بين يدي التقديم

على عادة الكبار، شغل الأستاذ علال الفاسي الناس بعبقريته، وسعة فكره، وموسوعيته، إذ لا تكاد تجد قضية أو مسألة إلا وكان له فيها إسهام، أو رأي،أوفتوى؛ وأعماله –سواء الصادرة في حياته أو بعد مماته – تخبر بزخم ما خط يراع هذا العبقري.

ومسألة “التصوف” واحدة من القضايا التي أسالت مدادا كثيرا، وشغلت حيّزا كبيرا في تاريخ الفكر الإسلامي، وحضرت في حياة الأمة نظريا وواقعيا على مدى قرون، سواء في مرحلة النشأة حين أحال التصوف على طلب كمال النفس عن طريق الزهد فيما يقبلالناسعليه من لذة ومال وجاه، والانكباب على العبادة والاشتغال بالذكر، والاستغناء عما في أيدي الحكام، والرضى بالأدنى من الطعام والشراب واللباس، والحرص على مخالطة الفقراء، ومجاهدة النفس وكبحها عن معاقرة الشهوات والمعاصي، والإقلال من النوم والكلام إلا عند الحاجة، وعمارة المساجد، وارتداء الرثّ،بلَه المرقّع من الصوف.. . إلى أن شهد تحوّلات خطيرة، وأصبح طريقاً إلى المعرفة القائمة على التفكّر،والامتناع عن الطيبات، وترك المباحات، والامتناع عن الزواج…

ولأن قضية التصوف بهذا الحجم، وبهذا المدى، فليس غريبا أن يكون للأستاذ علال الفاسي رأي فيها، وفي أصولها وتحولاتها وتفاعلاتها، وإن اختار أن يكون ذلك كله في ارتباط بالمغرب فضاءً لتاريخ نشأته، ومسرحا لتطوره.

تقديم الكتاب

صدر الكتاب عن مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء، في 166 صفحة من القطع المتوسط ضمن منشورات مؤسسة علال الفاسي سنة 2014، وقد أعدّه للطبع عبد الرحمن بن العربي الحريشي، وصححه المختار باقة.

وأصول هذا الكتاب كما يوضح معدّه عبد الرحمن الحريشي بحث من ثلاثة أطراف: طرف وجده “موزعا بين ملفات المؤسسة ووثائقها، وطرف آخر منشور بمجلة الثقافة المغربية، وثالث مسجل في الإذاعة المغربية”[1]. وقد عمل الأستاذ الحريشي على جمع أصول هذا البحث إلى بعضها، وإعدادها لتكون مهيأة للنشر، دون إدخال أي تغيير على جوهر ألفاظه وجمله وفصوله، كما ذيّل البحث بملحقين اثنين لهما ارتباط بالموضوع، كان الأستاذ علال الفاسي كتبهما بمنفاه في الگابون وهما:

– إيداوعلي: الشرفاء التيجانيون بموريطانيا.

– الطريقة الفضلية وآل الشيخ فاضل.

منذ البداية يلفت الأستاذ علال الفاسي نظر القارئ بأن موضوع التصوف في المغرب “يحتاج إلى دراسات تتناوله من كل جوانبه”، ثم حدّد مسار بحثه بنفَسه الإيجابي بقوله: “لأن ذلك يكشف عن جانب مهم من جوانب الفكر المغربي، وعطاء بلادنا في ميدان الفلسفة القرآنية، إلى جانب عطاءاتها الأخرى في ميادين العلم والفن والفلسفة والأدب” (الكتاب ص 7).

تحت عنوان (أصل التصوف) اختار الأستاذ علال الفاسي ألا يطيل في البحث في أصله، واستعاض عن ذلك بردّ ما زعمه المستشرقون وبعض الباحثين العرب أمثال نيكولسون، وجون كريمير، وجولد زهير من كوْن التصوف الإسلامي تسربت إليه تعاليم أفلاطونية وآراء هيلينية، ثم يعزز ما دهب إليه بالرجوع إلى الآيات القرآنية والسيرة النبوية وأخلاق الزهاد من الصحابة، ليثبت أن “الحياة الروحية عند المسلمين ليست بحاجة في سيرتها وتطورها إلى أن تقتبس من مذهب معيّن أو دين آخر، وأن الصوفية المسلمين ليسوا إلا المظهر المتطور للزهاد الأولين أو عباد الصحابة” (الكتاب ص 7). وبذلك يحسم في إشكالية ارتباط التصوف الإسلامي بأي طرف خارجي.

أما على مستوى قيام الحركة الصوفية، فيرى الأستاذ علال الفاسي أن هذه الحركة تبلورت في منهجين اثنين: منهج أبي يزيد البسطامي، ومنهج أبي القاسم الجنيد، معتبرا أن البسطامي من أوائل صوفية الحقائق. رافضا أن يتناول كلامه على معنى وحدة الوجود “التي لا نظن أنها عرفت عند المتصوفة المسلمين قبل ابن عربي الحاتمي” (الكتاب ص 13). أما أبو القاسم الجنيد فهو عنده: ” إمام العارفين الذي اختار المغرب مذهبه، وسار على منهجه”.

انتقل الفاسي بعد ذلك إلى البحث في شعب التصوف المغربي، فعرض أنواعا ثلاثة: تصوف الفقهاء، وتصوف أهل الحقائق، وتصوف الأخلاق والرقائق. ثم قسّم عصور التصوف المغربي إلى أربعة عصور على مذهب ميشو بيلير وهي:

1 – من عهد الجنيد وأبي يزيد  إلى عهد أبي مدين، وعبد القادر الجيلاني.

2 – من عهد أبي مدين وعبد السلام بن مشيش، إلى زمن الشاذلي في القرن السابع الهجري.

3 – من زمن الشاذلي إلى عهد الجزولي: (من القرن السابع إلى القرن التاسع).

4 – من عهد الجزولي إلى يومنا هذا: (من القرن التاسع إلى القرن الرابع عشر).

ثم توقف عند الرباط والمرابطين، وبحث في أصل التسمية وتطورها، وأكد أن المرابطين “يجمعون بين حياة الجهاد والحياة الدينية، ثم ما لبث أن أخذ الرباط يفقد طابعه الحربي وتغلبت عليه الصفة الدينية ثم تحول إلى دار للمتصوفة، وأصبحت كلمة المرابط علَما على أبناء الصالحين، الذين رابط أسلافهم أو كانوا رؤساء زوايا، وأدخلت المرابطية في عداد النبالة الدينية، في الرتبة الثانية بعد آل البيت” (الكتاب ص 15-16). مبرزا التطور الذي حصل للرباط والمرابطين في المشرق والمغرب، مع الرد على الذين لمزوا هذه الفئة في تديّنهم بدءا بالبكري وانتهاء بالدكتور يحي هويدي معرفا بعدد من أعلام المرابطين.

وبشيء من التفصيل يعود إلى الحديث عن (تصوّف الحقائق)، ليميّز بين فئتيْن: معتدلِين وغلاة، في مقابل صوفية الأخلاق، مؤكدا أن كلا من صوفية الحقائق وصوفية الأخلاق في المغرب ليس فيهم “باطنية مارقون، ولا رافضة إسماعيلية أو بهائية، إذا صح أن يعدّ هؤلاء الأخيرون من طوائف المسلمين” (الكتاب ص 24).

ثم عرّف بأعلام متصوفة الحقائق في العهد الأول: ابن العريف، وابن عربي الحاتمي، وابن سبعين، وأبو الحسن المسفّر، وعبد السلام بن مشيش، وفصّل الكلام في أصل طريقة كل واحد منهم، مع ذكر ما يثبت اعتدالهم، ثم انتقل إلى التعريف بأعلام العهود اللاحقة (الثاني والثالث والرابع)، ووقف عند التحول الذي سيشهده التصوف خلال هذه العهود، وترجم عبد القادر بن أبي حيدة ومحمد بن محمد الحرّاق ومحمد بن عبد الواحد الفاسي (ابن مسعود)، ثم توقف مع أعلام صوفية الأخلاق فعرّف بأبي عبد الله أمغار، وأبي شعيب الصنهاجي، وأبي مدين الغوث، وأبي يعزى، وأبي محمد صالح. وقد أجاد الأستاذ علال الفاسي في عرضه لهذه المدارس، وأفاد في تعريفه بأعلامها، مستعينا بالمصادر العربية والأجنبية التي تعضد رأيه ووجهة نظره.

تبقى الإشارة إلى أن مبحثي (إيداوعلي: الشرفاء التيجانيون بموريطانيا) و (الطريقة الفضلية وآل الشيخ فاضل) على أهميتهما لم يكونا ضمن أصول البحث، وإنما أضافهما معد الكتاب الأستاذ عبد الرحمن الحريشي ليبرر به زيادة (العربي) في أصل العنوان ليصبح “التصوف الإسلامي في المغرب العربي”.

على سبيل الختم

على امتداد صفحات الكتاب، يلفت نظر القارئاعتزاز الأستاذ علال الفاسي بمغربيته،وإيراد كل ما يثبت تميّز صوفية المغرب، مؤكدا على ريادة رجالاته، وتميّز أعلامه، مجتهدا في دفع شبهة الغلو عنهم، معتزا بأدوارهم ومدى تأثيرهم في المدرسة المشرقية. ويبقى الكتاب مرجعا في مجاله، وخاصة في بعده التأريخي للتحولات التي عرفتها المدرسة الصوفية المغربية.

المراجع
[1] أنظر تصدير الكتاب ص 3 بتصرف.