بين يدي التقديم

في مسار الأمم ومسيراتها، ليس هناك مشكل أعقد من مشكل التعليم، إنه ميزان التنمية، وترمومتر الصعود والنزول، إذا سما رفع، وإذا نزل خفض. والمغرب لم يشذ عن هذه القاعدة، إذ ظل ملف التعليم شائكا، حارقا طيلة عقود ما بعد الاستقلال، لم يفلح في حلحلته لا السياسيون ولا التكنوقراط، ولم ينجح في تجاوز معضلته لا الندوات، ولا الملتقيات، ولا الورشات، ولم يسدد مساره لا الكتاب الأبيض، ولا الميثاق الوطني، ولا البرنامج الاستعجالي، ولا توصيات المجلس الأعلى للتعليم بجميع نسخه، ولم تنظم شأنه لا المذكرات ولا المراسيم ولا القوانين. بل ظل كما كرة الثلج، يتدحرج ويكبر حتى غدا حاجزا يحجب الرؤية، ويحُول دون التطلع إلى غد مشرق يليق بمغرب ما بعد الاستقلال، إذ ما زالت تصدمنا التقارير الوطنية والدولية برتب مخجلة محبطة ومؤشر معيب. والله المستعان.

وقد نشطت أقلام مفكرين مغاربة ممّن أهمهم الأمر، فأدلوا برأيهم في مشكل التعليم، برؤى متباينة، وزوايا نظر مختلفة، وكانت مساهماتهم علامات على الطريق، وصُور دالة من شأنها إرشاد أصحاب القرار السياسي إلى عيوب وثقوب القطاع المفصلية، لكن من المؤلم حقا، أن يطوي هذه المساهمات شريط النسيان، وتبقى حبيسة الرفوف، شاهدة على مرحلة كان بالإمكان أن تكون نقطة إقلاع، وخطوة الأولى في مسيرة ألف ميل، وكلنا يذكر مساهمات الدكتور المهدي المنجرة والدكتور إدريس الكتاني والدكتور محمد عابد الجابري وهو موضوع هذا التقديم.

تقديم الكاتب

ولد محمد عابد الجابري بقلعة زناگة بمدينة فگيگ بتاريخ 27 دجنبر 1935م، وبها تلقى تعليمه الأولي في الكتاب ثم ألحق بالمدرسة الابتدائية الفرنسية، وسرعان ما غادرها ليلتحق بمدرسة النهضة المحمدية التي أسسها الوطني الفقيه محمد فرج، وبها حصل على الشهادة الابتدائية، ثم التحق بمدينة وجدة لمتابعة تعليمه الإعدادي بمدرسة التهذيب مدة موسم واحد، ثم رحل إلى الدار البيضاء لينتظم في مدرسة عبد الكريم لحلو بالدار البيضاء إلى أن حصل على البكالوريا المغربية المعرّبة سنة 1957م بتفوّق.

سافر محمد عابد الجابري إلى دمشق سنة 1957م لاستكمال تعليمه العالي تخصص (رياضيات وعلوم) لكنه عاد بعد سنة واحدة إلى الرباط لمتابعة دراسته بكلية الآداب بشعبة الفلسفة والفكر الإسلامي، وفيها حصل على شهادة الإجازة سنة 1961. اشتغل الجابري معلما بالسلك الابتدائي، ثم أستاذا للفلسفة بالثانوي ثم مراقبا وموجها تربويا لأساتذة الفلسفة في التعليم الثانوي، حصل على دبلوم الدراسات العليا سنة 1967م ثم دكتوراه الدولة سنة 1970م من كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة محمد الخامس بالرباط التي درّس بها الفلسفة والفكر العربي الإسلامي سنوات عديدة.

عرف محمد الجابري بمشاركته في الكفاح الوطني، حيث انخرط في خلايا المقاومة بداية الخمسينيات، وبدأ مساره السياسي عضوا في الشبيبة الاستقلالية، ثم التحق بحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية منذ تأسيسه سنة 1959، اعتقل مرتين: الأولى: عام 1963م والثانية عام 1965م. كان أحد أبرز وجوه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وعضو مكتبه السياسي منذ 1975م إلى حين تقديم استقالته في أبريل 1981، ليعتزل العمل السياسي ويتفرغ للإنتاج الفكري.

من مؤلفاته: – العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، وهو نص أطروحته لنيل الدكتوراه – أضواء على مشكل التعليم بالمغرب – مدخل إلى فلسفة العلوم (جزآن) – من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية – نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي – الخطاب العربي المعاصر: دراسة تحليلية نقدية – تكوين العقل العربي– بنية العقل العربي– السياسات التعليمية في المغرب العربي – إشكاليات الفكر العربي المعاصر – المغرب المعاصر: الخصوصية والهوية.. الحداثة والتنمية – العقل السياسي العربي – حوار المغرب والمشرق: حوار مع د. حسن حنفي – التراث والحداثة: دراسات ومـناقشات – مقدمة لنقد العقل العربي – المسألة الثقافية – المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية، محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد – مسألة الهوية: العروبة والإسلام… والغرب – الدين والدولة وتطبيق الشريعة – المشروع النهضوي العربي – الديمقراطية وحقوق الإنسان – قضايا في الفكر المعاصر (العولمة، صراع الحضارات، العودة إلى الأخلاق، التسامح، الديمقراطية ونظام القيم، الفلسفة والمدينة) – التنمية البشرية والخصوصية السوسيوثقافية: العالم العربي نموذجا – وجهة نظر: نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر – حفريات في الذاكرة، من بعيد (سيرة ذاتية من الصبا إلى سن العشرين) – الإشراف على نشر جديد لأعمال ابن رشد الأصيلة مع مداخل ومقدمات تحليلية وشروح – ابن رشد: سيرة وفكر 1998 – العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية – سلسلة مواقف (سلسلة كتب في حجم كتاب الجيب) – في نقد الحاجة إلى الإصلاح – مدخل إلى القرآن – فهم القرآن: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول.

حصل محمد عابد الجابري على جوائز وطنية ودولية، واعتذر عن جوائر أخرى مرارا وتكرارا. توفى رحمه الله يوم الاثنين 03 مايو 2010 م في الدار البيضاء بعد معاناة طويلة مع المرض.

تقديم الكتاب

صدر الكتاب في طبعته الأولى عن دار النشر المغربية سنة 1973م، من 154صفحة من الحجم المتوسط، وهو من مقدمة وستة فصول وخاتمة. في المقدمة – وعلى عادة المفكر – ينطلق محمد عابد الجابري من طرح إشكاليات يجعل منها أرضية الانطلاق، سيحدد من خلالها أسس المشكل الذي هو بصدد حلحلته والوقوف عند معالمه حيث تساءل: ما هو هذا المشكل؟ ما حقيقته وما جوهره؟ ما هي الكوامن الخفية التي تحركه من ذاته ومن وراء ستار (…) ما هي الأسس التي قام عليها تعليمنا الحالي؟ وما مضمون هذه الأسس، مضمونها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي؟

لقد وضع الجابري مشكل التعليم في سياق سوسيو- تاريخي، ليقرر منذ البداية أنه مشكل بنيوي يحتاج إلى الوقوف عند جذوره. ومن خلال فصول الكتاب الستة سيؤطر محمد عابد الجابري آراءه ومواقفه من هذا المشكل في ارتباط وثيق مع ما طرحه من إشكالات وأسئلة.

  • الفصل الأول: خصص الجابري هذا الفصل للحديث عن الأسس والمضامين، ووقف عند تعليمين اثنين، الأول: تعليم وطني عتيق، والثاني: تعليم عصري حديث صنعته الإمبريالية الفرنسية التي كانت حريصة على الإبقاء على تعليم بنمطين اثنين، مما سيكرس بوادر طبقية حكمت هذا القطاع ولازمته لعقود عديدة، حرصت فيه الآلة الفرنسية على تعميق الشرخ بين تعليم تكويني تطبيقي خاص بالنخبة، وآخر خاص بأبناء الطبقة الكادحة يقوم أساسا على تأهيلهم للولوج إلى المهن والحرف، وآخر خاص بأبناء البوادي يرتبط بالقطاع الفلاحي. وكان الغرض من هذا التقسيم تمكين أبناء النخبة من امتيازات سيحرم منها أبناء الطبقة الكادحة والبوادي.
  • الفصل الثاني: وفيه رصد لما ترتب عن هذه السياسة التعليمية الاستعمارية من نتائج، والتي ستستمرّ حتى بعد الاستقلال الصوري، هذه السياسة التي قامت على التفرقة منذ 1930 سنة إصدار الظهير البربري الذي كان بغرض تعميق الهوة بين “البربر” والعرب، وهي سياسة الغرض منها استكمال المشروع الاستعماري الفرنسي في صورة مخالفة لوجوده العسكري، لأنه أقل كلفة وأكثر فاعلية، لكن ونظرا لفشل هذه السياسة فقد اضطر المستعمر فيما بعد لفتح المجال أمام أبناء الأعيان و الوجهاء و الأغنياء لولوج المدارس المخصصة لأبناء الأوربيين، وسمح للوطنيين بفتح مدارس حرة في وجه أبناء الطبقة المتوسطة والفقيرة. ورغم هذا التحول في السياسة الاستعمارية، إلا أنها نجحت إلى حد ما في خلق تمييز طبقي بعضه متغرّب صنعته بعناية محكمة أيدي الطبقة المسيطرة، وآخر عربي إسلامي أنتجته المدارس العربية الحرة والتعليم العتيق الأصيل.
  • الفصل الثالث: وخصصه للحديث عن النخبة وتطلعاتها، وهي وإن كانت مدعومة من لدن الاستعمار الفرنسي، إلا أنها لم تتردد في موقفين وطنيين اثنين، الأول: اعتبار الوجود الفرنسي بالمغرب غزوا استعماريا، الثاني: الدعوة إلى عدم الانخراط في المدارس الفرنسية، مما عمّق مشكل التعليم بعد الاستقلال، وصار فهمه يقتضي حتما عدم الإبقاء على العوامل السيكولوجية وحدها، بل لا بد من استحضار البعد الاجتماعي، ومراعاة العلاقات الطبقية.

ومباشرة بعد الاستقلال سُجل إقبال غير مسبوق على التعليم سيعمق أزمته، ويفضح مظاهر الطبقية التي أصبح لا بد لها من حلول. وستكون البداية مع إنشاء اللجنة الملكية لإصلاح التعليم سنة 1957م والتي أسفرت اجتماعاتها عن إعلان أربع توصيات وهي (التعميم، التوحيد، التعريب، مغربة الأطر).

  • الفصل الرابع: وخصصه للحديث عن مبدأي التعريب والتوحيد، باعتبارهما متفاعلين بشكل جدلي، وأشار في هذا السياق إلى أن التعليم الثانوي والمدارس العليا ومدارس التكوين بقيت على النمط الفرنسي، في حين تم إقرار الازدواجية في التعليم الابتدائي. وقد حقق التعليم بالفرنسية غايات ذات صلة بالاستعمار الجديد، الذي سيكرس وجوده سياسيا واجتماعيا دون أن يحقق التعريب شيئا يذكر. وهكذا أريد للتعليم المغربي أن يبقى تعليما هجينا بسبب تنازع أنماط ثلاثة: تعليم تقليدي موروث عن القرون الوسطى، وتعليم استعماري موروث عن الحماية الفرنسية، وتعليم فرنسي حديث.
  • الفصل الخامس: وخصصه الجابري للحديث عن التعميم ومغربة الأطر، مشيرا إلى أن مبدأ التعميم كان مطلبا شعبيا، ونفى أية علاقة له بالدعايات السياسية أو الحزبية، وأرجع الأمر إلى تطورات العلاقات الطبقية. وبالرغم من توالي التصاميم إلا أنه يتم التراجع عنها بحجة غياب الإمكانيات المالية. أما الازدواجية فقد كانت نتائجها كارثية ومن صورها: عرقلة مسألة التعميم، والتكرار والطرد والهدر وخاصة في المرحلة الثانوية. بالمقابل ستبقى الأزمة بادية للعيان يغذيها تخبط السياسات التعليمية التي لم تفلح في إبداع أية حلول جذرية. وفي صورة كاريكاتورية يشبه الجابري المدرسة بالسينما، حيث تلج أفواج وتغادر أفواج، ويبقى عدد المقاعد ثابتا. ثم يربط بشكل ميكانيكي أزمة التعميم بمسألة تكوين الأطر المغربية، مؤكدا فشل المغربة بالرغم من مرور 18 سنة على الاستقلال، بحيث ظلت الحلول سطحية لا تلامس الظاهرة في عمقها.
  • الفصل السادس: اعتبر الجابري في هذا الفصل المبادئ الأربعة بمثابة مآزق أربعة، وأن هذه الأزمة تنسحب على الواقعين السياسي والاجتماعي. إذ ساهم الفشل في أجرأة المبادئ الأربعة في ارتفاع معدلات الأمية، لتصبح ظاهرة ليس فقط في صفوف غير المتمدرسين، بل في صفوف المنقطعين والمطرودين، بل إن موظفي بعض الإدارات العمومية لم يسلموا من هذه الظاهرة إذ سرعان ما يعودون إليها. ثم يقترح حلولا منها: ضرورة توفير إمكانيات مالية ولوجستيكية من شأنها تحقيق مبدأ التعميم. ولأن التعليم وصل إلى باب مسدود، فلا بد إذن من إرادة سياسية، وتغيير الوضع تغييرا جذريا.
  • الخاتمة: لا تقل الخاتمة عن باقي الفصول عمقا في التحليل وقوة في الاقتراح، فالأزمة في نظره لم يعد ينفع معها التوافق والترضيات، بل لا بد من اختيار أحد الطريقين: إما الرأسمالية أو الاشتراكية، وذلك من أجل استكمال التحرير وبناء عالم الغد، ثم يغلّب خيار الاشتراكية متهما الرأسمالية بتحولها إلى امبريالية استعمارية، مقترحا تعميم التعريب ودمقرطة التعليم كمدخلين لاستكمال التحرير والبناء الاشتراكي.

على سبيل الختم

لقد مرّ على دراسة الجابري أكثر من نصف قرن، وبذلك تكون هذه الدراسة في رؤيتها وأدوات اشتغالها على صلة بما كان يتفاعل حينها من أفكار ونظريات ومناهج. وإذا كان بعض الباحثين يرى أن دراسة محمد عابد الجابري ما تزال تحتفظ براهنيتها، فأنا أؤكد أنها لا تعدو أنها وثيقة شاهدة على عصر، عصر كانت فيه السيادة المطلقة للأيديولوجيا التي كان يغذيها حينئذ نظام القطبين، والجابري حينها كان أحد أعلام القطب الاشتراكي وأحد منظريه، وبالتالي فقد عالج مشكل التعليم تحت تأثير هذا الانتماء، واليوم جرى ماء كثيف تحت الجسر، ولا بد من تحليل أزمة التعليم وواقع التعليم على المستجدات الطارئة، دون أن يعني ذلك أن دراسات الجابري وقبله الحجوي الثعالبي قد استنفدت أغراضها.