توطئة

كشف الدكتور إبراهيم أيت إزي عن سِرِّ كتابه الموسوم بعنوان؛ “الحَراك الاجتماعي في مغرب ما بعد الاستقلال 1956-1975م”، وقد تبلورت فكرة الكتاب في البدء على شكل أطروحة جامعية تحت إشراف الدكتور لطفي بوشنتوف، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط، وكانت مناقشتها بتاريخ 20 شتنبر 2019، ويتمركز هذا العمل حول إشكال مركزي، وهو: هل نعيش زمن حراك يتكرر، أو صورة معدّلة لما وقع في الأزمنة السابقة، أم نحن أمام تحولات جديدة عما كان في القرن التاسع عشر وما قبله؟ 

نستهل هذه القراءة  بتحديد الزمن الذي تنضوي تحته كل الأحداث والوقائع التاريخية المدروسة، أي خلال الفترة الممتدة ما بين عام 1956م زمن الاستقلال الذي كان بعد مخاض أليم، و1975م زمن تنظيم حدث “المسيرة الخضراء”، وتغير مسار وميكانيزمات النسق السياسي والديمقراطي بالمغرب، ليشكل بدءً لتجربة سيادية جديدة تميزت بالتفاف الشعب حول مَلِكِهِ الراحل الحسن الثاني، من خلال الإسهام في تنظيم حدث “المسيرة الخضراء” واسترجاع الأقاليم الجنوبية، الحدث الذي سيفصل بين بداية السبعينيات وما تميزت به هذه الفترة من انقلابات ومؤمرات 1971 – 1972- 1973م، وبدء مرحلة جديدة من التوافقات والإعتراف بسيادة النظام الملكي، وقد ركز الباحث على سياق تاريخي يتأرجح بين أحداث مغرب ما قبل الحماية 1912م، والتي تمثل هامشا مؤطرا لمفهوم الحراك الاجتماعي، علاوة على الالتفاف حول أحداث زمن الحماية 1912-1956م، باعتبارها مرحلة مركزية في البحث، وكان استحضار مرحلة القرن التاسع عشر أساسا بغرض المقارنة بين مفهوم “الحَرْكة الاجتماعية” في مغرب هاتين الفترتين لتبيان التطور الحاصل وبناء أوجه المقارنة، لتتبع تطور المفهوم وتغيّر بنيته من زمن كان فيه عبارة عن “تمرد” بعض القبائل المغربية بسبب “القهر الجبائي” إلى زمن “حَراك” المدينة، والبروليتاريا، والنقابات، والحركة الوطنية والأحزاب. إنها حالات تستدعي مقاربة مفهوم “الحراك الاجتماعي” مقاربة تاريخية رصينة، إضافة إلى الإحاطة بمختلف المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية بهدف الاستدلال عن اختلاف مسار الأحداث وفهم المسببات، إذن فهي تستدعي من الباحث تخصيص قسم كبير للحديث عن السياقات والمسببات وردات الفعل والامتدادات والمحصلات.

مضامين الكتاب

يتوزع البوح في هذا الكتاب على ثلاثة فصول أساسية:

الفصل الأول:

استهل الباحث الفصل الأول بتحديد مفاهيمي وتأصيل تاريخي، وقد تم افتتاحه بمفهوم “الحراك الاجتماعي” باعتباره جوهر الكتاب ووقود الحالات السالفة التي تطرقنا لها، وبما أن مفهوم “الحَرْكة الاجتماعية” مفهوم متغير ومتطور بالمعنى المختصر، باعتبار أن الكيفية التي يتجسد عليها ومسبباته ونتائجه وامتداداته في كل مرحلة تختلف عن التي تليها، فإنه لفهم هذا التغيّر في مفهوم “الحراك الاجتماعي”، قد عمد الباحث إلى تعريف مصطلحات من الذاكرة الشفوية كـ”الحَرْكة” بسكون الراء، “العِيطَة”، ثم “الهِيعَة”. فضلا عن مصطلحات ومفاهيم ثقافية، ومنها؛ “السيْبَة”، “الفِتْنة”، إلى جانب مصطلحات ومفاهيم نظرية: “الاحتجاج”، “التمرد”، “الثورة”، “العصيان”، “الانتفاضة” وأخيرا “المظاهرة”. وتميز هذا الفصل كذلك بالتطرق لحيثيات الحَراك الاجتماعي في مغرب ما قبل الاستعمار، والحراك الاجتماعي في المغرب زمن الاستعمار ما بين 1912 و1956م.

الفصل الثاني:

استحضر فيه الباحث خصوصيات مغرب ما بعد الاستقلال 1956-1975م، عبر الاشعاع المبهر بالمسار الطويل الذي قطعه المغرب قبل حصوله على الاستقلال سنة 1956م، من خلال إبراز إسهامات مختلف الفاعلين في صنع الحدث، وأدوارهم فجر الاستقلال، واستهل الدراسة بمؤسسة “المخزن”؛ فالحماية حسب تعبير الباحث لم تكن إزاحةً للمخزن، بل دعما لبنياته وترسيخا لآليات السلطة المشتعلة آنذاك. وقد التفت الباحث إلى دور السلطان في هذه المرحلة؛ باعتباره أهم قوة سياسية في البلاد فجر الاستقلال؛ فقد “ابتسم الحظ التاريخي لسلطان وسياسي نبيه، استثمر بذكاء رمزية العودة من المنفى لسحب البساط من تحت أقدام حزب الاستقلال في مرحلة قوته”، وهو الفاعل الأول في هذه المرحلة، إضافة إلى فاعلين آخرين وسموا أدوارهم بقوة قُبَيْلَ الاستقلال كمثال “جيش التحرير المغربي”، “الاتحاد المغربي للشغل”، “حزب الشورى والاستقلال”، “الحزب الشيوعي”، وكلها أطراف فاعلة أسهب الباحث في تطلعاتها وأدوارها وتوافقاتها خلال هذه المرحلة. يمكن تسميتها بمرحلة التوافق حول تحقيق مطلب الاستقلال، وقد حكمت هذه القوى والأطراف المختلفة نزوعاتها لتساهم في بناء المغرب المستقل، بالأبعاد المختلفة للدولة، السياسية والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية. بيد أن الانفلات من ثقل الحماية سيدخل هذه الأطراف في صدامات حول نزاعات داخلية كانت غير مكشوفة أو تم التغاضي عنها خلال فترة الحماية، إنها تجربة انتقالية عرج عليها الباحث ليبرز تطور الأحداث خلال مغرب ما بعد الاستقلال 1956-1975م، ليتم الانتقال إلى مرحلة جديدة سلط فيها الباحث الضوء على حدث مفصلي، يتعلق بوفاة الملك محمد الخامس يوم 06 فبراير 1961 واعتلاء الملك الحسن الثاني عرش المغرب المستقل يوم 03 مارس 1961م، المرحلة التي وَصَفها بالمنعطف السياسي، حيث تميز انطباع الملك الشاب بالحذر من الأحزاب السياسية، وإضفاء نمطٍ من الدينامية والتقدمية على المهمة الملكية، وكشف عنايته بالعالم القروي، وفعل المشاريع الصناعية التي بلورتها الحكومات السابقة، كما أنه زار عددا من الأقاليم خلال الأشهر الأولى، وربط الصلة بالمنتخبين المحليين. ويعتبر الخوض في الانزلاق السلطوي الذي طبع المرحلة، وتعمق الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية ما بين 1960 و1965م، فضلا عن إعلان حالة الاستثناء سنة 1965م؛ المرحلة التي تميزت بترسيخ سلطة الملك وتجميد العمل الحزبي، واتجهت الدولة في منحة الأوتوقراطية، ما سيقود الأحداث إلى ظهور احتجاجات طلابية ستنظم لها فئات أخرى من المجتمع، وسرعان ما ستتجه الملكية نحو الأفول، حيث اقتبس الباحث مضمون رسالة كلودلوبيل (C.Lebel)–سفير فرنسا إلى المغرب- حررها في يناير 1971، وأرسلها إلى وزير الشؤون الخارجية موريس شومان (M.Schumann) يوم 08 فبراير 1971، حيث ذكر أن النظام  المغربي بداية السبعينيات بدأ يغرق، وأن الملك يفقد هيبته تدريجيا.

الفصل الثالث:

يأتي الفصل تحت عنوان “الحالات الشاهدة” حيث اعتمد الباحث على مقاربة دراسة الحالة (L’étude de cas)، بحيث اختار نماذج من الوقائع والأحداث التي اعتبارها “حالات شاهدة” تعكس مدلولات “الحراك الاجتماعي” بشكل سيمكن القارئ من ملامسة المفهوم وإدراك مسبباته ومظاهره، ونتائجه وتطوراته، في بنية المجتمع المغربي عبر مراحل تاريخية أوردناها سابقا، وهكذا تتابعت الحالات المدروسة بشكل كرونولوجي في إطار تقديس التعاقب الزمني للأحداث وتأثير بعضها في البعض الآخر أحيانا كما سنرى فيما بعد، وفي منطلق الأحداث أشار الباحث في تطرقه لحالات الحراك الاجتماعي في مغرب ما قبل الاستعمار إلى ثورة الدباغين في القرن التاسع عشر، وأحداث بوفكران في عام1937، وأطر مفهوم الحراك الاجتماعي في المغرب زمن الاستعمار بأحداث وادي زم في عام 1955م. أما مظاهر الحراك الاجتماعي في مغرب ما بعد الاستقلال فقد تبينها الباحث من خلال ثلاثة حالات، أولها؛ صدام القبيلة والحزب في عامي 1958 و1959م، وثانيها؛ أحداث الدار البيضاء 23 مارس 1965م، وأخيرا، العمليات المسلحة زمن السبعينيات والمتجلية في المحاولة الانقلابية الأولى 10 يوليوز 1971م، ثم المحاولة الانقلابية الثانية يوم 16 أغسطس 1972م. وفي عرضه لهذه المحطات قام الدكتور إبراهيم أيت إزي باعتماد خطاب تاريخي يعتمد على التعريف بالحدث وتفسيره والخروج بتركيب منهجي وتعميمات قد يتم إسقاطها على حالات مشابهة، علاوة على الإحاطة الهامة بالمعلومات والمعطيات المفصلة، والإحصائيات الدقيقة أحيانا (عدد الجرحى والقتلى والمعتقلين في كل حالة من حالات الحَراك المختلفة)، والرسومات التوضيحية أحيانا أخرى (رسم تخطيطي لقصر الصخيرات وأهم مكوناته، الصفحة 290)، فضلا عن بعض الشهادات التي تزيد من تعزيز معلوماته في محاولة عميقة للإحاطة بالظروف والعوامل الداخلية والخارجية المؤثرة في الحدث، ومحاولة بناء مشهد متكامل للحَراك الاجتماعي في مغرب ما بعد الاستقلال، بيد أن عملية التركيب والتأليف قد تعتليها فراغات، تُعزى بعدم تكامل المشهد من حيث التحليل لأسباب متعلقة باختلاف الأسباب المساهمة في اندلاع وتطور كل حالة، إضافة إلى غياب التخطيط أو التنظيم المحكم للعمليات السالفة الذكر بل تتميز بالفجائية في معظم الحالات المدروسة، إلى جانب تأثير ثقل كل من الزمن والمواقع والذاكرة.

لمحاولة تسليط الضوء على خصوصية الحراك الاجتماعي في مغرب ما بعد الاستقلال 1956-1975م، عمد الباحث أولا إلى إبراز جوانب من الأزمة الداخلية التي شهدتها منطقة الريف سنتي 1958 و1959م، والتي يمكن اختصار خصوصيتها في عبارة “سيبة قبلية أمام حَرْكية مخزنية شبيهة بحرْكات القرن التاسع عشر”، حيث ارتبطت بتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتصاعد حركات التحرر من كل القيود المطبقة، والمطالبة بالحقوق والحريات، وزاد من حدة هذه الأوضاع ملابسات قضية اغتيال “عباس المساعدي” وما أثارته من شكوك آنذاك، وازداد الوضع تعقيدا مع اعتقال المحجوبي أحرضان وعبد الكريم الخطيب، وكذا بنعبد الله الوكوتي، كلها عوامل مباشرة أدت إلى انفجار الأوضاع واشتداد الاحتقان بالمنطقة وتصاعد أصوات التمرد والعصيان، قوبل بإرسال تعزيزات عسكرية إلى مناطق؛ “الحسيمة”، “تارغيست”، “بني عمارت”، “تيزي أوفري”، “زرقاط”، “كتامة”. وفي جانب آخر فقد استجابت معظم القبائل الريفية لنداء “الحرْكة الاجتماعية”، فقد كانت عبارة “اتجهوا للجبال وستحصلون على الأسلحة” منتشرة على أوسع نطاق، غير أنها لم تكن أكثر من تمرد جماهيري عفوي ومحتقن. وتتجلى مطالبهم التي أوردها الباحث في الصفحات 186 و187 و188 من كتابه؛ والتي يمكن تفييئها إلى مطالب سياسية؛ تتمثل في إسقاط الحكومة الاستقلالية، وانسحاب جميع الفرنسيين من الريف، إضافة إلى تشكيل حكومة شعبية ذات قاعدة عريضة، والإفراج عن المعتقلين السياسيين ثم المطالبة بعودة محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى المغرب، فضلا عن مطالب قضائية وجبائية؛ كإسقاط الضرائب، واختيار قضاة أكفاء، وإعادة تنظيم وزارة العدل إلى جانب تقديم المجرمين إلى العدالة، علاوة على مطالب اجتماعية؛ كالتخفيف من حدة البطالة، وتوسيع المدارس والمنح، وتعريب التعليم… وهي مطالب غلب عليها الهاجس السياسي باعتباره آلية الضغط الأولى على السلطة المخزنية، هذه الأخيرة التي عبرت عن استيائها من خروج “الرعيّة” عن الطاعة واللجوء إلى الفوضى والتمرد للمساومة على الحقوق والمطالب، وهو ما عبّر عنه الملك محمد الخامس في خطاب رسمي، ووعد في المقابل بدراسة المطالب المطروحة وتنفيذ الممكن منها، وقد تبيّن الباحث الجوانب الرئيسية التي أدت إلى اندلاع أزمة الريف من خلال مقاربة متعددة الأبعاد، حيث درس دوافع الفاعلين؛ من قبائل الريف، حزب الاستقلال، واعتمد على شهادات أخرى، وبعد الالتفاف حول سياقات هذه “السيبة القبلية” التي كانت ضد حزب الاستقلال أساسا، والتي واجهتها الدولة بحَرْكة القوات المسلحة الملكية، وخَلُص الباحث إلى أن للجميع يدا في التمرد، خصوصا القوى الداخلية المعارضة لحزب الاستقلال وتوجهات الاستقلاليين المشرفين على منطقة الريف، علاوة على أطراف خارجية كانت تسعى دائما لحماية مصالحا بالمنطقة، خصوصا اسبانيا وفرنسا، هذه الأطراف التي قامت فعلا استغلال حنق وبؤس وإحباط أهل الريف.

تتعلق الحالة الثانية التي اهتم بها الباحث بأحداث 23 مارس 1965م بعد تحول إضرابات طلابية إلى “انتفاضة” شعبية، حيث سينتقل الباحث من موقع الريف أو القبلية إلى المدينة، كشكل من أشكال “الحراك الاجتماعي” التي شهدتها بعض الحواضر المغربية خلال ستينيات القرن الماضي، وفي تتبع كرونولوجيا الأحداث أشار الباحث إلى اندلاع سلسلة من الاحتجاجات بجامعات وثانويات الرباط وفاس وغيرها، وانضم لها الأساتذة كذلك ليعلنوا الإضراب عن العمل، خصوصا بعد صدور قرارات جائرة عن وزارة التربية والتعليم، والقاضية بطرد التلاميذ البالغين 14 سنة من المستوى الابتدائي، و18 سنة من المستوى الثانوي، واشتراط معرفة اللغة الأجنبية لاجتياز امتحان الباكالوريا وقرارات أخرى غير ذلك، إن صرخة هؤلاء الطلبة والتلاميذ كانت تعبيرا عن خيبة أمل كبيرة وتذمر من سوء التدخل السياسي في التعليم، وسرعان ما ستبدأ سلسلة الاعتقالات في صفوف التلاميذ وقمع الأصوات الاحتجاجية في الشارع بالقوة، لكن المظاهرات ستتجدد بالقوة أيضا بعد مهاجمة المؤسسات التعليمية، وإحراق الحافلات والسيارات، وتفاقم أعمال التخريب، إن الحركة التي قادها تلاميذ المؤسسات التعليمية ستلعب دور الفقاعة التي ستوقظ مشاعر الحرمان والبؤس في نفس فئات مجتمعية أخرى، لتنظم بدورها لهذا الحراك، ما سماه الباحث بحدوث “تحالف عفوي بين البروليتاريا الرثة والعطالة وبين الشباب المستاء من التعليم”. أحيانا قد يختفي الفاعلون الرئيسيون في الحراك الاجتماعي لتظهر فئات أخرى ثانوية تقود الحراك وتزيد من حدة المقاومة وصيانة تلاحمها ضد الفئة الأخرى، فالحراك في نهاية المطاف ما هو إلا احتجاج فئة مجتمعية ضد فئة أخرى، وهذه الأخيرة قد تكون عبارة عن سلطة، أو نظام، أو حزب، أو شخص أراد الانفراد بالسلطة. إذن دفع هذا التطور الجنرال محمد أوفقير إلى إعطاء الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين وإراقة الدماء، وتنظيم حملة اعتقالات واسعة في صفوف المواطنين، إلى درجة اعتقال بعضهم داخل منازلهم. وقد فاق عدد الضحايا حسب إحدى الروايات 500 قتيل و2000 مصاب على غرار الأرقام الرسمية التي أدلت بها الجهات الرسمية بالدولة، والتي كان مشكوكا فيها، فقد فقدت مئات الأسر أفرادها ولم تملك الجرأة للإعلان عن حالات الاختفاء، وسم هذا الحدث لحظة جمود وصدمة مجتمعية قزمت وأعدمت آمال المغاربة في السير نحو البناء الديمقراطي، وأفشلت حوار الأحزاب السياسية ما جعل الملك الحسن الثاني يصم الساحة السياسية بقرار إعلان حالة الاستثناء سنة 1965م، وهو الحدث الذي شكل إقصاءً للهيئات السياسية من الخوض في النقاش السائد وتجميد أدوارها.

سيشهد المغرب في الحالة الثالثة اندلاع العمليات المسلحة التي هددت وبشكل مباشر المكانة السياسية التي يحظى بها الملك، حيث تميزت مرحلة السبعينيات بمتغيرات النظام السياسي بعد أن وضع الملك الحسن الثاني المعارضة في ركن على الهامش، وأعلن حالة الاستثناء في انفراد مطلق بالسلطة، وبينما كان المجتمع المغربي منهكا بفعل الإحباط والبؤس الناتج عن تطورات اقتصادية واجتماعية سلبية، وبفعل استعمال آليات القمع والقوة ضد كل أشكال الاحتجاج والأصوات التي تصدح بالمعارضة، كما تم وضع الأحزاب السياسية المعارضة في هامش الرقعة السياسية، ستظهر فئة أخرى لتعلن العصيان والتمرد على سلطة الملك بل أكثر من ذلك “محاولة اغتياله”، حيث توالت الضربات هذه المرة من أكثر المقربين من الملك؛ من جنرالاته ورجالات الجيش، وهو ما عرج عليه الباحث بشكل مُفصل أثناء تطرقه لحيثيات المحاولة الانقلابية الأولى يوم 10 يوليوز 1971م، والمحاولة الانقلابية الثانية يوم 16 غشت 1972م، فقد كانت هاتين المحاولتين بمثابة الصدمات التي حالت دون حدوث سكتة سياسية وشيكة، فقد رجحت مختلف التقارير الدولية اتجاه نظام الملك الحسن الثاني نحو الضعف والأفول خلال هذه المرحل. إذن تتعلق أحداث المحاولة الانقلابية الأولى بتخطيط الجنرال محمد المذبوح وأخيه محمد أعبابو، المدرس في مدرسة الأركان في القنيطرة من أجل الإجهاز على الملك، ووقع الاختيارعلى طلبة المدرسة العسكرية بأهرمومو لسوء حظهم، للهجوم على قصر الصخيرات يوم 10 يوليوز1971م أثناء احتفال الملك الحسن الثاني بعيد ميلاده، وبحضور ثلة من الضيوف المغاربة والأجانب من مقربين وشخصيات سياسية وفاعلين مغاربة وأجانب. ويرتبط شريط الأحداث بمحاصرة القصر والانهيال على الحاضرين بطلقات نارية أردت بالكثير من الحضور وأيضا الإطاحة ببعض الجنود، فقد أدى الحدث إلى قتل الجنود لبعضهم البعض، وتجدر الإشارة إلى أن أغلبهم لم يمض على وجوده أزيد من ثلاثة أشهر بالمدرسة العسكرية أهرمومو، فقد كانوا مجرد أطفال حاملين لبنادق ورشاشات لم يتحكموا بعد في استعمالها، فوجئ الملك بضيوف غير مرغوب فيهم. وقد تميزت دراسة الباحث لهذا الحدث بالتطرق للتفاصيل الدقيقة للانقلاب ما بين الساعة 13.40 ظهرا، والساعة 22:00 مساء، حينما غادر الملك سالما مُحصنا ببركة الشرفاء إلى مقر إقامته في السويسي، وقد اعتبر الحدث مذبحة حقيقية، فقد بلغت حصيلة القتلى قُرابة 100 قتيل، وأكثر من 200 جريح من ضمنهم شقيق الملك الأمير مولاي عبد الله.

إن إحباط المحاولة الانقلابية الأولى خلق لدى الملك نوعا من الاحتياط من المؤسسة العسكرية، فبعد الهجوم على قصر الصخيرات وقع زلزال على مستوى المؤسسة العسكرية وتحركت أركانها وثوابتها بما فيها الولاء للملك، ما سيتأكد من خلال الانقلاب الثاني للجيش، وهذه المرة مع محاولة الجنرال أوفقير خلع الحسن الثاني عن العرش في أحداث عُرفت تاريخيا بالهجوم على طائرة البوينغ الملكية يوم 16 غشت 1972م، عندما لحقت طائرات “نورثروب أف-5” بطائرة الملك في موقع جوي غير بعيد عن مدينة تطوان، وكانت الأوامر الموجهة إلى مقصورة القيادة في طائرة الملك؛ هي التوجه إلى مطار القنيطرة العسكري، الرفض في هذه الحالة المأزقية يعني قصف طائرة الملك والتي نجت بأعجوبة من الحادث. أكيد أن الأحداث لا تتوقف عند محاولة اقتياد الملك نحو مطار القنيطرة لاعتقاله، بل وقع تغيير في منحى الأحداث ليتم مهاجمة المطار الذي حطّت فيه طائرة الملك، ما خلّف 08  قتلى و47 جريحا، لكن الملك قد نجح في مغادرة المطار مسبقا وبأعجوبة إلهية مجددا.

ما يمكن أن نستجلي من عرض الحالات الثلاث التي تطرق لها الباحث المغربي الشاب إبراهيم أيت إزي، وانطلاقا كذلك من نتائج هذه الدراسة المعمقة التي أوردها في الصفحات 341- 345، يبرز جليا أن العامل المتحكم في حالات الحراك الاجتماعي في المغرب منذ مرحلة الحماية 1912م وما بعد الاستقلال 1956- 1975م، هو الحرمان والقهر والبؤس الاجتماعي الذي ترجمته سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تلك الفترة، علاوة على الإقصاء من المشاركة السياسية التي تعتبر ممارسة غريبة عن التوجهات والخصوصيات المحلية المتعارف عليها قبل زمن الحماية، ما حرك مشاعر السكان في البوادي والمدن على حد سواء، وترجمت هذه المشاعر المحتقنة كذلك إلى ردات فعل عنيفة، فأزمة الريف هي نتيجة تدبير سياسي سلطوي لم يحترم الخصوصيات المحلية، وتضمن الإقصاء الفعلي لأهل الريف من تدبير شؤونهم في مختلف المجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فتردي المستويين الأخيرين كان بمثابة نار منطفئة تحت رماد ساخن، وتحتاج لعامل محرك كي تتقد من جديد، الشيء الذي استغلته أطراف حزبية داخلية وقوى أجنبية، أما أزمة التعليم بالمدن فكانت سببا لانضمام البروليتاريا الرثة لفئة التلاميذ المحتقنة بالمدن، لقرع الحناجر في الشارع ضد غلاء الأسعار وتفاقم البطالة والفقر، في ظل نظام سياسي أوتوقراطي مزج بين الانفراد بممارسة السلطة، واستعمال القوة والعنف، لكبح حَراك واحتقان المجتمع، ليصطدم بخيار العمل المسلح ومحاولة كبح النظام والخروج عن دائرة الطاعة والولاء، ويكمن عدم نجاح العمليات في الحالات السابقة؛ في عدم اكتمال شروط نجاح “الحراك المجتمعي”، في ظل غياب إطار نظري وفكري مؤطر، أو شخصيات تملك كاريزما حازمة تقود الأحداث بتأطير وتوجيه صارمين ومستقيمين، إضافة إلى ضعف أدوار بعض الجماهير المتشبعة بتوجهات أيديولوجية محددة، فضلا عن فجائية الأفعال والدوافع، وعشوائية في التنسيق والتحضير لكل العمليات السالفة.

خاتمة

ختم الباحث كتابه معتبرا”الحالات المدروسة حركات غامضة تستعصي على الفهم، وتزداد الصعوبة في ذلك لأنها تحدث من دون سابق إنذار، وتتخللها ممارسات وسلوكات متناقضة، ففي الوقت الذي يفجر فيه بعض المنتفضين غضبهم ضد أجهزة الدولة وبنياتها، يطالب آخرون هذه الدولة نفسها، بالتدخل لحل مشاكلهم، فكان أن حكم هذا الواقع على الحالات المدروسة بالكُمون والخَبو السريع من دون تحقيق حراك اجتماعي مكتمل.”