توطئة

عَدَّ الدارسون لتاريخ المغرب تَمَكُّنَ هذا الأخير مِن نَيل استقلاله في مدى زمني لم يتعدّ 44 سنة؛ راجعاً لأسباب وخصوصيات مغربية قبل أن يكون استثمارا من الوطنية المغربية لسياقات دولية وظرفيات عربية. ولعلّ أهم تلك الخصوصيات ما أطلَق عليه الأستاذ عبد الله العروي “الاستمرارية التاريخية للدّولة المغربية” أو المخزن بتعبير مؤرخين آخرين .

استعادة مسألة الاستقلال في أسئلة “استبانة”

في كتابه الصادر سنة 2016 عن المركز الثقافي للكتاب بالدار البيضاء؛ يَطْلُب المؤرخ عبد الله العروي الإبانة عن مسائل تتعلّق باستقلال المغرب، فيَسأل نَفْسَه السؤال رقم 100: “ما هو العامل الأساس في تحقيق استقلال المغرب؟”[1]، ويَرُد بالقول إنّ الجواب “عندي هو: الاستمرارية التاريخية للدّولة المغربية، ما أطلقتُ عليه تجاوُزًا؛ لفْظ المخزن. وأعني بهذا اللّفظ الهيئةَ لا مجموع الأفراد الذين يُكوِّنون هذه الهيئة. إذا لم نَأخذ جيّدا هذا العامل بالحسبان؛ لا سَبيل إلى فهْم كيف تَمّ استقلال المغرب في مُدة وجيزة، مع قِلة عدَد المقاوِمين، مع انقسام الحركة الوطنية، مع ضُعف خِبرة رؤسائها.. إلخ .الواقع هو أنّ استقلال المغرب مُعجِزة، إذْ كان آخِر دولةٍ استُعمِرت في المنطقة، وأوّل دولة استَقَلّت، وهو ما لَم يَهضِمه البعض!”[2]

والواقع؛ أنّ هذه الاستمرارية وَطّد لها الشّعب المغربي إلى جانب دُوله التي ارتضاها حاكمة لتراب بلاد المغرب الأقصى، ودعّمتها هَيئة المخزن[3] منذ عصر الأشراف السّعديين، وساهمت قِوى الشّعب في كل المراحل على حِفظ استقلال المغرب ولفْظ سيطرة الاحتلال (إسپاني، برتغالي، فرنسي).

وأهَمّ ما يَستدعي الاستحضار ويَبعث على الافتخار؛ أنَّ المغرب خاض ملحمة النّضال ضد الاستعمار منذ مَطالع 1912 من أقصاه إلى أدناه، في هَـبّة شعبية تجسّدت بدايةً في طلائع المتطوّعين والمحاربين في صفوف حركة الشيخ أحمدالهيبة بن ماء العينين في الجنوب، والشريف أمزيان ثم آل الخطابي في الريف والشّمال، وموحا أوحمّو الزياني في الأطلس المتوسط، وعسّو أوباسلام في الجنوب الشرقي، وزايد أوسكنتي في أعماق تنجداد والرشيدية ونواحيهما؛ ثم ما كاد مشروع هؤلاء القادة الماهِدِين للمقاومة يَتَوَقَّف؛ حتى أطْلَق الشباب الوطنيون في المجال الحضري شرارة انتفاضات وأعمال فدائية أربَكت مشروع الاستعمار الفرنسي، لأنها كنت في العُمق مُقاومة مُسلّحة “متربطة حَقّا بالوطنية وموالية لها”[4]، وأساسا تلك التي اندَلَعت في سنة 1954 إثْر نَفي محمد الخامس، فأحْرجت بأعمالها القوات الغازية أمام المنتظَم الدولي، وانتظَم المتطوعون مِن جديد تحت لواء جيش التحرير المغربي مُستأنفين مشروع الكفاح من أجل وطن حُر ومستقِل.

لم تهدأ ثائرة المغاربة منذ 1912 إلى غاية الاستقلال عن فرنسا في 2 مارس 1956 وعن إسپانيا يوم 7 أبريل 1956؛ وحين تَبيّن لنا أنَّ مصير قِطعة هامة مِن بلادِنا مُهدّدة بالانفصال عن أرض الوطن؛ هَـبَّ جيش تحرير الجنوب لخوض معارك ضارية لاسترجاع الأقاليم الجنوبية، ثم أعلن الحسن الثاني رحمه الله عن المسيرة الخضراء، وصولاً إلى انسحاب آخر طوابير الاحتلال الإسپاني الجبان حوالي 1979.

مسار طويل من كِفاح أمّة عريقة ومتأصّلة في الكرامة وقيمة الحرية وإنْ بَدا للدكتور العروي قصيراً زَمنيا، ناضلَت فيه أمّتنا المغربية إلى جانب العرش والقوى الوطنية والعلماء والسياسيين المخلصين لاستعادة استقلالها في مدة زمنية أثارت دهشة البعض وغيرة آخرين، وما هي إلا شَهامة المغاربة وكرامتهم ونخوتهم الدّينية والوطنية أو ما وصفه الأستاذ علال الفاسي بــ”النموذج النفسي للمغاربة”[5].

صمود هَيئة المخزن واستماتة قوى الشّعب

لقد كانت المقاومة المغربية في مُستوى الأحداث الطّارئة والعَصيبة التي شهدها الوطن سنة 1953، وكان السلطان محمد الخامس ونجله والأوفياء ضمن “هيئة المخزن”[6] المغربي بدورهم في مُستوى اللحظة التاريخية، تشبّثوا بمطالب الأمّة، ولم يتخلّفوا عن روح البَيْعة ومقتضيات القيام بنظام إمارة المؤمنين، وتكاتَفت الجهود واتَحَدت الـمَرامي بين العرش والشَعب، فنُظِّمت أعمالٌ فدائيةٌ زعزعت أركان سلطان الحماية، وعرَّفت بقضية المغرب في المشرق والعالم الغربي، فتناقَلت وسَائل الإعلام العالمية الأحداث الدامية التي ذهَب ضحيتها _ من جِهة _ عشرات المقاومين والمتطوِّعين في ألْوية العمل الفدائي، ومن جهة أخرى، عجَّلت بنهاية الاستعمار.

كان لمجموعات العمل الفدائي والمنظّمات السِّرية وقادة المقاومة دَورٌ فعَّال في حماية البلاد وتأطير الشباب تأطيراً وطنيا وسياسيا لمجابهة الاحتلال الفرنسي والانخراط بحماس مرتفِعٍ في أعمال المقاومة التي تفجّرت في المجال الحضري والقروي. وكان لصمود السلطان وخَبرة المخزن في تدبير المفاوضات أثَرٌ بَيّن في تَسريع وتيرة تصفية الاستعمار وتوقيع برتوكول إنهاء الحماية، وتحقيق الاستقلال الذي عَنى للشعب والسلطة والمؤرّخ “الانعتاق من التبعية والخروج من الـحَجْر [و] تحرير الفرد المغربي من القهر”[7]، وهو ما تَمّ في ظَرْف زمني ما يزال إلى وقْتنا يُثير استغراب الباحث ويُجدّد وهَج السؤال لدى المثقّف والمؤرّخ.

المراجع
[1] (العروي) عبد الله: "استبانة"، المركز الثقافي للكتاب للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2016، ص: 125
[2] (العروي) عبد الله: "استبانة"، مرجع سابق، ص 126.
[3] انظر: (ملين) نبيل: "السلطان الشّريف؛ الجذور الدينية والسياسية للدّولة المخزنية بالمغرب"، جامعة محمد الخامس، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي، ترجمة عبد الحق الزموري وعادل بن عبد الله، الطبعة الأولى 2013.
[4] (العروي) عبد الله: "استبانة"، مرجع سابق، ص: 85.
[5] (الفاسي) علال: "النقد الذاتي"، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الطبعة 9، سنة 2011، ص: 140.
[6] (العروي) عبد الله: "استبانة"، مرجع سابق، ص: 127.
[7] (العروي) عبد الله: "استبانة"، مرجع سابق، ص: 129 – 130.