبالأخَص في مرحلة نَفْي السلطان محمد الخامس (تــ 1961م). وليُدلّل المغاربة على خصوصيات تَعَاضُدِهِم وتعاوُنهم مَلِكاً وشَعبا وتنظيماتِ مُقاومَةٍ؛ فيَصنَعوا أهَم ملحمة نضالية في القرن العشرين، أنْهَت الوجود الاستعماري الذي لم يُعمّر فوق ترابنا إلى 44 سنةً، وتُوِّجت جهود المغرب المتعدّدة الأوْجُه بنَيل الاستقلال عن فرنسا يوم 2 مارس 1956م، وعن إسبانيا يوم 7 أبريل 1956م، استِقلالاً أبْـقى أقاليمنا الجنوبية في وضْعٍ غير طَبيعي، مما حَتَّم خوضَ مرحلة الكفاح الوطني الثانية تحت قيادة الملك الحسن الثاني والقوات المسلحة الملكية وجيش تحرير الجنوب المغربي والنخبة السياسية مِن قادة الأحزاب والمنظمات وبعض الوجوه الفكرية والعلمية البارزة، التي تَرافعَت عن الحقوق التاريخية والقانونية والدينية للمغرب في صحرائه في المنتظم الدولي والإفريقي، مما كَلّلَ مَساعينا جميعاً بتنظيم المسيرة الخضراء واسترجاع إقليم الساقية الحمراء، ثم وادي الذَّهب في غشت من سنة 1979م، وجَعْل ما تَبقّى من نزاع الصحراء المغربية “مركز ثِقل الدبلوماسية المغربية”[32] إلى يومنا هذا.

خاتمة

إنّ هذا المسار التاريخي العريض مِن عُمْر الدّولة العلوية حابِلٌ بالـمفاخر والـمآثِر والتهديدات والتحديات والاستعمار، وحافِلٌ بالقيم والدّروس التي تُشكّلُ للباحث والقارئ والناشئة ديوانَ عِبَر، يُحلّل من خلالها دواعي وأسباب نشوء وارتقاء وقّوة وضُعف الدّولة في مختلِف أطوارِها، ويَدْرُس إمكاناتِ إحداث الفارق في كثير من اللحظات الـمفصلية والمنعطفات المصيرية في تاريخ الدولة الحاكمة، ويَرى كيف استطاع المغاربة؛ سلاطين وملوكا ونُخباً وعَوامّ، تَشكيل صُورة المجتمع والدولة عبْر مسيرة أربعةِ قرونٍ ونصف، وتحقيق التعبير الأمثَلَ عن “الذّاتية المغربية”[33] والكيان الوطني المغربي، الذي يُواصل اليومَ مع الملك محمد السادس بن الحسن مرحلة الجهاد الأكبر، جهاد التعليم والرّقي الاجتماعي والنهوض الاقتصادي والمنافَسة الدولية والتطلعات التنموية، من أجل مغربٍ يُباهي بنا ونُباهي به.

المراجع
[1] (الزياني) أبو القاسم: "البُستان الظريف في دولة أولاد مولانا الشريف"، دراسة وتحقيق الأستاذ رشيد الزاوية، منشورات وزارة الشؤون الثقافية، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط،ص: 29.
[2] (امحمد) جبرون: "تاريخ المغرب الأقصى من الفتح الإسلامي إلى الاحتلال"، منشورات سليكي أخوين، طنجة، الطبعة الأولى 2020.
[3] (ابن زيدان) عبد الرحمن: "المنزع اللطيف في مَفاخِر المولى إسماعيل الشريف"، تقديم وتحقيق عبد الهادي التازي، مطبعة إديال، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1993، ص: 45.
[4] (الزياني) أبو القاسم، "البُستان الطريف.."، نفس المرجع، ص: 30.
[5] (الزياني) أبو القاسم، "البستان الظريف.."، مرجع سابق، ص: 105.
[6] (الزياني) أبو القاسم، "البستان الظريف.."، مرجع سابق، ص: 119.
[7] (كنون) عبد الله: "النبوغ المغربي في الأدب العربي"، الجزء 1، منشورات مؤسسة عبد الله كنون للثقافة والبحث العلمي، طنجة، الطبعة الثانية، 1960، ص: 269.
[8] (الإفراني) محمد الصغير: "نُـزْهة الحادي في أخبار ملوك القرن الحادي"، تقديم وتحقيق عبد اللطيف الشاذلي، الطبعة الأولى 1998، ص: 429.
[9] (ابن زيدان) عبد الرحمن، "الـمَنزع اللطيف"،مرجع سابق، ص: 59.
[10] (الإفراني) محمد الصغير، "نزهة الحادي"،نفس المرجع، ص: 431.
[11] (ابن زيدان) عبد الرحمن، "الـمَنزَع اللطيف.."، نفس المرجع، ص: 134.
 [12] (ابن زيدان) عبد الرحمن، "الـمَنزَع اللطيف.."، ص: 17.
[13] (أكنسوس) محمد بن أحمد: "الجيش العرمرم الخماسي في دولة أولاد مولانا علي السجلماسي"، الجزء 1، تحقيق وتعليم أحمد بن يوسف الكنسوسي، تقديم محمد المنوني، المطبعة والورّاقة الوطنية، مراكش، 1994، ص: 213.
[14] (أكنسوس) محمد بن أحمد، "الجيش.."، مرجع سابق، ص: 225.
[15] (العروي) عبد الله: "مُـجمَل تاريخ المغرب؛ الأعمال الكاملة"، الجزء 3، منشورات المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2018، ص: 504.
[16] (العروي) عبد الله: "مُـجمَل تاريخ المغرب؛ الأعمال الكاملة"، الجزء 3، مرجع سابق، ص: 508.
[17] (الرباطي) محمد بن عبد السلام: "تاريخ الضُّعَــيِّـف أو تاريخ الدّولة السَّعِــيدَة"، تحقيق وتعليق وتقديم أحمد العماري، منشورات دار المأثورات، الرباط، الطبعة الأولى 1986، ص: 241.
[18] (المنصور) محمد: "المغرب قبل الاستعمار؛ المجتمع والدولة والدين 1792-1822"، ترجمة عن الإنجليزية محمد حُبيدة، منشورات المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2006، ص: 153.
[19] (المنصور) محمد: "المغرب قبل الاستعمار؛ المجتمع والدولة والدين 1792-1822"، مرجع سابق، ص: 64.
[20] (الرباطي) محمد بن عبد السلام، "تاريخ الضُّـعَيِّف.."، مرجع سابق،ص: 283.
[21] (المنصور) محمد، "المغرب قبل الاستعمار.."، مرجع سابق، ص: 160 – 161.
[22] (أكنسوس) محمد بن أحمد، "الجيش العرمرم.."، مرجع سابق، ص: 306.
[23] (جبرون) امحمد: "المغرب الأقصى من الفتح الإسلامي إلى الاحتلال"، منشورات منتدى العلاقات العربية والدولية، قطر، الطبعة الأولى 2019، ص: 463
[24] (امحمد) جبرون: "تاريخ المغرب الأقصى من الفتح الإسلامي إلى الاحتلال"، مرجع سابق، ص: 464.
[25] عبد الله العروي، "مُجمل تاريخ المغرب"، مرجع سابق، ص: 508.
[26] عبد الله العروي، "مُجمل تاريخ المغرب"، مرجع سابق، ص: 200.
[27] كنون عبد الله، "النبوغ المغربي.."، ج 1، مرجع سابق، ص: 272، بتصرّف شديد.
[28] كنون عبد الله، "النبوغ المغربي.."، مرجع سابق، ص: 273.
[29] (المنصوري) أحمد: "كَـباء العَـنْـبَر من عُـظَماء زيان وأطْلَس البَـرْبَر"، تحقيق ودراسة محمد بن لحسن، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، مطبعة الكرامة-الرباط، الطبعة الأولى 2004، ص: 124.
[30] (المنصوري) أحمد: "كَـباء العَـنْـبَر من عُـظَماء زيان وأطْلَس البَـرْبَر"، مرجع سابق، ص: 167.
[31](كنون) عبد الله: "ذكريات مَشاهير رجال المغرب في العلم والأدب والسياسية"، الجزء 3، منشورات مؤسسة كنون للثقافة والبحث العلمي، الطبعة الثانية، 1960، ص: 1543.
[32] (فيرمورين)، بيير: "المغرب في 100 سؤال؛ مملكة التناقضات"، ترجمة عبد السلام بن الصديق، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2023، ص: 306.
[33] عبد الله كنون، "ذكريات مَشاهير.."، مرجع سابق، ص: 1546.