المحتويات
سياق وضع أول دستور لمغرب الإستقلال
ساد في المغرب، طيلة الفترة بين 1959 و1962، نوع من التشنج والصراع الواضح بين طرفين، نظام الحكم من جهة، والمعارضة اليسارية من جهة أخرى (حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والحزب الشيوعي المغربي)، وقد اتخذ هذا الصراع مظهرين:
– مظهر شكلي: يتعلق هذا المظهر باختلاف وجهات النظر السياسية بخصوص الجهة المخول لها وضع دستور 1962، بين رأي سياسي يطالب بانتخاب مجلس تأسيسي لذلك، ورأي آخر يناقضه. في هذا السياق تم اتهام “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” بأنه، بدعوته إلى انتخاب مجلس تأسيسي، “يريد الإطاحة بالملكية كما حدث حين الثورة الفرنسية عندما اجتمع مجلس تأسيسي سنة 1789 وقرر إلغاء الملكية”. ولم يكن ذلك ليثني المعارضة اليسارية عن مطلبها بانتخاب مجلس تأسيسي، بحجة أن “ممثلي الشعب هم الذين يجب أن يضعوا الدستور”، وأنها “لا تريد دستورا ممنوحا، لأن الدستور تنظيم ديمقراطي للحكم وهو حق مقدس للشعب”، وأن “هذا الدستور هو الذي سيضعه ممثلو الشعب والذي سيضع حدا للالتباس والغموض والفوضى السائدة في تسيير شؤون البلاد”[1].
– مظهر موضوعي: فلكل شكل مضمون، وليس الصراع حول الشكل إلا انعكاسا لصراع أعمق هو صراع حول مضمون ما. وهكذا، فقد كان الصراع حول الجهة المخول لها وضع الدستور يعكس صراعا آخر حول طبيعة نظام الحكم الذي سيعتمده المغرب بعد دستور 1962. كانت حدود المعارضة في الليبرالية أكثر من حدودها عند نظام الحكم، وهو ما كان محكوما لديها –ربما- بالسياق الليبرالي/اليساري لما بعد الحرب العالمية الثانية أكثر مما كان محكوما بالخصوصية السياسية المغربية وموقع المغرب في ميزان القوى الدولي آنذاك. كانت المعارضة تطالب بالديمقراطية قبل الاستقلال، أي بالديمقراطية كمدخل للاستقلال. فيما كان نظام الحكم يرى الديمقراطية في تلك الشروط خطرا على الاستقلال، قد تؤخره وقد تعيقه، وربما قد تتخَذ وسيلة لابتزازه أجنبيا وإرباك حساباته الداخلية والخارجية. لم تكن المعارضة اليسارية تصور التناقض بهذه الحقيقة، بل كانت تضفي عليه نوعا من الإيديولوجيا، فتجعله صراعا بين طرفين؛ طرف يدعو إلى “ملكية مطلقة” وآخر يدعو إلى “ملكية ديمقراطية”، أو بتعبير آخر: طرف يدعو إلى “حكم الفرد” وآخر يدعو إلى “حكم الشعب”[2].
موقف الملك الحسن الثاني
تجاهل معارضو دستور 1962، أو لعلهم أغفلوا، العلاقة التقليدية التي تربط الملك بشعبه في المغرب، أي البيعة بما لها من دلالات سياسية وقانونية. وذلك ما نبه إليه الملك الحسن الثاني بقوله: “لقد كنت دائما أضع إرادة الشعب فوق كل اعتبار، لأنه ينبغي ألا يغيب عن الأذهان أن العقد الذي يربطني به هو عقد البيعة. وأظن أن التفكير الديكارتي لا يستطيع إدراك ذلك. فالقانون الروماني ألغى الولاء للملك وعوضه بأداء الضريبة. وقصارى الأمر أنه حتى لو وهب الله الذكاء الفارق للحسن الثاني فإنه بدون شعبه لا يمثل شيئا.. ولا يستطيع أن يفعل شيئا”[3].
جاء هذا التصريح، للحسن الثاني، جوابا على سؤال الصحفي إيريك لوران: “كيف تلقيتم انتقادات المعارضة التي نعتت دستوركم لسنة 1962 بكونه يكرس الحكم المطلق؟”. وجاء في جوابه أيضا: “الشيء الوحيد الذي ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار هو الإرادة الشعبية ومدى التعبير عنها. فإذا قال الشعب إن الدستور الحالي لا يروقه، غيرته. لقد علمني والدي ألا أدع الأحداث تملي شروطها علي بل أن أستبق رغبات الناس”[4]. فالشرعية شعبية، في شرط تاريخي خاص، وفي إطار خصوصية سياسية تميز المغرب عن الغرب؛ وأولوية الاستقلال على الديمقراطية، واستقرار النظام السياسي قبل دمقرطته، ووضع الأساس قبل البناء، وممارسة السلطة لا التخلي عنها لمن قد لا يستأمن عليها؛ هذا ما أخذه الملك الحسن الثاني بعين الاعتبار وأغفله معارضو دستور 1962، فأخروا التوافق بين أطراف الحركة الوطنية قرابة 15 سنة (إلى غاية المسيرة الخضراء).
منهجية وضع دستور 1962
اعتادت الأدبيات الدستورية تقسيم طرق وضع الدستور إلى قسمين: طرق وضع ديمقراطية، تتجلى في الجمعية التأسيسية المنتخبة أو الاستفتاء؛ وطرق غير ديمقراطية: تتجلى في المنحة أو التعاقد. والملاحظ في طريقة وضع الدستور المغربي أنه جمع بين المنح والاستفتاء، فتراوح الحكم عليه بين قائل بغلبة الاستفتاء (بديمقراطيته) وقائل بغلبة المنحة (بعدم ديمقراطيته).
وبخصوص المعطيات التفصيلية الخاصة بطريقة وضع الدستور المغربي (1962)، يقول امحمد بوستة في شهادته إنه، في أواخر 1962، “تشكل بالانتقاء مجلس لإعداد الدستور من كل الاتجاهات السياسية والفكرية، وكان يتكون من حوالي 70 عضوا؛ وعندما تبين أن أغلبية الأعضاء يميلون لانتخاب علال الفاسي رئيسا له وعبد الله كنون نائبا له ثارت ثائرة فئة معارضة سعت إلى إجهاض العملية، التي أُجهِض معها مجلس الدستور من أساسه”. ويضيف بوستة أنه “إثر هذه الواقعة تشكلت لجينة لنفس الغاية كان من بين أعضائها علال الفاسي وأحمد رضا اكديرة ومحمد الشرقاوي وأحمد باحنيني، إضافة إلى امحمد بوستة، وكانت هذه اللجينة تشتغل إلى جانب الملك الحسن الثاني من أجل تحضير الدستور الذي تم تقديمه للاستفتاء في دجنبر سنة 1962″[5].
وجاء في شهادة علال الفاسي أن “الملك الحسن الثاني أسس هذه اللجنة وترأسها بنفسه، وقدم لها مشروع الدستور الذي تدارسته معه، وأبدت رأيها في كل بند من بنوده حتى تم على الصيغة التي عرض عليها على الشعب للاستفتاء”[6].
الدستور الجديد.. الإعلان والسجال
طرح الملك الحسن الثاني مشروع دستور 1962 على الاستفتاء الشعبي يوم 18 نونبر 1962، قبل تنظيم الاستفتاء الفعلي حوله يوم 7 دجنبر 1962[7]. فعارضته قوى اليسار؛ “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” و”الحزب الشيوعي المغربي”، وبعض الرموز الأخرى، كشيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي وزعيم مقاومة الشمال “الريف” محمد بن عبد الكريم الخطابي.
وقال عبد اللطيف جبرو، في هذا الصدد، إن “من الذين عبروا عن رفضهم للدستور الممنوح بطل حرب الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي شرح موقفه في رسالة نشرتها جريدة التحرير”[8]، وكذلك كان موقف الأستاذ عبد الكريم بن جلون أول وزير للعدل في عهد الاستقلال. أما شيخ الإسلام الفقيه محمد بلعربي العلوي فقد شارك هو كذلك في مهرجان بمدينة فاس للإعلان عن معارضته للدستور الممنوح. وبخصوص الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، فقد “شارك على طول البلاد وعرضها كل من عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان اليوسفي في مهرجانات كان الهدف منها توسيع مقاطعة الاستفتاء على الدستور الممنوح”[9].
ولم يكن موقف الحزب الشيوعي المغربي ليشذ عن موقف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بل “كان موقف الحزب متأثرا بالأوضاع العامة التي يمكن تلخيصها في الصراع على السلطة الذي لم يحسم آنذاك بشكل حاسم، كما كان الحزب الشيوعي يطالب برفض هذا الدستور لأنه لم ينبثق عن مجلس تأسيسي أولا ثم لأنه وضع بمساعدة خبراء أجانب حسب ما كان رائجا آنذاك”[10].
أما حزب الاستقلال وزعيمه علال الفاسي، فقد اتخذا موقف الدفاع عن الدستور. “وقد دافع علال الفاسي عن هذا الدستور إلى آخر نفس، لأنه كان يرى فيه وسيلة لإخراج البلاد من عهد اللادستور إلى عهد الدستور، الذي تمت المصادقة عليه بأغلبية ساحقة”[11]. بل إن مواقف علال الفاسي والاستقلاليين، والتي اتسمت بالقوة والشراسة على النقيض من خطاب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، باعدت بينهم وبين هؤلاء، وأغضبت عبد الرحيم بوعبيد وجعلته يرفض التعاون مع حزب الاستقلال بعد خروجه من الحكومة عام 1963.[12]
مقتضى الخصوصية السياسية
تتجلى هذه الخصوصية في دستور 1962، أولا، في استصحاب البعد الديني وجعله مقتضى دستوريا، وتضمينه أسمى قانون في الدولة، أي الدستور (1926)[13]، وذلك بدسترة عدد من المقتضيات:
– العلاقة بين الإسلام والدولة المغربية: “الإسلام دين الدولة” (الفصل 6 من دستور 1962).
– الوظيفة الدينية للدولة: “الدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية” (الفصل 6).
– السمة الدينية لشعار الدولة: “شعار المملكة: الله، الوطن، الملك” (الفصل 7).
– الشرعية الدينية لنظام الحكم: “الملك أمير المؤمنين، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين” (الفصل 19).
– قدسية شخص الملك: “شخص الملك مقدس لا تنتهك حرمته” (الفصل 23).
وتتجلى الخصوصية السياسية المغربية، ثانيا، في دسترة اختصاصات واسعة ومهمة للملك، من قبيل:
– اختصاصات دينية، ذكرناها أعلاه.
– اختصاصات تنفيذية وتنظيمية؛ من قبيل رئاسة المجلس الوزاري (ف 25)، وتعيين الوزير الأول والوزراء وإعفائهم من مهامهم وإقالتهم إن استقالوا أفرادا أو جماعة (ف 24)، وإصدار الأمر بتنفيذ القانون (ف 26)، وممارسة السلطة التنظيمية (في ما نص عليه الدستور) (ف 29)، حق التعيين في الوظائف المدنية (ف 30)، رئاسة المجلس الأعلى للإنعاش الوطني والتخطيط (ف 97).
– اختصاصات تشريعية؛ كمخاطبة البرلمان (ف 28)، وحق حل مجلس النواب (ف 27)، والمطالبة بقراءة القانون من جديد (طبق شروط ينص عليها الدستور) (ف 26).
– اختصاصات عسكرية؛ القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية، حق التعيين في الوظائف العسكرية. (ف 30)
– اختصاصات دبلوماسية؛ اعتماد السفراء لدى الدول الأجنبية والمنظمات الدولية، ويعتمد لديه السفراء وممثلو المنظمات الدولية، والتوقيع على المعاهدات والمصادقة عليها (بقيود وشروط نص عليها الدستور). (ف 31)
– اختصاصات قضائية؛ من قبيل رئاسة المجلس الأعلى للقضاء، وتعيين القضاة (طبق شروط دستورية)، وممارسة حق العفو. (ف 33-34)
– اختصاصات استثنائية؛ والمتجلية في إعلان حالة الاستثناء “إذا كانت حوزة التراب الوطني مهددة أو إذا وقع من الأحداث ما من شأنه أن يمس بسير المؤسسات الدستورية” (ف 35).
مقتضى التحديث السياسي
ويمكننا إجمال مظاهر هذا المقتضى، التحديث السياسي، في ثلاثة مظاهر:
– البنية المؤسسية: والمتعلقة أساسا بالسلطات الثلاث؛ السلطة التنفيذية، ذات التركيب الثنائي (الملك والحكومة) (الباب الرابع)؛ والسلطة التشريعية ذات التركيب الثنائي أيضا (مجلس النواب ومجلس المستشارين) (الباب الثالث)؛ والسلطة القضائية بقضائها العادي (الباب السادس) وقضائها الدستوري (الغرفة الدستورية، الباب العاشر). هذا ولا يجوز إغفال الجماعات المحلية كجزء من البنية المؤسسية لمغرب ما بعد الاستقلال، وهي العمالات والأقاليم والجماعات، وفق التنظيم الإداري الذي وضع أساسه دستور 1962 في بابه الثامن.
– حدود السلط: أي العلاقة بين السلط الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضاء. أما هذا الأخير فمستقل عن السلطتين السابقتين (ف 82)، وأما سلطة التنفيذ وسلطة التشريع فبينهما علاقة خاصة: تعاون من جهة (مساهمة الحكومة في التشريع عن طريق مقترحات القوانين، ومساهمة الملك عن طريق الاستفتاء، مساهمة البرلمان في عمل الحكومة عن طريق الأسئلة)، وتبادل للضغط من جهة أخرى (حل البرلمان من قبل الملك، سحب الثقة وملتمس الرقابة من قبل البرلمان). وتبادل الضغط هذا هو ما يسمى “التوازن” في الأنظمة الدستورية البرلمانية، ف”لا الحكومة (الملك في دستور 1962) عاجزة عن حل برلمان يمكنه أن يسحب منها ثقته، ولا البرلمان عاجز عن سحب ثقته من حكومة (الملك في الدستور المغربي لسنة 1962) يمكنها حله”[14].
– حقوق المواطن: ذكر منها دستور 1962 –في الباب الأول-حقوقا سياسية، كحق الانتخاب والترشح، حرية الرأي، حرية الاجتماع، حرية تأسيس الجمعيات والانخراط في المنظمات النقابية والسياسية، إلخ؛ كما ذكر منها حقوقا اقتصادية واجتماعية، من قبيل الحق في التربية والشغل، حق الإضراب، حق الملك (مع اعتبار الضرورة والتقيد بالقانون)، إلخ.
المراجع
[1] محمد عابد الجابري، الديمقراطية في المغرب من التأجيل إلى التزوير، سلسلة "مواقف"، العدد 4، دار النشر المغربية، الطبعة الأولى، 2002، ص 40-41-42.[2] محمد عابد الجابري، المفهوم القديم للسلطة والصراع حول الاختيارات، سلسلة مواقف"، العدد 3، دار النشر المغربية، الطبعة الثانية، 2003، ص 112.
[3] الملك الحسن الثاني، ذاكرة ملك، حوارات أجراها إيريك لوران، كتاب الشرق الأوسط، الطبعة الثانية، 1993، ص 43.
[4] الملك الحسن الثاني، ذاكرة ملك، مرجع سابق، ص 42.
[5] أحمد فطري، امحمد بوستة شاهدا، مطبعة الرسالة، 2017، ص 62.
[6] علال الفاسي، معركة اليوم والغد، منشورات حزب الاستقلال، ص 55.
[7] محمد نبيل ملين، فكر الدستور في المغرب: وثائق ونصوص، مركز جاك بارك، ص 144.
[8] إدريس الكنبوري، صحافة الزمن الغابر في المغرب: إطلالة على مشهد الصحف المغربية في القرن الماضي، منشورات المركز المغربي للدراسات والأبحاث في وسائل الإعلام والاتصال، الطبعة الأولى، 2015، ص 127.
[9] عبد اللطيف جبرو، عبد الرحمان اليوسفي، 2020، ص 100.
[10] إسماعيل العلوي، النضال الديمقراطي في المغرب: رهانات الماضي وأسئلة الحاضر، مركز الأزمنة الحديثة، الطبعة الأولى، 2017، ص 79.
[11] أحمد فطري، امحمد بوستة شاهدا، مرجع سابق، ص 62.
[12] عبد اللطيف جبرو، عبد الرحمان اليوسفي، مرجع سابق، ص 99-100.
[13] الدستور المغربي 1962، الجريدة الرسمية، عدد 2616 مكرر، 19 دجنبر 1961، ص 2993-2999: (https://bit.ly/3glquxc).
[14] المختار مطيع، المبادئ العامة للقانون الدستوري والمؤسسات السياسية، شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1995، ص 157.