مقدمة

صدر كتاب “ديناميات الفضاء العمومي: دراسة في أسس الانتقال المدني في المنطقة العربية” عن مركز أبحاث للدراسات الاجتماعية والاستراتيجية في مارس 2018، للباحث الدكتور عصام الرجواني، أستاذ علم الاجتماع بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة. ويقع الكتاب في 117 صفحة من القطع المتوسط. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب هو في الأصل دراسة أُنجزت في إطار برنامج مبادرة الإصلاح العربي لدعم البحث العلمي العربي، وقد أُعيد نشره من قبل مركز أبحاث ضمن سلسلة “دراسات استراتيجية”. وبخصوص هندسة الكتاب فيضم مدخلا عاما وثلاثة فصول وخاتمة هي عبارة عن تركيب عام لخلاصات الكتاب، إلى جانب تقديم سلسلة “دراسات استراتيجية” وتقديم الدكتور سعيد بنيس أستاذ العلوم الاجتماعية بجامعة محمد الخامس بالرباط.

فكرة الكتاب وإشكاليته

يعالج هذا الكتاب موضوعا اهنيا بخلفية معرفية، حيث اشتغل فيه الكاتب على مفهومي “المجتمع المدني” و”الفضاء العمومي” باعتبارهما نماذج تفسيرية. حيث حاول صاحب الكتاب استعادة سؤال المجتمع وأدواره المركزية، عبر تقديم أرضية معرفية حول إمكانات التأسيس لانتقال مدني في البيئة العربية والإسلامية. ويعتبر الكاتب بأن الهاجس الكبير الذي رافقه خلال إنجازه لهذه الدراسة تتمثل في تركيب عناصر تفسيرية أولية حول معالم الانتقال في الوطن العربي، خاصة في ظل غياب علم انتقال عربي، من خلال الإسهام في فتح آفاق معرفية لاستيعاب فاعلية ودور المجتمع المدني في حركات الاحتجاج وتأطير معطيات المجتمع في سياق التحول الديمقراطي، بل ونقل الحالة الاحتجاجية إلى فعل مدني استراتيجي عبر تأطير تحرك القوى الاجتماعية الجديدة ضمن شروط نوعية وإمكانات خاصة لم تكن متاحة فيما مضى. حيث يشير الكاتب إلى أن التحول اليوم في أداء الشارع العربي سيفضي بدون شك إلى تحولات استراتيجية كبرى في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية في المنطقة العربية، وهو ما يستلزم بحسب وجهة نظر الكاتب من العلوم الاجتماعية جهدا إضافيا في المواكبة من أجل الفهم والكشف عن عناصر الامتداد والاستدامة.

وفي تقديمه للكتاب يقول الدكتور سعيد بنيس بأن الرجواني حاول “رسم خريطة طريق مستقبلية للحركية المدنية ب”العالم العربي” ترتكز على عدة عناصر منها لا للحصر الانخراط المدني وإعادة تملك الفضاء العام وترصيد مكانة المواطن في المجال الاجتماعي وإبداع صيغ جديدة للتعاقد الاجتماعي عبر انخراط المثقفين و”مؤسسات إنتاج المعنى في المجتمع” وعلى رأسها الإعلام والمدرسة والأسرة، والجمعيات الحقوقية وغيرها وذلك في أفق تذكية مشاعر التغيير وتنميتها وإشاعتها.”كما يضيف الأستاذ سعيد بنيس بكون أن عناصر هذه الخريطة المقترحة من طرف الرجواني تلتقي “مع مقاربة متعددة التوجهات تنطلق من مساءلة الأنساق المفاهيمية التي انبثقت عن حراك الشارع وأصبحت عنوانها الأبرز مثل “ارحل” و””dégage ! و”الحكرة ” و”الكرامة” و”العدالة الاجتماعية” وعن علاقة المجتمع المدني بمقولات الاحتجاج والحجاج ودور القيم والمتغيرات الاجتماعية والتحولات الثقافية في إذكاء السلوكات الاحتجاجية والسياسية.”

الرجة الثورية في العالم العربي والعلوم الاجتماعية

جاء الفصل الأول تحت عنوان “الرجة الثورية في العالم العربي والعلوم الاجتماعية” والذي ينقسم بدوره إلى ثلاثة محاور أساسية (أولا: علوم اجتماعية مفصولة اجتماعيا؛ ثانيا: في الحاجة إلى انتفاضة منهجية؛ ثالثا: النماذج المركبة واستيعاب إنسانية الظواهر الإنسانية). وقد قدم الكاتب في هذا الفصل وجهة نظر نقدية للتراث النظري للعلوم الاجتماعية من حيث قدرتها التحليلية والتنبؤية لما يعتمل في عمق البنيات الاجتماعية والثقافية للمجتمعات العربية والإسلامية. يقول الباحث في هذا الصدد “فبين المقاربة الحتمية التي يفقد فيها التاريخ معناه، وبين المقاربة اللاحتمية التي تسلب الإنسان إرادته المستقلة في التغيير وتجعله رهينا لاستبداد الصدفة، نجد أنفسنا أمام إعاقات منهجية وفوضى مفهومية عانت منها ولازالت العلوم الاجتماعية العربية في علاقتها بمجتمعاتنا، حيث ظلت حبيسة منطلقات نظرية محافظة، لم تمكنها من استيعاب التحولات النوعية التي عرفتها هذه المجتمعات.”

الأبعاد المعرفية للحراك الديمقراطي بالعالم العربي وآفاق التأسيس المدني

أما فيما يخص الفصل الثاني والذي جاء تحت عنوان “الأبعاد المعرفية للحراك الديمقراطي بالعالم العربي وآفاق التأسيس المدني” انقسم بدوره إلى محورين أساسيين تفرعت عنهما محاور فرعية (أولا: المجتمع المدني: نحو نموذج تفسيري جديد؛ ثانيا: الفضاء العمومي العربي: من فضاء السلطة إلى فضاء ضد السلطة). وقد خصص الكاتب هذا الفصل لدراسة الأبعاد المعرفية الكامنة وراء الحالة الثورية العربية. وبحسب الكتاب فلا تعني الثورة هنا المعنى المتداول في الإعلام والذي يشير إلى إسقاط حاكم هنا أو هناك، ولكنها تهمأساسا كل إمكانات التحول في المنطقة على المستوى الثقافي والفكري والقيمي، فدراسة السلوك الاحتجاجي وآفاقه الثورية بحسب الكاتبله إحالة مباشرة على الأنساق الثقافية والقيمية المهيمنة اليوم في المجتمعات العربية والإسلامية، خاصة في سياق معولم ساهمت في صياغته تقنيات التواصل والتكنولوجيا الحديثة في مجال الإعلام والاتصال التي سهلت الانسياب العفوي لقيم التحرر، وبالتالي فدراسة الاحتجاج وفق هذا المقترب هي دراسة في العمق لمركب الثقافة والقيم السائدة في المجتمع، وهو ما تكشفه الخبرة العالمية في مجال التغيير الديمقراطي، والتي تبين كيف تتصدر الثقافة عملية التغيير الاجتماعي، فالثورة وفق هذا المنظور الثقافي ليست سوى عملية مطابقة للنماذج المعرفية  والذهنية والثقافية مع بنيات الواقع في السياسة والاجتماع والاقتصاد.

إلى جانب ذلك تناول هذا الفصل أيضا مفهوم الفضاء العمومي وتجلياته في الوطن العربي وعلاقته الجدلية بحقل السلطة، خاصة في سياق عودة الجمهور للتأثير في المجال العام، وترصيد كينونته في المجال الاجتماعي، وتحققه كذاتية وفاعلية لها تأثيرها في مجريات الأحداث، كل هذا تم في سياق تكويني عاشته المجتمعات العربية على امتداد عقود طويلة ساهمت فيه بشكل كبير حركات اجتماعية احتضنت الفكرة التحررية، ونازعت الدولة في مجالاتها التقليدية لممارسة السلطة، حتى تشكلت نواة مضادة للسلطة وتمايزت عن الأشكال التي خلقتها الدولة الحديثة بشكل قسري. غير أن هذا المستوى التحليلي بحسب الكاتب لا يتجاهل مسألة الدولة، بل يضعها صلب سيرورة تشكّل مجتمع مدني حقيقي، إنّها عملية بناء ترسم مجال وحدود التقاطع بين المجتمع والدولة.

حالة القيم المدنية في العالم العربي

خصص الكاتب الفصل الثالث والذي جاء تحت عنوان “حالة القيم المدنية في الوطن العربي: عينة من المغرب وتونس ومصر”، لرصد حالة القيم المدنية التي يحملها الجمهور العربي من خلال رصد مواقف واتجاهات الرأي لدى عينة من المغرب وتونس ومصر وذلك من خلال تركيب معطيات ونتائج “المسح العالمي حول القيم” خلال موجة 2014-2010. ذلك أن السيرورات الانتفاضية التي يعرفها العالم العربي قد أعادت طرح السؤال بشأن الجمهور العربي ومركزيته في عمليات التغيير الديمقراطي، وإعادة تشكله وفق معطيات العولمة والتكنولوجيات الحديثة في التواصل والإعلام، وهو ما يبرر بالنسبة لصاحب الكتاب ضرورة تحديد طبيعة النسق القيمي المهيمن لدى الجمهور العربي من خلال دراسة الاتجاهات القيمية المرتبطة بإمكانات التأسيس للوعي المدني وفعل المشاركة في تدبير المصلحة العمومية، من قبيل أهمية السياسة بالنسبة للجمهور العربي ودرجة اهتمامهم بالشأن السياسي، والانتماء للمنظمات الطوعية والأحزاب السياسية، وطبيعة الأهداف الأكثر أهمية بالنسبة للجمهور العربي خاصة فيما يتعلق بالنظام السياسي والانتخابات ومسألة الحقوق والحريات والديمقراطية، وطبيعة النشاط السياسي الأكثر شيوعا، ودرجة الثقة لدى الجمهور العربي فيما يخص المؤسسات الاستراتيجية وعلى رأسها القضاء والجيش والحكومة وتطلعات الجمهور العربي بخصوص التغيرات المستقبلية ودرجة تخوفاته بخصوص أداء الحكومات وتحديات الإرهاب والحروب الأهلية.

خلاصات الكتاب

تتعدد خلاصات الكتاب بين ما هو معلن بشكل صريح وبين ما هو مضمر في ثناياه، وفي هذا الصدد يقول الدكتور سعيد بنيس أنه “يمكن ذكر لا للحصر أن الفضاء العمومي العربي تحول من فضاء السلطة إلى فضاء ضد السلطة، وأن التأثيرات في الفضاء العمومي أبانت على بداية “ذاتية جديدة” للضغط السياسي من خلال تحول “الجمهور” إلى فاعل ومؤثر في سيرورة الأحداث والتحولات السياسية والاجتماعية، وكذلك ثقل وفاعلية الاحتجاج في استعادة “عمومية “الفضاء العمومي، وانتقال السلوك الاحتجاجي من الافتراضي إلى الواقعي وبروز مفهوم “سياسة الشارع” لتوصيف الممارسات التي طورتها الفئات الاجتماعية المهمشة، وتوظيف الشارع كموقع سياسي بالنسبة للناس العاديين المقصيين من المراكز المؤسساتية للسلطة.”