مقدمة

أبو القاسم الزياني، من أعلام الفكر المغربي الذين ساهموا بحظ وافر في بناء صرح التراث الثقافي المغربي عبر مساهماته العلمية في مجال التأليف التاريخي للدولة العلوية، بل ويعد من أبرز من أرخ للدولة العلوية خاصة وأن الرجل عاصر خمسة سلاطين علويين وخاصة المولى إسماعيل وسيدي محمد بن عبد الله والمولى سليمان، وعايش تلك الفترة المفصلية وكان شاهدا على أحداثها. كما يعتبر من الشخصيات العلمية التي راكمت أيضا تجربة كبيرة في دواليب المخزن المغربي سواء ككاتب في البلاط أو سفير أو عامل وولي على عدة عملات مغربية. كما انه كان أيضا ضحية محن وابتلاءات ومضايقات عديدة تعود في أغلبها إلى جرأته وصراحته في التعبير عن آراءه وأفكاره. وقد أهلته كل تلك التجارب المختلفة، إضافة إلى تكوينه العلمي، أن يكون في طليعة النخب الثقافية والعلمية ورجالات الدولة الكبار الذين خدموا الثقافة المغربية من خلال تآليفه الغزيرة والمتنوعة.

أبو القاسم الزياني.. النسب والنشأة

ولد المؤرخ أبو القاسم (أو بلقاسم كما كتب عن نفسه) بن احمد بن على بن إبراهيم الزياني بمدينة فاس في عام 1147ه/1734-1735م. وتعود أصوله إلى قبائل زيان الأمازيغية بمنطقة الأطلس المتوسط، وكان جده الفقيه والنسابة على بن ابراهيم قد استقر بمدينة مكناس عندما استقدمه السلطان المولى إسماعيل العلوي ليكون إماما خاصا به عام 1689م/1100ه،[1] وقد كان قبل ذلك علي بن ابراهيم الزياني مستقرا بزاوية أوكو قرب ادخسان، وبها تتلمذ عليه العلامة الحسن اليوسي القراءات السبع كما ذكر العلامة عبد الله كنون في “مشاهيره”[2]. وبعد وفاة السلطان سنة 1727م وانتشار الإضرابات بالعاصمة مكناس اضطر والده إلى الانتقال إلى مدينة فاس.

وفي مدينة فاس نشأ وحفظ القرآن الكريم وتلقى تعليمه بجامع القرويين وجامع الأندلس ومدرستي الصهريج والعطارين. ومن الشخصيات العلمية التي تتلمذ على يديها في فاس نجد: محمد بن الطيب القادري، وعبد القادر بوخريص، وأحمد بن الطاهر الشرقي، ومحمد بنانين والتاودي بن سودة، والفقيه أبو حفص عمر الفاسي.[3] وقد أخذ عن هؤلاء العلماء الفقه والحديث والتفسير والنحو والمنطق.

وعند اتمامه لدراسته في سنة 1169ه/1755م قام صحبة والديه بأول رحلة له خارج المغرب، وقادته إلى الحجاز بغية أداء مناسك الحج، وقد كان والده يريد الإستقرار بشكل نهائي في المدينة المنورة بسبب حالة الإضطراب الشديد التي عاشها المغرب بعد وفاة السلطان القوي المولى إسماعيل سنة 1727م. فزار أيضا المدينة المنورة ثم مصر قبل العودة إلى المغرب إثر وفاة المولى عبد الله وتولية ابنه محمد الثالث (محمد بن عبد الله). وذكر أيضا صاحب “مؤرخو الشرفاء”، أن الزياني ووالديه مرا في رحلة عودتهما إلى المغرب بفرنسا وإسبانيا وجبل طارق قبل الإبحار إلى تطوان ومنها إلى فاس. [4]

الزياني في خدمة المخزن

بعد عودته من رحلة صعبة إلى الحجاز، وبعد استقرار الأوضاع السياسية بالبلد بعد تقلد سيدي محمد بن عبد الله مقاليد الحكم في المغرب، وبعد ما رأى أن معظم رفاقه في الدارسة قد التحقوا بالخدمة المخزنية مع السلطان الجديد، قرر الزياني الإلتحاق بهم على الرغم من نهي والده وتحذيره له من خدمة الأمراء. فتقلد الكتابة بديوان السلطان مدة عشرة أعوام قبل عزله من الخدمة عام 1182ه/1769م. وبعد عفو السلطان عنه رجع إلى عمله مرة أخرى، بل وتقلد مناصب سامية أخرى، حيث كلفه سيدي محمد بن عبد الله بعدة مهام تتعلق بإخضاع قبائل أيت أومالو التي كسرت عصا الطاعة سنة 1773م/1187ه، وهي المهمة التي نجح فيها بسبب معرفته بالأمازيغية ومعرفته بجغرافية المنطقة وتضاريسها الاجتماعية. وفي سنة 1783-1784م رافق السلطان إلى الصويرة وتافيلالت حيث تمرد عمه المولى الحسن بن إسماعيل. كما ولاه ولاية العرائش، وكذا الإشراف على تربية أبنائه المولى سليمان والمولى الحسن والمولى الحسين بتافيلالت. وفي سنة 1200ه/1786م أرسله السلطان سفيرا إلى الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد بن أحمد (عبد الحميد الأول)، وذلك قبل أن يعينه السلطان عملا على تازة والمناطق الشرقية عام 1201ه/1787م. وفي سنة 1788م تم نقله إلى تافيلالت التي بقي فيها إلى حين وفاة السلطان سيدي محمد بن عبد الله سنة 1204ه/1790م.[5]

وفي عهد السلطان المولى سليمان كلف بولاية العرائش، كما كلفه بتفتيش مراسي المغرب ومراقبة عمالها وفيما بعد بالكتابة والوزارة والحاجبة، قبل أن يتم نقله عام 1801م إلى تادلا لكنه لم يوفق في كبح جماح قبائل المنطقة فكان ذلك آخر عهد له بالخدمة المخزنية، فوفر له ذلك متسعا من الوقت ليتفرغ للتأليف، والإنكباب على تدوين التاريخ وتسجيل أخبار رحلاته.[6] يشار أيضا إلى أنه في فترة من فترات حكم المولى يزيد كلفه بولاية أكادير، كما كلفه بمهمات عدة سافر في  شأنها إلى طنجة، والعرائش، والرباط، والدار البيضاء، ومراكش.[7]

عمر مديد ونكبات عديدة

عاش أبو القاسم الزياني خلال عمره الذي امتد أكثر من مائة سنة (بالتقويم الهجري)، وعاصر خلاله حكم خمسة سلاطين، -عاش- نكبات عدة. كانت أولها غرق السفينة التي كان على متنها هو ووالديه من مصر إلى الحجاز في رحلته الأولى، حيث كانت نيتهم أن يستقروا بشكل نهائي بأرض لحجاز ويتركوا المغرب الذي انفجرت فيه اضطرابات وفتن كثيرة بعد وفاة السلطان القوي المولى إسماعيل، ولكن ضياع ممتلكاتهم بعد الحادثة جعلهم يحجمون عن الهجرة ورجعوا إلى المغرب. أما نكبته الثانية فحدثت يوم غضب عليه السلطان وعزله من منصب الكتابة بديوان السلطان سنة 1769م قبل أن يصفح عنه. وبعد وفاة السلطان سيدي محمد بن عبد الله توالت عليه النكبات مرة أخرى فسجن مرتين وصودرت أملاكه على يد المولى اليزيد (1205-1207ه/1790-1792م) الذي لم يغفر له وقوفه إلى جانب المولى سليمان وتأييده له، بل وعرضه للإهانة والضرب المبرح حتى كاد أن يفقد حياته جراء ذلك. وفي عهد السلطان المولى سليمان كلف بولاية وجدة بقصد كبح جماح عرب أنكَاد، لكن القبائل الثائرة اعترضت طريقه قبل أن يصل مقر ولايته، فنهبوه هو ومن معه. وبعد الحادثة وفي سلوك غريب فر إلى الجزائر العثمانية ومنها قصد المشرق، فمر عبر تونس فاستانبول، قبل أن يسافر إلى الحجاز لأداء مناسك الحج صحبة الركب العثماني، كما زار مصر وفلسطين والشام. وبعد سنتين عاد إلى المغرب، لكن خوفا على نفسه أقام بداية في تلمسان إلى أن وصله كتاب من السلطان المولى سليمان يطمئنه ويدعوه إلى الإلتحاق بأهله بفاس، وهو ما تم عام 1210ه/1795-1796م.[8] وفي رحلته الأخيرة بمصر كاد أن يغرق في مياه النيل لما انقلب بهم المركب خلال إحدى النزهات بالنيل، فقد غرق كل من كان في المركب ونجا هو بفضل إتقانه للسباحة وبفضل مساعدة ركاب مراكب آخر كان على مقربة منه.[9]

وفي يوم 04 رجب 1249ه/ 17 نونبر 1835م، توفي بمدينة فاس ودفن بأمر السلطان بالزاوية الناصرية بجوار الحرم الإدريسي بفاس.

تآليفه العلمية

رغم انشغاله بالخدمة المخزنية لمدة طويله ورغم الأحداث الأليمة التي مرت بالمؤرخ أبو القاسم الزياني فإنه خلف عددا كبيرا من التأليف التاريخية على وجه الخصوص، وخاصة كتابه “الترجمانة الكبرى”، وفي فنون علمية أخرى[10]:

  • الترجمان المعرب عن دول المشرق والمغرب.
  • الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور برا وبحرا (الترجمانة الكبرى التي جمعت أخبار العالم برا وبحرا).
  • البستان الظريف في دولة مولانا الشريف.
  • الروضة السليمانية في ملوك الدولة العلوية ومن تقدمها من الدول الإسلامية.
  • ألفية السلوك في وفيات الملوك (أرجوزة)
  • جوهرة التيجان وفهرسة اليقوت واللؤلؤ والمرجان في ذكر الملوك العلويين وأشياخ مولانا سليمان.
  • عقد الجمان في شمائل السلطان سيدنا ومولانا عبد الرحمان.
  • تكميل الترجمانة في خلافة مولانا عبد الرحمان.
  • بغية الناظر والسامع والهيكل الجامع لما في التواريخ الجوامع.
  • تاريخ الولاية المحمودة البدء والنهاية.
  • تقييد في الشرفاء العلويين.
  • تحفة الحادي المطرب في رفع نسب شرفاء المغرب.
  • رسالة السلوك فيما يجب على الملوك (درة السلوك).
  • الدرة السنية الفائقة في كشف مذاهب أهل البدع من الروافض والخوارج والمعتزلة والزنادقة.
  • كشف الأسرار في الرد على أهل البدع والأشرار.
  • نصيحة المغترين في بطلان التدبير للمعتزلين.
  • شرح الحال والشكوى للكبير المتعال.
  • مذكرة في ذم باشا فاس الطيب بن الوديني في عهد مولاي عبد الرحمان.
  • التاج والإكليل في مآثر السلطان الجليل مولانا سليمان بن محمد بن عبد الله بن إسماعيل.
  • تحفة النبهاء في التفريق بين الفقهاء والسفهاء.
  • قصة المهاجرين المعروفيين بالبلديين بفاس.
  • ديوان شعري.
المراجع
[1] ليفي بروفنصال، مؤرخو الشرفاء، مطبوعات دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر (سلسلة التاريخ 5)، تعريب عبد القادر الخلادي، الرباط، 1977/1397، ص 103.
[2] كنون عبد الله، ذكريات مشاهير رجال المغرب في العلم والأدب والسياسة، ج1، مركز التراث الثقافي المغربي ودار ابن حزم، ط1، 2010، ص 624.
[3] ليفي بروفنصال، مؤرخو الشرفاء، مرجع سابق، ص 104.
[4] ليفي بروفنصال، مؤرخو الشرفاء، مرجع سابق، ص 104-105.
[5] المنصور محمد، معلمة المغرب، ج 14، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطاع سلا، 2001، ص 4769./ ليفي بروفنصال، مؤرخو الشرفاء، مرجع سابق، ص 106-109.
[6] المنصور محمد، معلمة المغرب، ج 14، مرجع سابق، ص 4770.
[7] ليفي بروفنصال، مؤرخو الشرفاء، مرجع سابق، ص 110.
[8] المنصور محمد، معلمة المغرب، ج 14، مرجع سابق، ص 4769-4770.
[9] ليفي بروفنصال، مؤرخو الشرفاء، مرجع سابق، ص 112.
[10] حيمر جمال، أبو القاسم الزياني عناصر بيوغرافية وبيبلوغرافية، ضمن منشورات مجلة مكناسة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية (مكناس)، ع 21، 2001، ص 103-114.