المحتويات
بين يدي التقديم
عرف المغرب مطلع القرن العشرين مشاريع نهضوية متباينة سعت جميعها إلى تلمس طريق الانعتاق، والبحث عن سبل استئناف الدور الحضاري للمغرب، ودعت إلى الخروج من دركات الضعف والتخلف التي طالت مجالات شتى، في وقت كان فيه العقل الأوربي يستكمل بنجاح، معالم نهضته العسكرية والصناعية والاقتصادية التي انطلقت بوادرها مع حملة نابليون سنة 1798م.
وهكذا ظهرت مشاريع إصلاحية تفاوتت في تشخيص الأزمة إما جزئيا أو كليا، وأبدعت في توصيف الحلول لعدد من مظاهر الأزمة، والملفت هنا أن قضية الهوية والمرجعية الإسلامية حضرتا بقوة في جميع هذه المشاريع، دونما تحجر في مسألة الانفتاح على ما أبدعه العقل البشري عموما والغربي خصوصا.
وقد عرف المغرب مشاريع إصلاحية نهضوية دوّنها أصحابها إما في شكل كتب أو رسائل، أو روّجوا لها من خلال محاضرات وخطب … بعضها طبع، وبعضها الآخر ما زال في الرفوف ينتظر يدا قوية وهمة عالية لتنفض عنها غبار النسيان.
ومن أشهر هذه المشاريع: مشروع الحجوي الثعالبي ومشروع محمد بن جعفر الكتاني ومشروع علال الفاسي. وهي مشاريع حظيت باهتمام جمهرة من الباحثين والدارسين، حيث سلطت الضوء على مرحلة تاريخية فارقة من تاريخ المغرب الحديث، وقدّمت نموذجا لما وصل إليه العقل الإصلاحي المغربي حينئذ.
ولأن المقام لا يتسع لعرض أكثر من مشروع، فسنكتفي في هذا التقديم بإطلالة على مشروع علال الفاسي من خلال كتابه “النقد الذاتي”.
تقديم الكاتب
العلامة، الفقيه، المقاصدي، الأديب، الشاعر، الزعيم السياسي محمد علال بن العلامة عبد الواحد بن عبد السلام بن علال الفاسي الفهري، ولد يوم 20 يناير 1910 بعاصمة المغرب العلمية مدينة فاس ، ونشأ وترعرع في كنف أسرة عربية مسلمة عريقة، هاجرت من الأندلس زمن محاكم التفتيش الإسبانية، واستقرت أولا بمدينة القصر الكبير ثم بشكل نهائي في مدينة فاس. وكان علال محلّ عناية كبيرة من والده لكونه ولده الوحيد.
حفظ الطفل علال القرآن الكريم في الكتّاب على يد الفقيه محمد الخمسي، ثم انتقل إلى المدرسة العربية الحرة بفاس القديمة لتعلم مبادئ الدين وقواعد اللغة العربية. ثم التحق بجامع القرويين سنة 1920م، وبه أخذ علوما وفنونا عن كبار العلماء -كالفقيه محمد بن العربي العلوي، والشريف المفتي الحسين العراقي، والقاضي أحمد بن المأمون البلغيثي، والقاضي عبد الله الفضيلي، والفقيه الشيخ أبي شعيب الدكالي، وغيرهم كثير، إلى أن تخرج من القرويين حاصلا على شهادة العالِمية.
تقلد علال الفاسي مناصب ومسؤوليات ومهاما عديدة، فكان عضوا في لجنة مدونة الفقه الإسلامي، وأستاذا في كلية الشريعة بفاس، وأستاذا بكلية الحقوق، وكلية الآداب بجامعة محمد الخامس، وأستاذا بدار الحديث الحسنية بالرباط، وعضوا في مجمع اللغة العربية بدمشق، ومجمع اللغة العربية بالقاهرة، ورئيسا لحزب الاستقلال وأمينا عاما له، ووزيرا للدولة مكلفا بالشؤون الإسلامية.
سطر علال الفاسي تاريخا حافلا بالكفاح الوطني منذ معارضته “الظهير البربري” ونشاطه الواسع لإسقاطه سنة 1930م، مما عرضه للاعتقال والمنع من التدريس، لكنه انصرف بعزيمة فذة إلى جامع القرويين ليلقي به الدروس العلمية، ويوسع من نشاطه ضد الاستعمار الفرنسي، مما عرضه للنفي إلى الغابون ما بين 1937-1941، ثم إلى الكونغو عام 1946.
أسس علال الفاسي فور عودته سنة 1947م حزب الاستقلال. ثم ما لبث أن سافر إلى عدد من الدول العربية والأوروبية معرفا بالقضية الوطنية، فلما عاد سنة 1949 إلى المغرب منعته السلطات الفرنسية من الدخول، فأقام بطنجة لكونها يومئذ منطقة دولية. وبالرغم من انشغاله بالعمل السياسي، صنف علال الفاسي أزيد من ثلاثين كتابا في مجالات مختلفة، فضلا عن عدد من المحاضرات والمقالات والخطب السياسية والقصائد الشعرية. ومن أشهر مؤلفاته: النقد الذاتي – مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها – دفاع عن الشريعة – الحركات الاستقلالية في المغرب العربي – صحراء المغرب المغتصبة – الإسلام وتحديات العصر…
توفي رحمه الله يوم الاثنين 20 مايو 1974، في العاصمة الرومانية بوخارست، وهو في مهمة دبلوماسية على رأس وفد من حزب الاستقلال.
تقديم الكتاب
صدر الكتاب عن المطبعة العلمية بالقاهرة سنة 1952، في 432 صفحة من القطع الصغير، ليطبع بعد ذلك طبعات عديدة. والكتاب – باتفاق جل الدارسين- منتوج فكري / ثقافي يخبر بقيمة المؤلف وموسوعيته. وقد ضمّنه معالم مشروع إصلاحي مس جوانب من الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية، مساهمة منه في الإعداد لبناء مغرب ما بعد الاستقلال.
وقد أقام الزعيم علال الفاسي هذا المشروع على دعامتين أساسيتين (المسألة الفكرية والحرية)، يقول عن الحرية: “إن دواء الحرية صعب، ولكنه وحده الدواء الصحيح”. وعن المسألة الفكرية يستشهد بكلام للفرنسي فولتير (voltaire): “إذا أردت إنهاض شعب فعلمه كيف يفكر”.
إلا أن علال الفاسي – وهو يعرض مشروعه، لم يفته أن ينفي الكمال عمّا كتب، إذ صدّر كتابه بقوله: “وليس ما أعرضه في هذا الكتاب أفكارا أفرضها على قرائي أو ألزمهم بانتحالها، بل إنها ليست بأفكار نهائية حتى بالنسبة إلي، وإنني لمستعّد لأن أعيد النظر في كل رأي منها”. بل إنه نبّه إلى أن ما عرضه في هذا الكتاب “إنما يقدّمه بصفته الشخصية لا بصفته زعيما لحزب الاستقلال، داعيا شباب الحزب إلى النظر في هذه الفصول حتى يتسنى لهم أن يشاركوا في تكوين البرنامج الذي سيعمل على وضعه للمغرب المستقل بحول الله”.[1]
والكتاب موضوع هذا التقديم من أربعة أبواب وخاتمة:
- الباب الأول: (مسائل الفكر) وفيه خمسة عشر مبحثا: أشار فيه – وبرؤية استشرافية – إلى قضايا ذات صلة بالفكر المنشود، وعرض لمجموعة من الانحرافات الفكرية التي تحُول دون الانطلاق لغد أفضل، وخص الأنانية بوقفة خلص من خلالها إلى أنها داء يفتك بالأمة المغربية، وأنها مصدر كل نقائصنا الاجتماعية؛ ثم تحدث عن التفكير الاجتماعي والشمولي باعتباره دواء ناجعا للتخلص من هذا الداء البغيض الذي كان سببا وما زال في تمزيق المغرب، داعيا إلى جعل وحدة القضية المغربية فوق كل الاعتبارات الفردية والمصالح الشخصية.
ثم طرح قضية (ارتجالية التفكير)، وعَدَّها خطرا داهما تسبّب في أشكال وصور من الفشل، وختم بالدعوة إلى الثورة على الارتجال، بالحديث عن قضية التفكير بالواجب، وجعله هو المنهج الوحيد لتكوين الشخصية المستقلة التي تعيش للمجموع وتحيا لخدمة الأمة.
وضمن هذا الباب تعرض لقضايا أخرى، نسوقها في شكل عناوين كالتالي: أرستقراطية التفكير، وتعميم التفكير، وحرية التفكير، والتحرر الفكري، والفكر العام، وتوجيه التفكير العام، وتداعي الأفكار، والفكر بين العصرية والمعاصرة، واختيار الأفكار..
- الباب الثاني: (التفكير بالمثال) وفيه 9 مباحث وخلاصة : وناقش فيه القضايا التالية: التفكير بالمثال، الفكر الديني، الفكر الإسلامي، الفكر الوطني، الفكر المغربي، الفكر الإداري، الفكر السياسي، الفكر الحزبي، والفكر القضائي، وقد أبان في هذا الباب عن حضور لافت لمرجعيته الدينية، وتكوينه الشرعي المتين، وقدرته الفائقة على استحضار النصوص الشرعية والمبادئ الإسلامية التي اقتبس منها ما يراه صالحا للرفع من مستوى الأمة واستعادة عزتها وكرامتها، مصحّحا عددا من الرؤى وَوِجهات النظر التي يرى أنها ما زالت تشكل عائقا في النهوض بأمتنا.
- الباب الثالث: (الفكر الاقتصادي) وفيه سبعة مباحث وخلاصة: وهو باب خصه للحديث عن الفكر الاقتصادي، وقدم فيه مقترحات بغرض إصلاح هذا المجال الحيوي، مؤكدا على أهمية بناء عقلية اقتصادية مستقلة في أفق مغرب مستقل، ولم يفته مرة أخرى أن يعرض رؤاه في هذا المجال على ضوء تعاليم الشريعة الإسلامية وهو يحلل عددا من المشاكل التي يعاني منها المجتمع المغربي والدولة المغربية، يقول رحمه الله: “إن غايتنا الأولى والأخيرة هي تحرير الإنسان، سائر أفراد الإنسان، من الاستعباد الاقتصادي… نريد القضاء على هذه الروح وأسبابها، وخلق روح تضامنية بين جميع الأفراد من أجل ازدهار الكفاءات الإنسانية في دائرة الشغل والمهنة كما في الدوائر الأخرى..”[2] ثم حدد أسسا ثلاثة لهذا الفكر، أعقبها بشروط يرى أنها كفيلة لتأمينها وحسن تنزيلها.
- الباب الرابع: (الفكر الاجتماعي) وفيه إثنان وثلاثون مبحثا وخلاصة، ثم خاتمة: وفي هذا الباب تحدث عن الفكر الاجتماعي، وهو باب أطول من سابقيه، حدّد فيه عناصر وسمات الفكر الاجتماعي كما يراها ويؤمن بها، ومن أهم القضايا التي ناقشها في هذا الباب: ضرورة المحافظة على الوجدان العالي الذي تتميز به أمتنا، معتبرا أن التفكير بالمجتمع يحتاج أول ما يحتاج إلى إحداث ثورة فكرية، وأن التحرر الفعلي من خرافات الماضي وأباطيل الحاضر، يأتي في مقدمة العوامل على الإصلاح والكفاح من أجله. وضمن ثنايا هذا الباب ساق قضايا اجتماعية عديدة منها: قضية العائلة، والبغاء، والطلاق، وحقوق المرأة المدنية، والإدمان، والتعليم وقضاياه: لغته ومناهجه ومواده وإجباريته… ولم يفته مرة أخرى أن يعرض ما عرض، على ضوء تعاليم الإسلام وأخلاقه، داعيا إلى ضرورة التجديد، واعتماد عناصر البقاء التي نستمد منها استمرار الحياة.
على سبيل الختم
إن “النقد الذاتي” وبإجماع المتتبعين، أحد أهم ما كتب الأستاذ علال الفاسي، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، وهو عمل يقدم شخصية علال العالم والمفكر والإصلاحي والسياسي، وبالرغم من كونه كتب في مرحلة مبكرة من عمره، إلا أنه أبان فيه عن سعة فكر، وانفتاح أفق، وسعة صدر استطاع أن يحدد من خلالها معالم مغرب المستقبل ومستقبل المغرب، وقد أبانت القضايا التي طرحها في الكتاب عن عقلية رجل مؤمن بقضايا مطبوعة بروح العصر مثل: الحرية والفكر والديقراطية… وتحيل على شخصية رجل مؤمن متمسكٍ – وبإصرار – بالمرجعية الإسلامية.
لقد تميز علال الفاسي عن غيره من الإصلاحيين بقدرته على صياغة مشروع شمولي جامع، حدد فيه معالم مغرب يمكن أن يحوز حظا من الازدهار في إدارته، وتعليمه، واقتصاده،ويمكن للمرأة والأسرة أن تتبوآ فيه مكانة سامية، وأن يحظى فيه الشباب بمكانة تليق به باعتباره فئة متطلعة ناهضة قوية.
رحم الله العلامة المصلح الزعيم علال الفاسي وتقبل منه وغفر له آمين.
المراجع
[1] أنظر، علال الفاسي: النقد الذاتي، المطبعة العلمية / ط 1، تصدير الكتاب (بدون ترقيم).[2] علال الفاسي: النقد الذاتي، مطبعة النجاح الجديدة، ط 11 – ص 203.