المحتويات
تقديم
عرف العارف بالله سيدي أحمد ابن عجيبة (1161/1748م-1224هـ/1809م) بكثرة تآليفه وتنوعها، فقد ألف في علم التفسير والقراءات وعلم الحديث والرجال والفقه والعقائد واللغة والسلوك، حظى بها بألقاب وأوصاف، تنم عن تقدير له، وعرفان بفضله، وتشير إلى ما بلغه من مقام رفيع فى العلم، ومرتبة عالية فى المعرفة.
ومما يحمد لهذا العالم أن اشتغاله بالجانب التربوي والتزكوي في انتسابه للطريق الصوفي لم يكن ليشغله عن التأليف كما هو الغالب على مريدي الطرق الصوفية، فقد اعتبر من أكثر المصنفين إنتاجا خلال القرن الثاني عشر، على أن أغلب مؤلفاته طغى عليها الاهتمام بتفسير القرآن الكريم والشروحات الصوفية.
نشأته ودراسته وطلبه للعلم
أجمل الشيخ ملخص سيرته في مقدمة كتابه الشهير “الفهرسة”، معتبرا ذلك من باب التحدث بالنعم حيث قال: “وها أنا أذكر بعض ما منَّ الله به علينا، وما يتعلق بأسلافنا، وما يصح ذكره من أول نشأتنا إلى أوان زماننا، وكيفية أخذنا للعلم الظاهر والباطن، وذكر أشياخنا في العلمين وإجازتهم لنا، ومن شهد لنا بالكمال في الأمرين، وما ألَّفناه من الكتب، وما ارتكبناه في سيرنا من الأحوال، وما لقيناه من الأهوال في طريق الوصال، وبعض ما شهدناه من الكرامات والتأييدات، ومن أخذ عنا طريق التربية من الفقراء السادات…”[1].
ولادته وتعليمه:
ولد الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن المهدي ابن عجيبة الحسني بقرية “أعجيبش” عام 1161/1748م بقبيلة الحوز بإقليم تطوان –شمال المغرب، وفي قريته تعلم القرآن وحفظه على حده المهدي، كما اقرأه إياه: أحمد الطالب، عبد الرحمن الكتامي الصنهاجي، العربي الزوادي، محمد أشمل. وإلى جانب حفظ القرآن الكريم كان يشتغل في حفظ المصنفات كالأجرومية لأبن آجروم، وألفية ابن مالك، والمرشد المعين لابن عاشر، ونظم الخراز، وحرز الماني للشاطبي[2].
مرحلة طلب العلم:
خصص الفصل الثالث من فهرسته لذكر ابتدائه طلب العلم الظاهر، وقال في ذلك: “ولما بلغت من العمر تسع عشرة سنة أو ثمان عشرة شرعت في قراءة العلم الظاهر، وسبب ذلك أني كنت أقرأ القرآن في قبيلة بني مصور بمدشر دار الشاوي على الفقيه الصالح سيدي محمد أشمل وقد شهدت له بركة عظيمة في الفتح. فلما كنت ذات يوم راح إلينا الفقيه الصالح العالم الناسك سيدي محمد السوسي السملالي على قدر لما سبق في الأزل من صحبته، وذلك أنه كان مقيما بالقصر الكبير يدرس العلم فلما قدم لأهله بقبيلة انجرا مر بنا، فلما نزل عندنا وصلينا المغرب جلست بين يديه، فما زلت أسأله عن مسائل العلم وأبحث معه إلى العشاء، فلما رأى قريحتي ولوعتي في العلم سأل عني، فقالوا له هو من أولاد ابن عجيبة، فقال: مثل هذا لا ينبغي أن يترك هنا أو كلاما نحوه، فقال لي: تذهب معي إلى القصر لقراءة العلم، فثم من هو أصغر منك، فقلت له نعم، وطاش عقلي من الفرح. فلما سافر إلى داره لحقته ثم سافرت معه إلى القصر الكبير…[3].
العودة إلى تطوان:
ثم ذكر لنا بعد مقامه بالقصر الكبير طالبا على يد الفقيه السملالي عودته إلى مسقط رأسه بتطوان، ذاكرا أسماء أهم الشيوخ الذين تلقى عنهم العلم فقال: “ثم قدمت مدينة تطوان سنة ثمانين أو إحدى وثمانين من القرن الثاني عشر، فاشتغلت بقراءة العلم واستغرقت أوقاتي كلها فيه”. وأشار في هذه العودة إلى شيوخه وهم: سيدي أحمد الرشا وسيدي عبد الكريم بن قريش، أما شيوخه الآخرون فحدثنا عنهم وعن العلوم التي تلقاها على أيديهم بقوله: ” وأخذت عن غيرهما أنواعا من العلم كالفقيه سيدي محمد الورزازي… وأخذت أيضا عن النحوي الشهير سيدي محمد العباس… وأخذت أيضا عن القاضي الشهير سيدي عبد السلام بن قريش… وجلست في حلقة الرجل الصالح الفقيه العلامة سيدي محمد غيلان مرة أو مرتين. وفي حلقة العلامة سيدي علي شطير مرارا. ولما قدم شيخنا الفقيه العلامة سيدي محمد الجنوي الحسني مدينة تطوان أخذت عنه…”[4].
الرحلة إلى فاس:
كعادة طلاب العلم الذين يرغبون في زيادة طلبهم العلم، رحل ابن عجيبة في سبيل ذلك إلى فاس مدينة العلم وأهله، ويشير إلى رحلته تلك معددا علماءها الذين تتلمذ عليهم بقوله: “ولما توفي شيخنا الجنوي، رحلت إلى مدينة فاس، فسمعت البخاري من شيخنا شيخ الجماعة العالم العلامة سيدي محمد التاودي ابن سودة سردا… وأخذت علم الفرائض عن فرضي وقته العلامة المشارك سيدي محمد بنيس (بفتح الباء وتشديد النون المكسورة).. وجلست في حلقة التفسير للورع الزاهد سيدي أحمد الزعري أياما، وفي حلقة التلخيص للحافظ الكبير النحوي اللغوي سيدي الطيب ابن كيران…)[5].
التفرغ لوظيفة التدريس
بعد اكتسابه لمختلف مناحي العلم والمعرفة، عاد إلى مدينة تطوان مدرسا وواعظا بمختلف مساجدها، يقول في ذلك: “ثم رجعت إلى تطاون فاشتغلت بتدريس العلم وذكر الله تعالى فردا وجماعة، حتى أخذ الله بيدي بملاقاة الشيخ، شيخنا العارف الرباني الفرد الصمداني سيدي محمد البوزيدي الحسني وشيخه قطب التربية النبوية وأصل مادة الطائفة الدرقاوية…”[6].
وهكذا فإن “فهرسته” اشتملت على معلومات تاريخية وأدبية؛ ونماذج من إنتاجه الشعري، بالإضافة إلى التفصيل في ذكر مسار تكوينه، كما ذكر ذلك محمد داود بقوله: “وفهرس الشيخ ابن عجيبة من الكتب التي يتردد ذكرها في أواسط مدينة تطوان التي وصف جانبا من الحياة الاجتماعية فيها؛ لأنه يتكلم فيه على حياته التي قضى جلها في هذه المدينة تعلما وتعليما وإرشادا وتوجيها وبحثا وتأليفا…”[7]، وقد أخذنا منها ما يتعلق بالنشأة والتربية وانشغاله بالتدريس، دون الوقوف على ما يتعلق بما “ارتكبناه – كما يقول- في سيرنا من الأحوال، وما لقيناه من الأهوال في طريق الوصال، وبعض ما شهدناه من الكرامات والتأييدات…”.
وفاته
توفي الشيخ سيدي أحمد بن عجيبة رحمه الله في سابع شوال من عام 1224هـ (15 نونبر 1809م) نزيلا عند شيخه الصوفي سيدي محمد البوزيدي الحسني بقرية بوسلامة، بفرقة بني سلمان من قبائل غمارة، وبقي مدفونا بالقرية مدة من الزمن، وذلك قبل ان يقوم مريدوه (الفقراء) باستخراج جثته ونقلها على موطنه بقرية الزُّمّيج من قبيلة أنجرة حيث مازال ضريحه هناك[8].
وقد حلاه عدد من العلماء متحدثين عن علمه وفضله وزهده وسلوكه طريق القوم، يقول إبراهيم حركات ملخصا حاله: “ومن الشخصيات البارزة التي أخذت بالمذهب الدرقاوي قبل الشيخ العربي المذكور، الصوفي أحمد بن عجيبة الذي درس بتطوان وفاس وله عدد من المؤلفات معظمها في التصوف…”[9].
مؤلفاته ومآثره العلمية
يقول عبد السلام الكوهن عن مؤلفات ابن عجيبة: “تآليفه- عليها لوائح نفثات أهل المعرفة الكمّل، فإنه أعطى ناطقة أسرار أهل الله، وكلامه عال، أحل مشكلات القوم، وفك طلاسم أسرارهم، وتكلم بما أبهر عقول الأعيان”[10].
وذكر مؤرخ تطوان الفقيه محمد داود أنه وقف بنفسه على خمسة عشر مؤلفا لابن عجيبة، مبينا أنه ضاع معظمها واندرس، ولم تظفر الأيادي إلا بأقله… وإذا عدنا إلى فهرسته فإننا نجده قد عقد فصلا كاملا تحدث فيه عن مؤلفاته بعنوان: “ذكر ما جمعناه من التصانيف بحول الله وقوته”.
وفيما يلى ثبت بأسماء مؤلفاته والتعريف بها، وهي في غالبها رسائل وتقاييد صغيرة إذا استثنينا ما وضعه في باب التفسير والتصوف والتراجم؛ التي تكون غنية وقد تصل إلى أجزاء أو مجلدات، وسأورد عناوين هذه المؤلفات بعد ترتيبها وضم بعضها إلى بعض بحسب العلوم والفنون وفق ما ذكره في فهرسته، وهي كما يلي: في علوم القرآن والتفسير، في الفقه والعقائد، في السيرة النبوية والحديث والأذكار والتصليات، في التراجم وعلوم اللغة، ثم مؤلفات في باب التصوف والسلوك، ثم شروح على بعض القصائد الصوفية، وهي كالآتي:
- “البحر المديد في تفسير القرآن المجيد”: ويعتبر أضخم عمل ألفه ابن عجيبة، وبه عرف واشتهر بين أهل العلم وفضلائه، فلا يذكر ابن عجيبة إلا والبحر المديد على رأس ما يذكره به الناس لاختصاصه بالتفسير الإشاري إلى جانب ما تضمنه التفسير من إشارات ومضامين أخرى لغوية وتاريخية.
- “التفسير الكبير للفاتحة”: ويعتبر هذا التفسير موسوعة كبيرة مليئة بالفوائد والإشارات، ذكر في مقدمته مبادئ علوم القرآن وسماها المقدمات العشر.
- “التفسير الوسيط للفاتحة”: جمع فيه بين التفسير اللغوي البياني والتفسير الإشاري.
- “التفسير المختصر للفاتحة”: وقد مزج فيه ابن عجيبة بين التفسير بالظاهر والتفسير بالإشارة بشكل مختصر.
- “الدرر المتناثرة في توجيه القراءات المتواترة”: وهو تأليف- كما قال- يشتمل على آداب القراءة، والتعريف بالشيوخ العشرة ورواتهم، وتوجيه قراءة كل واحد منهم.
- “الأنوار السنية في شرح القصيدة الهمزية”: وكان عمدة شرح ابن عجيبة على شرح ابن حجر كما صرح بذلك في خاتمة مؤلفه.
- “شرح بردة البوصيري”: المسماة: “الكواكب الدرية في مدح خير البرية”.
- “شجرة اليقين فيما يتعلق بكون رب العالمين”: عرّف فيه ببعض الأحاديث النبوية المأثورة حول شجرة النور النبوية.
- “شرح صلاة عبد السلام بن مَشِيش”: وهو شرح لطيف على تصلية القطب الجامع سيدي عبد السلام بن مشيش.
- “شرح صلاة ابن العربي الحاتمي”: وموضوعه مدح الذات المحمدية ليس على طريق أهل الظاهر ولكن على طريقة أهل الباطن.
- “حاشية على الجامع الصغير للسيوطي”: وهذا الكتاب يبرز لنا قوة وعلم مؤلفه في علم الحديث.
- “أربعون حديثا في الأصول والفروع والرقائق”: جمع في هذه الأربعين علم الأصول والفروع وشيء من علم التصوف.
- “الأنوار السنية في الأذكار النبوية”: جمع فيه جملة من الأذكار النبوية التي يحتاجها المرء في اليوم والليلة.
- “الأدعية والأذكار الممحقة للذنوب والأوزار”: ذكر فيه شيئا من الاستغفار والصلاة والأدعية والأذكار الواردة عنه (ص) والمستعملة لدى الأولياء العاملين والعلماء العارفين.
- “شرح كتاب الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين”: لابن الجزري، ذكر فيه مجموعة من الأحاديث التي تضمنت أذكارا ودعوات يتحصن بها المسلم في الصباح والمساء.
- “حاشية على مختصر خليل”: ابتدأه لكنه لم يكمله.
- “تسهيل المدخل لتنمية الأعمال بالنية الصالحة عند الإقبال”: وهو تأليف فى النية وأحكامها.
- “رسالة في ذم الغيبة ومدح العزلة والصمت”: والكتاب كما يوحي عنوانه في ذم بعض الأخلاق المشينة والتحلي بأفاضلها، فيدخل بالتالي في باب الترغيب والترهيب.
- “رسالة في العقائد والصلاة”: وهى رسالة صغيرة الحجم، لا تتعدى عشر صفحات.
- “شرح أسماء الله الحسنى”: أفرد فيه لكل اسم بابا كما فعل القشيري فى كتابه “التحبير في التذكير”.
- “سلك الدرر في ذكر القضاء والقدر”: وهو في تفسير القضاء والقدر من باب العقائد.
- “كشف النقاب عن سر لب الألباب”: في بيان الطلاسم التي احتجبت بها الربوبية.
- “أزهار البستان في طبقات الأعيان”: ترجم فيه لأرباب المذاهب الفقهية، والتعريف بمشاهير أصحاب مذهب الإمام مالك، من زمانه إلى زمان ابن عجيبة، على ترتيب وجودهم، كل قرن على حدة، ثم أتبعهم بذكر النحويين والمحدثين وبعض الصوفية.
- “الفهرسة”: وهى سيرة الشيخ الذاتية – كما أشرنا إليها من قبل-.
- “نبذة عن الزهاد السبعة”: وهو عبارة عن نبذة صالحة ولمحة يسيرة من ذكر بعض مناقب الزهاد السبعة.
- “الفتوحات القدوسية في شرح المقدمة الأجرومية”: شرح فيه المقدمة الأجرومية لابن آجروم، شرحا جمع فيه بين النحو والتصوف.
- “اللوائح القدسية في شرح الوظيفة الزروقية”: اعتبر فيه أن وظيفة الشيخ زروق تعتبر من أفضل الوظائف، ولذلك قام بشرحها.
- “إيقاظ الهمم فى شرح الحكم”: وهو أشهر كتبه، ومعظم محتويات الحكم تدور حول آداب السلوك وما تجب مراعاته في ذلك.
- “الفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية”: في شرح منظومة ابن البنا المراكشي في التربية والسلوك عند الصوفية.
- “معراج التشوف إلى حقائق التصوف”: وموضوعه المصطلحات الصوفية، وبيان معانيها ومراميها.
- “شرح الحزب الكبير للشاذلي”: وهو شرح لكلام الشاذلي وبيان ما انبهم من قصده ومراميه فيه.
- “شرح القصيدة المنفرجة لابن النحوي”: جمع في هذا الشرح بين الجانب اللغوي والإشاري.
- “منازل السائرين والواصلين وأسرار علم الحقيقة ودوائر الحضرة وأصناف الأولياء البررة”: وهو في شرح مقامات الدين الثلاث: مقام الإسلام ومقام الإيمان ومقام الإحسان.
- “فضائل نور سيد المرسلين وذكر أطواره في الكونين”: ذكر في أوله فضائل نور سيدنا محمد (ص).
ثم تأتي بعد هذه المؤلفات المذكورة شروح على بعض القصائد والأبيات الصوفية ومنها:
- “شرح هائية الرفاعي”؛
- “شرح خمرية ابن الفارض”؛
- “شرح تائية البوزيدي”؛
- “شرح رائية البوزيدي”؛
- “شرح نونية الششتري“؛
- “شرح تائية الجعيدي”؛
- “شرح أبيات الجنيد: تَوَضَّأ بماءِ الغَيبِ”.
خاتمة
وهكذا فقد اعتبر ابن عجيبة كأحد أعلام التصوف السني في القرن الثاني عشر الهجري بالمغرب، وكانت مواقفه تعبر عن مميزات المدرسة الدرقاوية بشمال المغرب، بحيث تجعلها مدرسة مستقلة عن باقي الطرق الصوفية التي عرفت بوسط المغرب وجنوبه وشرقه؛ ويرجع ذلك إلى ما اعتمدته أساسا في أسلوبها من الدعوة إلى العودة بالتصوف المغربي إلى ينابيعه الأولى القائمة على اتباع السنة في الأقوال والأفعال والعبادات والعادات، ومجانبة البدع في كل المجالات جمعا بين العقيدة والفقه والتصوف.
المراجع
[1] الفهرسة- ابن عجيبة- حققها وقدم لها وعلق عليها الدكتور عبد الحميد صالح حمدان- الناشر: دار الغد العربي/القاهرة- الطبعة الأولى/1990- ص: 38 وما بعدها.[2] العمراني عبد الله، معلمة المغرب، ج18، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 2003، ص 5990.
[3] الفهرسة- ابن عجيبة، مرجع سابق، ص 29.
[4] الفهرسة- ابن عجيبة، مرجع سابق، ص 31-32.
[5] الفهرسة- ابن عجيبة، مرجع سابق، ص 32.
[6] الفهرسة- ابن عجيبة، مرجع سابق، ص 32-33.
[7] تاريخ تطوان- محمد داود- ج/6- ص: 230 وما بعدها.
[8] العمراني عبد الله، معلمة المغرب، ج18، مرجع سابق، ص 5991.
[9] إبراهيم حركات- المغرب عبر التاريخ- دار الرشاد الحديثة/الدار البيضاء- طبعة/2009-ج/3- 565.
[10] جامع الكرامات العلية، الكوهن الفاسي، ص 154.