يقول عمرو بن بحر الجاحظ عن فضل الكتابة: “ولولا الكتبُ المدوَّنَة والأخبار المخلَّدة، والحكم المخطوطة التي تُحصِّنُ الحسابَ وغيرَ الحساب، لبَطَل أكثر العلم، ولغلَب سُلطانُ النِّسيانِ سلطانَ الذكْر…”، في هذا الصدد وتفاديا لنسيان التراث الشعبي الذي لا نعرف منه سوى أنه خرافات لا صدق وراءها.

صدر عن معهد الشارقة للتراث بالإمارات، كتاب:”أَسْرَار الحَكَوَاتٍي: جَمَالِيَّاتُ الحَكْي وَذَخَائِرُ السِّيَرِ الشَّعْبِيَّة”، الذي يقع في 401 صفحة من القطع المتوسط، للدكتور أسامة خضراوي الباحث في الدراسات الثقافية بجامعة محمد الخامس بالرباط، وتقديم الناقد الدكتور سعيد يقطين. الطبعة الأولى: 1443 هـ/ 2022 م / الشارقة.

وفي مقدمة الناشر يقول الدكتور عبد العزيز المسلم رئيس معهد الشارقة للراث:”القراءة ثم الكتابة، ثم يكون كلُّ شيء، هذه هي المكوّنات الأولى التي تُبنى بها الحضارات…، من هنا نبدأ، من هذه الإصدارات النوعية التي نختارها لكم بعناية، كي نرسم طريقاً واضحاً للثقافة الشعبية، إصدارات ديدنها الثقافة، وفحواها المعارف التقليدية. وميزتها الولوج إلى القلب دون تكلّف أو تجهّم”.

بالفعل كثيرة هي الكتب التي يمتلكها الإنسان ويضعها مهملة في ركن مكتبته…،ولكن قليلة تلك الكتب التي تمتلككوتظل عالقة بعقلك وقلبك، ومن تلك الكتب: كتب السير الشعبية، التي نأمل من هذا البحث أن يكون دعوة للاحتفال والاحتفاء والالتفاف، لهذا الكنز الذي تتلاطمه رفوف المكتبات.

إن كتابنا الموسوم بـ: “أَسْرَارُ الحَكَوَاتِيجَمَالِيَاتُ الحَكْي – وَذَخَائِرُ السِّيَرِ الشَّعْبِيَّة”، جهد مُقدّر ننشد من خلاله تقديم صورة بسيطة لإحدى تجليات جمالية التلقي لهانس روبرياوس وإسقاطها على ثنايا الأدب الشعبي، المتمثل في حلقة السير الشعبية التي تمثل مرآة تعكس واقع الشعوب العربية، التوّاقة إلى البطولات والملاحم والأمجاد مع احتفائها بالفروسية والفارس العربي بشيمه ومبادئه التي تجعله منارة عربية تنير سماء الصحراء العربية.

لذلك أجدني منساقًا إلى هذه النظرية انسياقًا، ومنقادًا إليها انقيادًا، يشدني إليها حب الاطلاع والسؤال عن أهم مبادئها وأدواتها التحليلية، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالمصدر الأخير في العملية الإبداعية ألا وهو القارئ/المتلقي/السامع/الجمهور، لذلك فهو مسلك يحركه التساؤل في ظل الفضول والتطلع لمعرفة المزيد عن النظريات النقدية الحديثة في تحليلها للنصوص الأدبية بأحدث الطرق والتقنيات، ونظرية التلقي هي إحدى النظريات الحديثة، التي كسرت حاجز الصمت المُطْبق حيال التهميش الذي كان يعانيه القارئ أو المتلقي في ضوء النظريات السابقة، فخلقت ديناميكية جديدة في مجال التداول الأدبي، والتواصل النقدي، من خلال الأهمية البالغة التي تكتسبها نظرية التلقي في الدراسات النقدية المعاصرة، وهذا يعني أن العمل الأدبي لا تكتمل حياته إلا إذا قرئ، وأعيد إنتاجه من جديد؛ لأن المبدع ماهو إلا قارئ للأعمال السابقة.

وعن الكتاب يقول الدكتور سعيد يقطين في تقديمه:” وفضاءُ الحلقة أصيل في الثقافة الشعبية المغربية؛ ولم تكن مدينة عتيقة في المغرب تخلو من ساحة عمومية يُبدع فيها الحلايقية وهم يقدمون أجناساً وأنواعاً من الإبداعات الثقافية المغربية (…).

ويمكن التمثيل لهذا الاهتمام بكتاب:“أَسْرَارُ الحَكَوَاتِي: جَمَالِيَّاتُ الحَكْي – وَذَخَائِرُ السِّيَرِ الشَّعْبِيَّة” لأسامة خضراوي، الذي عمل فيه على البحث واستكشاف ما تزخر به ساحة جامع الفنا من غنىً ثقافي، من خلال تركيزه على حلقة الراوي الشعبي؛ فجاءت دراسته استجماعاً لِمَا تفرَّق في المصنفات القليلة وغير المتاحة حول خصوصية فضاء الحلقة في الثقافة المغربية؛ وفي الوقت نفسه – وهذه من إحدى مميزاتها- تحليلاً لصورة المتلقي الذي يتشارك مع الراوي الشعبي في التواصل حول السيرة الشعبية العربية التي أَعتَبِرُها ((موسوعة حكائية تاريخية))؛ وكان لصلته بفضاء الحلقة واتصاله برجالاتها أثره في طبع كتابه هذا بصفات خاصة.

وسيجد القارئ في هذا الكتاب معلومات جديدة، وأفكاراً تستدعي التعميق من خلال البحث في جوانب أخرى من الثقافة الشعبية بسبب الترابط بين مختلف مكوناتها. هذا الكتاب إضافة مهمة إلى المجهودات التي قدمت في سبيل البحث واستكشاف ثراء الثقافة الشعبية المغربية. ولا شك في أن أي إضافة في هذا المسار هي دعوة إلى الانتباه إلى جانب مهم من ثقافتنا المغربية في مختلف تجلياتها وأبعادها ومقاصدها، خدمةً لواقعنا الثقافي من خلال البحث في ذاكرته الثقافية من جهة، واستشرافًا لمستقبل زاهر من جهة أخرى”.

وقد جاء اختياري لموضوع كتاب: “أَسْرَارُ الحَكَوَاتِيجَمَالِيَاتُ الحَكْي – وَذَخَائِرُ السِّيَرِ الشَّعْبِيَّة”، نابعًا من دوافع ذاتيّة وأخرى موضوعيّة:

الذاتي: يتمثل في حب المعرفة ومسايرة التطورات النقدية الحديثة في الساحتين الغربية والعربية، وخصوصًا نظرية التلقي التي خطفت الأضواء في الآونة الأخيرة، لكونها تجمع مرجعيات فكرية متعددة، كما تكمن في احتكاكي السابق بهذه النظرية واستيعابها، وسبر أغوارها في العديد من الدراسات والبحوث العلمية.

الموضوعي: متمثلفي محاولة النبش في الذاكرة الشعبية، ونفض الغبار عنها واستجلاء مظاهر التلقي فيها، هذا الكنز الذي يحتاج إلى إعادة قراءة جديدة، وربط بين ماضيه وحاضر الأجيال المتعاقبة عليه، ولفت الانتباه له، كما تقر بذلك الحكمة المأثورة: “من لا ماضي له لا حاضر ولا مستقبل له”، انطلاقًا من هذه المقولة سنحاول الربط بين الأجيال والتعرف من قريب على هذا الموروث الشعبي الذي يعبّرعن حضارة عربية أصيلة، لإبراز الدور الأساسي الذي يلعبه المتلقي/الجمهور/السامع/القارئ، في خلق تواصل إيجابي يعيد لهذا الموروث حياة أخرى؛ لأنه بمثابة شاهد عيان على عصر من العصور، عايشه الأجداد، وجبّالنهل من مراميه وعبره، فماهو الدور الذي يلعبه المتلقي/الجمهور في صناعة الفرجة؟ وماهي الوسائل والأدوات التي يستعملها الحكواتي للتأثير في هذا المتلقي؟ أسئلة تلو الأسئلة حاولت جاهدا أن أجيب عنها في ثنايا هذا الكتاب لكشف النقاب عن جماليات السير الشعبية وطرق حكيها.

انطلقت من أجل ولوج غمار كتاب أسرار الحكواتي، من تقسيمه إلى تأطير عام وخمسة فصول موزعة على الشكل الآتي:

  1. التأطير العام: تطرقت فيه إلى مفهوم الثقافة الشعبية ودورها الوظيفي في خلق وعي الشعوب، مع تبيان المجال الجغرافي الذي استقرت عليه الدراسة، وهو جامع الفناء بمدينة مراكش، موضحًا سبب التسمية والأحداث التاريخية التي عاشتها ساحة جامع الفناء، مع ذكر المناهج المؤطرة لهذا البحث.
  2. الفصل الأول: تحدث فيه عن الفولكلور والأدب الشعبي، مبرزًا خصائصه ومفاهيمه ومكوناته، ومكانته وأهمية دراسته،ومواضعيه المتعددة.
  3. الفصل الثاني: تطرقت فيه إلى نمط من الأنماط الشعبية، ألا وهو الحلقة، من خلال تبيان مكوناتها ومفاهيمها وروادهاوأنواعها، مع التطرّق إلى أهم الممارسات الشعبية التي تناولتها، والقاموس المتداول لدى (الحلايقي/ الحكواتي).
  4. الفصل الثالث: أما الثالث فتحدث فيه عن ميكانيزمات الإبلاغ والتلقي ونظرية التلقي وروادها وأهم المفاهيم الإجرائية التي جاءت بها هذه النظرية.
  5. الفصل الرابع: تطرقت فيه إلى الحديث عن التلقي في الفرجة الشعبية والتجليات السيكولوجية للمتلقي في الفرجة الشعبية، واخترت نموذجًا قديمًا من العصر العباسي للعتابي موضحًا فيه دور الحكواتي في التأثير على المتلقي/الجمهور، والأدوات التي تؤثر فيه، مستعينًا بمفاهيم جمالية التلقي.
  6. الفصل الخامس: فتناولت فيه دلالات الإبلاغ والتلقي في حلقات السير الشعبية، واخترت سيرة الأميرة ذات الهمة، وسيرة عنترة بن شداد، وسيف بن ذي يزن، مسقطًا عليها مفاهيم جمالية التلقي لتبيان عناصر التأثير في المتلقي/الجمهور، والدور الذي يلعبه الحكواتي في صناعة الفرجة الشعبية، وفي الأخير قمت بمقارنة بين السير الشعبية، واستخلصت منها قيمًا أصيلة تلخص فحوى السير.
  7. الخاتمة: عبارة عن نتائج وخلاصات خلصت إليها في هذا البحث.

أما مصادر هذا البحث فكانت مؤلفات النقد العربي، وكتب الأدب الشعبي والفولكلور، بالإضافة إلى كتب روبرت هولب الذي كان جامعًا مانعًا لأهم أفكار نظرية التلقي؛ إذ هي منارة هذا البحث، وقد تم الرجوع إلى قرابة عشر مؤلفات وأزيد من تلك المؤلفات النقدية، التي تغطي المساحة الزمنية منذ ابتداء التدوين إلى نهاية القرن السادس عشر.

أما مراجع البحث فهي متعددة وكثيرة لا يتسع المقام لذكرها (دراسات، مقالات، ندوات، مجلات…)، منها ما يتعلق بنظرية التلقي، ومنها ما يتعلق بالحلقة والأدب الشعبي وحيثيات نظرية التلقي، في بعدها النظري كما هي في العصر الحديث في مؤلفات روادها.