بين يدي التقديم

الأمن حاجة غريزية تحرص عليها سائر المخلوقات، وهي مستعدة لتدفع في سبيلها الغالي والنفيس، كلما شعرت أن خطرا ما يتهددها. وقد اتخذت هذه الحاجة صورا وأشكالا يمكن حصرها في: المأوى الآمن، والطعام الكافي، والرزق السابغ، وهي ثلاثثها تحقق الحياة الآمنة التي تطمئن لحيازتها الأرواح والأبدان، وما بعد هذا الثلاثي إنما هو كمالات ورفاهية.

ولأهمية الأمن وحاجة الإنسان إليه، طرح العالم أبراهام ماسلو نظرية عُرفت بـ “تدرج الحاجات”، أو “تدرج ماسلو للحاجات”، أو “هرم ماسلو”. ورتّب صاحب النظرية في هذا الهرم حاجات الإنسان، ووصف فيها الدوافع التي تُحرّكه؛ وجعل ضمنها: حاجات الأمان ولا تسبقها إلا الحاجات الفيسيولوجية مثل: الحاجة إلى التنفس والـطعام والماء وضبط التوازن والجنس والحاجة إلى الإخراج والحاجة إلى النوم.

وعبر تاريخ البشرية، اتخذ هذا الأمن صورا وأشكالا تبعا لسيرورة الحياة، وتغير التجمعات، وتحوّل المجتمعات، ثم ما لبثت الدراسات والبحوث والمصنفات تترى، تبدع في المفهوم والضمانات والسبل والمجالات، ومن أشهرها كتاب الدكتور يوسف القرضاوي: “مفهوم الأمن في الإسلام”، وكتاب الدكتور عبد الله عبدالمحسن التركي “الأمن في حياة الناس”، وكتاب الدكتور عبد الناصر بن جامع آل إسلام: “مفهوم الأمن في الشريعة الإسلامية الغراء”، وكتاب الدكتور عدنان أمين شعبا “مفهوم الأمن في ظل النظام العالمي الجديد”، وكتاب الدكتور عاكف محمد المبيضين: “علم النفس الأمني”، وكتاب الدكتور يوسف الكتاني: “إستراتيجية الدفاع عن الأمن الإسلامي” موضوع هذا التقديم.

تقديم الكاتب

الفقيه العلامة المفكر الإسلامي عالم الاجتماع الدكتور إدريس بن محمد بن جعفر الكتاني الحسنيّ الإدريسي، الدّمشقيّ مولدًا الفاسيّ ثمّ الرّباطيّ دارًا وقرارًا. أمه السيدة السعدية بنت المكي بن عبد الله الفاسية الأندلسية. ولد في دمشق سنة 1336هـ 1924م، حتى إذا بلغ سن التاسعة من عمره قدم رفقة أسرته إلى المغرب سنة 1345هـ للاستقرار بمدينة فاس، لتنطلق مسيرته التعليمية في مدارسها تحت رعاية والده العلامة محمد بن جعفر الكتاني.

تلقى مولاي إدريس الكتاني تعليمه الابتدائي في المدارس الوطنيّة الحرّة التي أسسها رجال الحركة الوطنيّة بفاس، قبل أن يلتحق بالتعليم الثانوي والعالي بالقرويين، ويتلقى بها علوما ومعارف عديدة على يد كوكبة من مشايخها إلى أن حصل على العالمية، ثم سافر إلى فرنسا لدراسة اللّغة والحضارة الغربيّة والعلوم السّياسيّة والاجتماعيّة بجامعة لوزان، وبعدها إلى كندا التي تابع بها تخصّصة بكلّيّة العلوم الاجتماعيّة بجامعة لافال، فحصل منها على بكالوريوس العلوم الاجتماعيّة سنة 1960م، ثم شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة القاهرة.

درّس الكتاني بمدرسة الأمير مولاي الحسن بالدار البيضاء، وهي إحدى المدارس الحرة التي أسسها رجال الحركة الوطنية لمواجهة التعليم الفرنسي الذي كان يهدد الهوية المغربية، ثمّ ما لبث أن شرع في بناء ثالث مدرسة حرّة عصريّة بالدّار البيضاء باسم معهد المولى إدريس الأزهر. تقلب الدكتور مولاي إدريس الكتاني في وظائف عدة، نذكر منها: أستاذ بمعهد العلوم الاجتماعيّة بجامعة محمّد الخامس بالرّباط، وأستاذ بكلّية الآداب بنفس الجامعة.

وله مشاركات علمية ودعوية ومدنية منها: المشاركة في تأسيس رابطة علماء المغرب بالرّباط عام 1961م، تأسيس نادي الفكر الإسلاميّ سنة 1400هـ 1980م بالرّباط، المشاركة في تأسيس الجمعيّة المغربيّة لمساندة الكفاح الفلسطينيّ عام 1969م.

لإدريس الكتاني مؤلفات عديدة نذكر منها: أربعة قوانين قرآنيّة تقرّر مصير المجتمعات الإنسانيّة – استراتيجيّة الدّفاع عن الأمن الإسلاميّ – التّطبيق المثالي لقانون الزّكاة الإسلاميّ – التّفسير الإسلاميّ لسقوط العالم العربيّ المعاصر – ثمانون عامًا من الحرب الفرنكفونيّة ضدّ الإسلام واللّغة العربيّة – الخريطة القرآنيّة للمجتمعات البشريّة.

فضلا عن عدد من المقالات والدراسات، نشر بعضها في مجلات رائدة وعمره لا يتجاوز خمس عشرة سنة.

توفّي رحمه الله صباح يوم السّبت 10رمضان 1439هـ الموافق لـ 26ماي 2018م، ووري جثمانه الثرى بمقبرة بحي الرياض بالرباط بعد صلاة العصر بمسجد السنة.

تقديم الكتاب

صدر كتاب “استراتيجيّة الدّفاع عن الأمن الإسلاميّ” في طبعته الأولى عن مطبعة النجاح الجديدة، ضمن منشورات نادي الفكر الإسلامي – الرباط سنة 1997م، وهو في سفر واحد من 186 صفحة، توزعت كما يلي: مدخل وثلاثة فصول وخاتمة، أما المدخل (الأمن الإسلامي بين “إستراتيجية الإيمان” و “إستراتيجية العدوان”) فرصد فيه “اهتمام الدول الغربية بتأسيس مجالس الأمن التي تتحمل مسؤولية اتخاذ القرارات الخطيرة المتعلقة بحماية أمن الدولة” في وقت عجزت فيه دول الجامعة العربية عن تكوين مثل هذه المجالس. ثم يعود بنا أدراج التاريخ، ليؤكد أن الشعوب الإسلامية لم تكن بحاجة إلى مثل هذه المجالس للحفاظ على أمنها في عصور قوتها وازدهارها، لأنها كانت تملك في بنياتها العقيدية والأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية من الطاقة الإيمانية – الجهادية، ما يكفي لضمان هذا “الأمن” في أغلب الظروف والأحيان. ثم يعرف بإستراتيجية الإيمان ويقدم نماذج معاصرة لقوة الإيمان، فيذكر الثورة الجزائرية والأفغانية والإيرانية. وفي المقابل يعرف بإستراتيجية العدوان انطلاقا من الأفكار التي عبّر عنها صامويل هنتنغتن في ندوة نظمتها اليونسكو في دجنبر 1995 تحت عنوان: الحرب والسلام في القرن 21.

  • مقدمة الكتاب، وخصها لتحديد مفهوم كلمة “إستراتيجية” لـ “الأمن القومي الإسلامي” متسائلا: هل للإسلام “إستراتيجية” خاصة للدفاع عن أمنه؟ ليؤكد أن اكتشاف مثل هذه الإستراتيجية ستكون هامة لاكتشاف الثغرات أو (المناطق) العارية التي انهارت أسوارها في “خطوط الدفاع الإسلامية” ليبشر بأن هذا البحث سيكون أول محاولة منهجية للإجابة عن سؤال: هل للإسلام “إستراتيجية” خاصة للدفاع عن أمته كدين ودولة وحضارة؟ اعتمادا على أربعين حديثا نبويا، مختارة طبق المنهج المحدد لخطوط هذا الدفاع، ومدعمة بالآيات القرآنية. ثم بسط منهج البحث في تصنيف الخطوط العامة للدفاع عن “الأمن الاستراتيجي”. وهذه البطاقة هي فصول البحث الثلاثة.
  • الفصل الأول: (في طريق البحث عن إستراتيجية للأمن الإسلامي) وفيه أكد ضرورة اعتماد منطق الفكر الاستراتيجي، واستفهم هل للعالم العربي مفهوم للأمن في الشرق الأوسط؟ ثم أورد مقاطع من مقال للدكتور يوسف القرضاوي رحمه الله تحت عنوان “الإسلام والأمن” وعلّق أن القرضاوي تناول تأثير العقيدة في إحداث الشعور بـالأمن النفسي، بينما موضوع الكتاب يتعلق بحماية أمن العقيدة نفسها على اعتبار أنها مهددة. ثم فصل الحديث عن الأخطار المهددة لأمن الدولة والدفاع المضاد لها، موضحا مشكلة البحث في مفهوم أمن الدولة الإسلامية لوضع نظرية إسلامية جامعة للدفاع، متعقبا معالم فشل النظرية الغربية في (الدفاع الاجتماعي ضد الجريمة) وفشل الجامعة العربية في تطبيق هذه النظرية.
  • الفصل الثاني: (نظرية الأمن الإسلامي) وقسمها إلى قسمين اثنين: “أمن إلهي” و “أمن بشري” مؤكدا أن الأمن الإلهي أمن أبدي مطلق، والأمن البشري مؤقت ومقيد، وحدد شروط تحصيل الأول من خلال آيات قرآنية، وأبرز منطلقات الثاني من خلال أحاديث نبوية، مؤكدا على دور العقيدة في تركيز الشعور بالأمن.
  • الفصل الثالث: (نصوص الأربعين حديثا النبوية المتضمنة لإستراتيجية الدفاع عن الأمن الإسلامي) وفيه تفصيل للحديث عن هذه النظرية التي قسم خطوطها إلى خمسة خطوط دفاعية، اعتمادا على أربعين حديثا مختارة مع الشرح والتحليل.
  • خاتمة الكتاب؛ فهي تحت عنوان: “انتصار الإسلام في القرن الواحد والعشرين حتمية قرآنية تاريخية وحضارية”، وهي حتمية استخلصها من تحليله لنصوص الأربعين حديثا مع نصوص الآيات القرآنية المدعمة لموضوعاتها، ويختم حديثه عن هذه الحتمية بـ (توقّع) نهاية عصر الحداثة، وسقوط النظريات الكبرى.

ويضم الكتاب ملحقين عبارة عن مقالين للدكتور الكتاني، نشر الأول بتاريخ 1989 بجريدتي “العلم” و”الإصلاح” تحت عنوان: “الصارم المسلول على شاتم الرسول”، والثاني بتاريخ 23 فبراير 1997م تحت عنوان: “نهاية عصر الحداثة وسقوط النظريات الكبرى”.

على سبيل الختم

لقد عودنا الدكتور إدريس الكتاني رحمه الله في جميع كتاباته على قدرة فريدة في التعامل مع الواقع العربي والإسلامي، ساعده على ذلك تخصصه في علم الاجتماع، واطلاعه الواسع على الثقافة الغربية، وتكوينه المتين في الشريعة الإسلامية، نجد ملامح هذه الميزات في كتابه: “الخريطة القرآنية للمجتمعات البشرية”، وكتاب “أربعة قوانين قرآنيّة تقرّر مصير المجتمعات الإنسانيّة”، وكتاب “التّفسير الإسلاميّ لسقوط العالم العربيّ المعاصر”، وكتاب “ثمانون عامًا من الحرب الفرنكفونيّة ضدّ الإسلام واللّغة العربيّة” وغيرها من المقالات والأبحاث.

إن مفكرا مثل إدريس الكتاني ليعد بحق قامة علمية شاركت من خلال حضورها على مدى عقود في الحفر في أسباب انحطاط المسلمين وسبل النهوض بهم، مع تتبع واع لكل ما يصدر عن الفكر الغربي والتدافع معه متسلحا بفكر إسلامي متجدد، وقراءة واعية للتاريخ الإسلامي. رحم الله الفقيد إدريس الكتاني وخلد في الصالحين ذكره آمين.