المحتويات
مقدمة
ظهرت حركة جيش التحرير المغربي مع بداية الخمسينيات من القرن الماضي زمن الكفاح الوطني ضد المستعمر لنيل الحرية والاستقلال. وتشكلت النواة الأولى لهذا الجيش من مقاومين مغاربة ينتمون إلى مختلف المناطق، كما ارتبط جيش التحرير أساسا بمنطقة الشمال/ الرّيف التي تعتبر معقل حركة المقاومة المسلحة. وقد امتدت عمليا فترة كفاح حركة جيش التحرير ما بين (1953 -1956 ) بمنطقة اكزناية، وأساسا مثلث الموت (أكنول- تيزي وسلي- بورد). كما تشكّلت لها قيادة عسكرية بمدينة الناظور وكانت تحت إشراف عباس لمساعدي وعبد الله الصنهاجي، ثم “قيادة” أخرى بمدينة تطوان وكانت تحت إشراف الدكتور عبد الكريم الخطيب وآخرون من جناح الحزبيين، قبل أن تفكك مختلف فصائل وخلايا جيش التحرير بالريف وتدمج في صفوف القوات المسلحة الملكية. في حين هناك من استمر ضمن جيش التحرير بالجنوب كاستكمال لمهام جيش التحرير بالشمال، انطلاقا من سنة 1958 قبل أن يتعرض هو الآخر لمؤامرة التصفية والتكالب في إطار ما يعرف بعملية “إيكوفيين”، ومن ذلك أيضا كانت الجذور الأولى لظهور نزاع الصّحراء المغربية. وتأتي مذكرات بنسعيد أيت إيدر المعنونة ب”صفحات من ملحمة جيش التحرير بالجنوب المغربي” لتسلط الضوء على كفاح وجهاد جيش التحرير بالجنوب.
الإهداء
افتتح بنسعيد مذكراته بإهداء وجهه إلى كل الذين استشهدوا دفاعا عن كرامة الوطن واستقلاله ووحدته الترابية، إلى الذين وقفوا صفا واحدا بأفئدتهم وأموالهم، وضحوا بالغالي والنفيس من أجل نصرة الوطن، ورفع رايته عاليا بين الأمم والشعوب.
إلى كل الفصائل التي دعمت حركة التحرير سياسيا أثناء المعارك الكبرى، وفي كل المحطات النضالية، التي صنعت أبرز صفحات تاريخنا المعاصر الذي لا أدعي الإحاطة فيه، بكل ما تزخر به ذاكرتنا الوطنية من أحداث سجلتها ملحمة التحرير …. ويضيف ولكني أعتبره خطوة أولى ستتلوها خطوات أخرى، قصد التعريف بتلك الصفحات المجيدة من تاريخنا، حتى تكون نبراسا ينير الطريق أمام أجيالنا القادمة وتكريمها لمن صنعوها من رجالات المقاومة وجيش التحرير، وكل شرفاء هذا الوطن العزيز (ص4).
المقاوم محمد بن سعيد أيت يدر.. معارض الملوك الثلاثة
المولد والنشأة:
ولد محمد بن سعيد آيت إيدر يوم 1 يوليو 1925 في قرية تين منصور بمنطقة اشتوكة أيت باها بمنطقة سوس في المغرب. وتلقى تعليمه في عدد من مدارس منطقة سوس، ثم انتقل إلى مدينة مراكش حيث تابع دراسته في مدرسة ابن يوسف، المؤسسة الشهيرة التي خرجت العديد من عناصر النخبة الوطنية أيام الحماية.
الوظائف والمسؤوليات:
قاد آيت إيدر خلال مرحلة المقاومة عددا من الخلايا التي خاضت الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي، وتولى المسؤولية السياسية عن جيش التحرير المغربي في الجنوب، وشغل عضوية المجلس الوطني للمقاومة.
وبعد سنوات من المنفى في عهد الاستقلال، أسس “منظمة العمل الديموقراطي الشعبي” وانتخب أمينا عاما لها، وأصبح نائبا برلمانيا باسمها. وفي إطار اندماج عدد من الأحزاب والحركات اليسارية، تولى المهمة الشرفية رئيسا لليسار الاشتراكي الموحد عام 2002.
التجربة السياسة:
نشأ محمد بنسعيد آيت إيدر في منطقة معزولة عن التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عرفها المغرب في عهد الحماية، ولم يكتشفها إلا بعد انتقاله إلى مراكش للتعلم في مدرسة ابن يوسف الشهيرة، حيث فتح عينيه على العمل الوطني، والتقى بقيادات سياسية كعبد الله إبراهيم والمهدي بن بركة. واصطدم مبكرا رفقة زملائه بوالي مراكش الشهير الباشا التهامي الكلاوي، رجل فرنسا القوي في المغرب آنذاك.
انخرط بقوة في العمل المسلح بمشاركته في قيادة فرق جيش التحرير المغربي وتكوين خلايا المقاومة. وفي هذا السياق، تولى في بداية الخمسينيات منصب المسؤول السياسي لقيادة جيش التحرير في الجنوب.
ومع السنوات الأولى للاستقلال، بدأت الهوة تتسع بين عدد من المناضلين اليساريين وقياديي جيش التحرير من جهة والنظام الحاكم من جهة أخرى، وخصوصا ولي العهد آنذاك الحسن الثاني الذي تولى العرش بعد وفاة والده محمد الخامس عام 1961.
تعرض بن سعيد للاعتقال عام 1960 ثم 1963 وغادر إلى المنفى بالجزائر حيث صدر عليه حكم غيابي بالإعدام عام 1964. ومن الجزائر حيث اتهمه الحكم المغربي بالمشاركة في مخططات تخريبية لزعزعة النظام، انتقل إلى فرنسا حيث دخل تجربة سياسية جديدة من خلال الانخراط في منظمة حملت اسم “23 مارس” ذات التوجه الماركسي اللينيني.
عاد للمغرب عام 1981، ودشن تجربة جديدة من العمل السياسي في إطار المؤسسات، من خلال حزب “منظمة العمل الديمقراطي الشعبي” التي انتخب أمينا عاما لها عام 1983. وباسم المنظمة دخل البرلمان وكان وجها بارزا عرف بإثارته لقضايا حساسة، فقد كان أول سياسي يطرح قضية معتقل تازمامارت .
ولم يمنع الطابع “الراديكالي” للمنظمة من المساهمة إلى جانب أحزاب وطنية أخرى في تأسيس الكتلة الديمقراطية عام 1992، وهو التحالف الذي كان له دور ضاغط على الإصلاحات في أواخر عهد الحسن الثاني. واجه لاحقا تحدي الانشقاق الذي تعرض له حزبه عام 1996 بانسحاب مجموعة من القيادات التي انتظمت في حزب جديد، لكنه عاد من جديد لتوسيع عائلة اليسار بالاندماج مع أحزاب وحركات أخرى في حزب اليسار الاشتراكي الموحد عام 2002.
أيت يدر في مواجهة النظام:
نال المغرب استقلاله… وحدث أن اتسعت الهوة بين قيادة جيش التحرير واليسار من جهة والنظام الحاكم من جهة أخرى؛ فبينما طالب بنسعيد بعدم حل جيش التحرير، كان الملك يرى خلاف ذلك.
وقد أسهم بنسعيد في تأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، قبل أن ينسحب منه لاحقا لاختلاف في وجهات النظر. خلاف قيادة الحزب، كان بنسعيد أيت يدر يرى أن على الأخير تبني اختيار ثوري تقدمي له التصاق بالجماهير الشعبية.
ظل بن سعيد خارج أرض المغرب منذ اتهامه في ما يعرف بـ”مؤامرة يوليوز 1963″، ليفر ثانية إلى الجزائر بينما حكم عليه غيابيا بالإعدام، حتى صدر عفو من الملك الراحل الحسن الثاني، فعاد إلى المغرب عام 1981.
حين عاد بنسعيد إلى بلاده، ظن البعض أنه مراجعٌ أوراقه وعائد عن أفكاره، فكان أن خيّب آمالهم، إذ ظل ثابتا على مواقفه، لم يزغ عنها قط، ودشن بنسعيد باسم “منظمة العمل الديموقراطي الشعبي” عمله من داخل المؤسسات، إذ دخل قبة البرلمان نائبا عن المنطقة التي ينتمي إليها عام 1984، وقد ظل يمثلها لـ23 عاما.
ورغم محاولات صدّه، إذ بعث الملك الراحل الحسن الثاني بإدريس البصري ليبلغه رسالة تقول: “لا تطرح موضوع المعتقلين السياسيين بالبرلمان”، سجل التاريخ اسم أيت يدر كالمبادر الأول إلى طرح عدد من القضايا الحساسة في البرلمان، كما فعل حين تجرأ على طرح سؤال عن سجن تزمامارت الشهير. فطالب بتصفية ملف المعتقلين السياسيين، وحين تدخل أحمد العلوي، طالبه بنسعيد بألا يقاطعه وإلا قال كلاما لن يعجبه… حيث كان سيواجهه، يقول في مذكراته (هكذا تكلم أيت إيدر)، بالبرقية التي بعث بها إلى بن عرفة حين نصبه الفرنسيون مكان محمد الخامس.
يقول بن سعيد عن تجربته الطويلة في البرلمان: “اكتشفت أن الممارسة البرلمانية لم تتطور إلى ما هو أفضل، بل حصل فيها تراجع كبير منذ أن انتقلت المعارضة التقدمية إلى الحكم… التحاقها بالسلطة إثر مرحلة ما سمي “التناوب التوافقي” ترك فراغا كبيرا…”.
ويتابع في مذكراته: “اكتملت صورة الانهيار بشاعة وسريالية عندما لجأت أحزاب الإدارة، التي صنعها المخزن لتمييع الحياة السياسية، إلى تأدية دور المعارضة، بدون رؤية ولا قناعة، بل بمنطق الإملاءات.
بنسعيد ”معارض الملوك الثلاثة” رفض كل دساتير المملكة منذ الاستقلال واعتبرها ممنوحة تكرس ملكية مطلقة ومركزية، بما فيها دستور 2011… ولا يبتدئ ذلك عند رفضه تقبيل أيدي الملوك.
كان حضوره ضروريا في بعض المناسبات التي يحضر فيها الملك، وقد حدث في أحد الأيام أن وضع يده على كتف الحسن الثاني عوض تقبيل يده، فاستوقفه قائلا: “راه المخزن عندو تقاليد خصك تحترمها” (للمخزن تقاليد عليك احترامها). لم يجبه ومضى إلى سبيله. كانت المسألة، يقول بنسعيد، مسألة كرامة لا يملك سواها: “أنا ماشي شايط باش نبوس اليدين”.
وكان ذلك عهده حين التقى بالملك محمد السادس، عام 2015، لتوشيحه بوسام نظير مساره السياسي والنضالي… لم يقبل يده، وهذا لا يعني أنه تحقير للمؤسسة الملكية، يقول بنسعيد، ولكنه وضع للنقط على الحروف وتأسيس لثقافة جديدة.
في توشيح ملكي عام 2015 م، قال البعض إن بنسعيد، أخيرا، قد راجع مواقفه… ثم سرعان ما أثبت أن مواقفه كشجرة صفصاف، ضاربة جذورها في أعماق الأرض، شامخ جذعها إلى السماء؛ فالتكريم الملكي “لن يغير موقفه بشأن ضرورة إرساء نظام ملكي برلماني في المغرب”.
عكس الكثيرين… آثر بنسعيد ألا تضيع الكثير من تفاصيل مسيرته السياسية والنضالية، التي باتت مضرب مثل في المواقف الشجاعة والجريئة، فدونها في مذكرات أصدرها عام 2018، بعنوان “هكذا تكلم محمد بنسعيد”، تضمنت محطات هامة من تاريخ المغرب كما حملتها ذاكرته.
ملحمة جيش التحرير
عن “المنشورات المواطنة» صدرت مذكرات محمد بن سعيد أيت إيدر عن جيش التحرير، وتقع في 314 صفحة من الحجم المتوسط، وقدم لها عبد الله ابراهيم “رئيس الحكومة المغربية الأسبق”، والذي اعتبر الكتاب مبادرة طيبة، وسجل بها بن سعيد وبواقعية شمولية يقظة على توترات الأحداث. ونظام تداعياتها وتفاعلاتها مع بعضها، وضعفها أو قوتها… وأكد أن ما سجله الكاتب في شهاداته هذه، بالنظر إلى الساحة المغربية المترامية الأطراف في الزمن والمكان ككل مكافح، والمستهدفة للعدوان الاستعماري الشرس طوال القرن التاسع عشر، ولمدة النصف الأول من القرن العشرين إلا نقطة من بحر… نقطة من بحر انتقل خلالها وطنيون مجاهدون بتوجيه من الأحداث، وفي اتجاه التاريخ دائما من النضال السياسي على مستوى الحركة الوطنية إلى النضال بوسائل أخرى على مستوى المقاومة المسلحة وجيش التحرير، ولهدف استرجاع الأراضي الوطنية المسروقة أو المغتصبة، والدفاع عن وحدة وسيادة البلد في البر وفوق المياه (ص5). اشتمل المؤَلف على ثلاثة فصول، مدخل تمهيدي وملحق إضافي تضمن صورا ووثائق تاريخية.
استعرض المؤلف الظروف التاريخية لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال وبدايات وعي المقاومة المغربية بضرورة المواجهة المسلحة، خاصة مع أحداث سنة 1947، كما أبرز أهمية العمل الفدائي في تطوير الخلايا الأولى للعمل المسلح، وأولى المعارك ضد الاستعمار الفرنسي في الجنوب بعد حصول المغرب على استقلاله.
وتناول الفصل الأول ظروف انطلاقة جيش التحرير في الجنوب المغربي وكيفية توزيع المناطق الصحراوية بين الاستعمارين الفرنسي والاسباني، وكذا موقع مدينتي إيفني وأيت باعمران كأهم مركزين لقيادة المقاومة، ودورهما في إيواء الفدائيين المغاربيين من قبضة البوليس الفرنسي، إضافة إلى تزويدهما بمقاومة الدار البيضاء بأطر مسلحة وإشرافها على تنظيمات موازية بالجنوب المغربي.
وكشف كذلك المؤلف عن اللقاء الذي ضم قياديين للمقاومة وجيش التحرير لأجل تقييم نتائج مفاوضات «اكس ليبان» وتطرق أيضا إلى العلاقات التي كانت تجمع قادة الحركة الوطنية الموريتانية بأعضاء المقاومة وجيش التحرير، وختم هذا الفصل بالحديث عن بداية هجومات المقاومة على الجيش الفرنسي.
وقدم المؤلف في الفصل الثاني، مواجهات جيش التحرير للقوات الفرنسية بموريتانيا، والصحراء الشرقية خاصة الأولى منها، وعرض تقارير للمشاركين في المعارك، كما قدم تقييما للمرحلة الأولى عن عمل جيش التحرير. وأشار إلى الخسائر المادية التي منيت بها القوات الفرنسية، وردود فصلها ضد جيش التحرير، كاشفا عن جوانب عديدة من العمل السياسي والاجتماعي الذي قام به المقاومون.
وناقش المؤلف في الفصل الثالث والأخير، خلاصة المعارك التي خاضها جيش التحرير ضد التحالف الفرنسي والاسباني، وتحدث عن بداية هذا التحالف، وتساءل عن أسباب وقوع الصدام مع القوات الإسبانية، ليتناول بعد ذلك خلاصة المعارك مع الجيشين الفرنسي والإسباني، ووضعية جيش التحرير بعد إيقاف النار بالصحراء الجنوبية والشرقية.
واحتوى الملحق الإضافي صورا ووثائق تاريخية، كوثيقة عن إحصاء لأنواع الأسلحة التي كان يتوفر عليها جيش التحرير، وتقارير لقيادته عن المعارك التي خاضوها وكذا البيانات التي كانت توجه إلى المواطنين المغاربة، كما عكست الصور لبعض فرق جيش التحرير بعض حياتهم اليومية في جنوب الصحراء أيام المقاومة والمواجهة مع الجيشين الفرنسي والاسباني.