مقدمة

اشتهرت منطقة سوس (وسط المغرب) خلال فترات طويلة من تاريخها بتأسيس المدارس العلمية والتي خرجت أفواجا لا تحصى من العلماء في مختلف الحقول المعرفية؛ من فقه وأصول وعلوم القرآن واللغة، وفي الأدب والتصوف وغيرها. هذه الحركية الدائبة في إنشاء وتأسيس المدارس العلمية لم تتوقف في سوس منذ إنشاء أول مدرسة علمية معروفة في المنطقة –إذا لم تكن الأولى في المغرب كما يذهب إلى ذلك عدد من المهتمين- وهي مدرسة/رباط وكَاك بن زلو بأكلو بنواحي مدينة تزنيت (المدرسة الوكَاكَية) إلى يوم اليوم. وخلال قرون عدة أنجبت هذه الربوع من المغرب طائفة كبيرة من العلماء والفقهاء والأدباء والمتصوفة والقراء أغنوا المكتبات العلمية للمنطقة والمغرب بمؤلفات مختلفة وفي طيف واسع من الموضوعات العلمية؛ النقلية منها والعقلية.

ومن بين هذه العلماء الذي تخرجوا من مدراس سوس، بل وأسس أيضا إحدى تلك المدارس في المنطقة؛ وهي المدرسة الإلغية، بمنطقة بسيط إلغ في بلاد جزولة بقلب الأطلس الصغير، ويتعلق الأمر بالفقيه والأديب محمد بن عبد الله الإلغي. ولم يكن بروز محمد بن عبد الله الإلغي وتأسيسه لللمدرسة الإلغية بدعة وفلتة، بل هو حلقة من حلقات الاهتمام بالعلوم والمدارس العلمية في منطقة سوس. ولكنه في المقابل كان “أول من وضع الحجر الأساسي في العلم والأدب الإلغِيَّيْن”.[1] كما أنه “المنبع الأول لجميع العلوم التي اشتهرت بها إلغ؛ ووسمت بها أواخر القرن الماضي بين البلدان السوسية…فكل من زاول العلم بعده من الإلْغِيِّين وتلاميذهم وتلاميذ تلاميذهم؛ وهم عشرات إنما هم كلهم حسنة من حسنات هذا الأستاذ”.[2]

النسب والنشأة والتكوين

هو محمد بن عبد الله بن صالح بن عبد الله بن صالح بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن سعيد، وينتمي إلى قبيلة أيت عبد الله أوسعيد، وهو سليل الفرع الصالحي من الجذم الأحمدي، كما يظهر فيما أورده حفيده العلامة المختار السوسي حول نسبه في “المعسول”.[3] وهذا الفرع استوطن قرية دو كادير في منطقة إلغ، منذ استقرار أحمد بن عبد الله بن سعيد في القرية وانتقاله من منطقة تاهلة وتأسيسه الزاوية العليا هناك. أما قبيلة عبد الله أوسعيد والتي تنتسب إلى عبد الله بن سعيد بن حسين دفين أيمور (تاهلة) بإقليم تزنيت، والمتوفي بعد عام 1051ه/1641م، فقد استوطنت منطقة إلغ، منذ ما يزيد على ثلاثمائة سنة. وقد بدأت مجموعة بشرية بسيطة، لكنها سرعان ما تحولت إلى جماعة كبيرة العدد، ذات صبغة دينية ووظيفة مرابطية.[4]

ولد الطفل محمد عام 1265ه/1848 في قرية دو كادير ببسيط إلغ في الجنوب الشرقي من مدينة تزنيت وفي قلب الأطلس الصغير الغربي، وقد كانت أسرته أسرة ميسورة، بسبب اجتهاد وكَدِّ والده عبد الله بن صالح في كسب الرزق والعيش الرغيد، وذلك عكس أغلب المرابطين الذين كانوا ذوي خمول وانزواء قانعين بما لديهم، خصوصا بعد الشهرة والنفوذ الذي أصبح يتمتع بها في المنطقة وذلك بعد أن جدد الزاوية العليا وتحويلها إلى زاوية تِجانية بعد تلقيه الورد التِّجاني[5]. وقد كان محمد الولد البكر لوالده، وكانت رغبة والديه في أن يكون لهما عونا، ف”كانا يطمعان منه ما يطمعه كل والدين من مرابطينا أصحاب المواشي من ابنهما البكر أن يكون ساعدا لهما؛ ومعينا على مشاق الحياة وكان يميلان به في الصغر إلى رعاية الغنم؛ ولكنه كان يهرب إلى المسجد؛ وقع منه ذلك ست مرات؛ فانعكست به القضية المعتادة؛ لأننا لا نشاهد إلا من يهرب من المسجد  لا من يهرب غليه فكان ذلك كإرهاص لما سيؤول إليه أمره”، كما قال محمد المختار السوسي.[6]

وفي الأخير استسلم الوالد فوجه ابنه إلى مسجد القرية، حيث بدأ محمد بن عبد الله الإلغي تعليمه، كما شارط له والده في داره الأستاذ محمد بلقاسم أفكَان، وهكذا حفظ القرآن الكريم في قريته، وذلك قبل أن يقرر والده أن يوجهه إلى مدرسة تانكرت الشهيرة بمنطقة إفران بالأطلس الصغير، خصوصا لِما رآه من إبنه من اقبال بجد واجتهاد على التعلم، ولما رآه من عقم في طريقة التعليم بمسجد القرية، فأخذ عن أستاذ المدرسة محمد بن إبراهيم الإفراني التمنارتي. وبعد قضاء 10 سنوات بين يدي أستاذه الإفراني عاد محمد بن عبد الله الإلغي إلى قريته في الزاوية العليا عام 1291ه/1874م، “عاد منبهرا باجتهاد شيخه معجبا بما رأى فيه من حرص شديد على نشر العلم، وبما يحيط به من إجلال العامة والخاصة له” فوقعت في نفسه رغبة عارمة في جعل مهمة نشر العلم وبثه مهمة حياته.[7]

لقد مكنته رحلته العلمية إلى مدرسة تانكرت والتعلم بين يدي أستاذه الإفراني التمنارتي من تحصيل قدر غير يسير من العلوم من فقه ولغة وتاريخ وتفسير وسيرة نبوية وأصول ومنطق وعروض وبيان وأدب…خاصة وانه أخذ عن أستاذه وهو خريج المدرسة الجِشْتِمِيَّة (المدرسة الأكَشْتِيمِيَّة)  بإمي أوكَشْتيمْ (وادي أمّلْنْ) بتافراوت –إقليم تزنيت؛ ذات المشرب الناصري، وهي المدرسة التي عرف عن أساتذتها الإهتمام بالعلوم تدريسا وتأليفا، وهي مدرسة تفوقت في الأدب أساسا. فمن هذا المعين أخذ محمد بن الله الإلغي تلك العلوم وخاصة التضلع في الأدب، فحصل علوم الآلة من نحو وصرف وعروض وبلاغة، بالإضافة إلى التمرس في التعامل مع القواميس والمعاجم اللغوية.[8]

تأسيس المدرسة الإلغية

لما عاد محمد بن عبد الله من مدرسة تانكرت بإفران، قرر وضع ما تعلم موضع التطبيق وعزم على الإقتداء بأستاذه في نشر العلم بين أهله وقبيلته، فبدأ بتحويل مسجد الزاوية إلى مدرسة بعدما هيأ البنية التحتية الخاصة بها، من غرف للطلبة ومخزن ومطبخ ومغسل للوضوء وساحة للحطب. فبدأ باستقبال الطلبة ووفر لهم الإيواء والتغذية، إضافة إلى تعليمهم. وبعد ثلاث سنوات من عام 1291ه/1874م حتى 1294ه/1877م، نفذت مدخراته المادية على تسيير شؤون مدرسته الوليدة فاضطر إلى المشارطة بمدرسة بومروان (المدرسة البومروانية) في موطن قبيلة إدا أوسملال، وخلال مدة سنتين من المشارطة تمكن من جمع عائدات مهمة سمحت له بتسيير مدرسته واستمرارها.[9] وقد صادف انتقاله إلى المشارطة في المدرسة البومروانية المجاعة الكبيرة التي ضربت منطقة سوس ابتداء من سنة 1879م/1295ه والتي نتجت عن جفاف حاد أتى على الأخضر واليابس. ورغم الوضعية الإقتصادية الصعبة فقد جمع مدخرات قيمة من شرط مسجد الزاوية البومروانية ومدرستها سمحت له باقتناء أكبر قدر من الأراضي ببسيط إلغ وذلك بأبخس الأثمان، فتمكن أخيرا من إعادة فتح مدرسته التي ضاق حجمها عن استقبال الوافدين.[10]

بالإضافة إلى القيام بواجب نشر العلم بين أهله وقبيلته وتأسيس المدرسة الإلغية، فإن علمه وسمعته في قبيلته أهلته للعب دور كبير في مجال القيام بدور التحكيم بين الناس والقبائل وفض النزاعات بينهم، الأمر الذي أعطاه شهرة كبيرة في المنطقة وبين زعماء القبائل، فسمح له ذلك بملاقاة السلطان الحسن الأول عند زيارته لسوس عام 1882م/1299ه وفي عام 1300ه/1883 و 1303ه/1885م على التوالي بمراكش، والذي منحه ظهير احترام وتوقير لكل أبناء قبيلة أيت عبد الله أوسعيد.

محمد بن عبد الله الإلغي أديبا

بالنظر إلى التكوين الذي تلقاه الإلغي على يد أستاذه محمد بن ابراهيم الإفراني التمنارتي، والذي من مميزاته التمكن الأدبي سيرا على نهج المدرسة الأكَشتيمية (الجشتمية) والتي يعتبر أستاذه أحد خريجيها، فإنه اهتم بالنظم والشعر والأدب عامة أي اهتمام، وكان في جميع المناسبات يقرض قرضا. وهذا الإهتمام نابع من كون الإلغي يرى في الشعر أداتا فعالة في إذكاء روح الاهتمام بالأدب بين طلبته وتشجيعهم على سلك طريق النظم والكتابة لأجل التمرس بالصناعة الأدبية، وبهذا الأسلوب التربوي تخرج من المدرسة الإلغية شعراء بارزون كالطاهر الإفراني والكوسالي والبوزكارني وغيرهم.[11]

ومن أشعاره، قطعة حائية أوردها العلامة المختار السوسي في “معسوله”، وهو يخاطب بها أستاذه محمد بن ابراهيم؛ ويتشوق إلى إفران محضن مدرسة تانكرت[12]، ويقول فيها:

إذا ما هب من إفران ريح *** هفا بالقلب من صدري جنوحُ

يشُمُّ بها أريجا من حِماهم *** فيبدو منه نَحْوهم جموحُ

فاصبر ما أطيق فيَرْتَمي بيّ *** تفكُّرُهم فأزْفُرُ أو أصِيحُ

أبِيت على التململ في فراشي *** كأنَّ الجسم عمَّتْه جروحُ

وذلك كله من أجل شوقي *** إلى من وجهُهُ الأسْنَى صبيحُ

أبي الثاني وشيخي مَن حَبَاني *** فأغدو في جُداهُ كما أروحُ

محمد نجل إبراهيم مَجدٌ *** عظيم من أبي بكر صريحُ

تأزَّر بالسِّيادة وارْتداها *** كما يغدو المربِّي والنَّصيحُ

غَذانا بالعلوم وليس يغدو *** بِرُسل العلم مِكسالٌ شَحيحُ

جزاه الله ما يَجْزي عَليماً *** له عملٌ بمَعْلمِهِ صحيحُ

آثاره العلمية

لم يخلف محمد الإلغي آثارا ولا مؤلفات لاشتغاله الدائم بالدرس والإرشاد والفتوى وإنما تنسب له حاشية على “البهجة” لم تتم، وتصدر عنه مقتطعات ورسائل في مناسبات مختلفة غالبها إخوانية، أما فتاويه فتوجد منها نماذج بكتاب “المجموعة الفقهية”،[13] هذا إضافة إلى مقتطفات أدبية يكتبها إلى أساتذته وتلاميذه[14]. لكنه ترك، رغم عمره القصير، طائفة من التلاميذ حملوا مشعل العلم بعده تأليفا وبثا، وقد أورد محمد المختار السوسي لائحة هؤلاء في معسوله، نورد بعضهم، وهم: الطاهر بن محمد الإفراني، وإبراهيم بن محمد الإفراني، والعربي الساموكني، وأبو القاسم التاجارمونتي، ومحمد بن الحاج الإفراني، والحسن بن الحاج الإفراني، والحسين التاطاروستي، والمكي اليزيدي، ومحمد بن عبد الله اليزيدي الكبير، والطيب الركيبي، ومبارك التاكضيشتي…وغيرهم كثير.[15]

وفاته

توفي محمد بن عبد الله الإلغي –رحمه الله- ولم يبلغ بعد عقده الرابع، وكان ذلك يوم 22 ربيع الأول عام 1303ه/1885م، أي أنه توفي وعمره ثمانية وثلاثين سنة. وقد كانت وفاته خلال زيارتة للسلطان الحسن الأول في منطقة تامصلوحت نواحي مدينة مراكش، بسبب مرض لازمه مدة، وتم نقل تجاليده إلى إلغ حيث ووري الثرى عند أهله في وسط المقبرة القاسمية[16]. فوفاته كانت بعد خمس سنوات فقط من تأسيس مدرسته. “وهكذا توفي الإلغي غريبا بعيدا عن موطنه حيث أسس لأسرته وقبيلته مجدا طريفا، وفتح لهم الباب على مصراعيه للخروج من الأمية إلى العلم والأدب، وترك فيهم المدرسة الإلغية عامرة بالطلبة مائجة بالحركة، فحقق في عمره القصير ما يعجز المعمّرون عنه في أعمارهم الطويلة، وبفضل جده واجتهاده واتباع خلفه لخطاه، فاقت المدرسة الإلغية الحديثة العهد بالتأسيس نظيراتها العتيقات شهرة وإنجازان كما تميزت عنها باهتماماتها الأدبية”.[17] وقد خلف محمد بن عبد الله ن صالح الإلغي من الأبناء ثلاثة ذكور وهم: أحمد  (جَدُّ العلامة محمد المختار السوس) وعبد الله وعبد الرحمن.

المراجع
[1] السوسي محمد المختار، المعسول في الإلغيين وأساتذتهم وتلامذتهم في العلم والتصوف وأصدقائهم وكل من إليهم، ج1، ص 160.
[2] السوسي محمد المختار، المعسول، ج1، مرجع سابق، ص 161.
[3] السوسي محمد المختار، المعسول، ج1، مرجع سابق، ص 160.
[4] السعيدي المهدي، المدارس العتيقة وإشعاعها الأدبي والعلمي؛ المدرسة الإلغية بسوس نموذجا، منشورات وزارة ألوقاف والشؤون الإسلامية-المملكة المغربية، ط1، مطبع فضالة، المحمدية، 2006، ص 77.
[5] المدارس العتيقة وإشعاعها الأدبي والعلمي؛ المدرسة الإلغية بسوس نموذجا، ص 93.
[6] السوسي محمد المختار، المعسول، ج1، مرجع سابق، ص 161-162.
[7] المدارس العتيقة وإشعاعها الأدبي والعلمي؛ المدرسة الإلغية بسوس نموذجا، ص 94-95.
[8] المدارس العتيقة وإشعاعها الأدبي والعلمي؛ المدرسة الإلغية بسوس نموذجا، ص 95-96.
[9] المدارس العتيقة وإشعاعها الأدبي والعلمي؛ المدرسة الإلغية بسوس نموذجا، ص 100.
[10] ناعمي مصطفى، معلمة المغرب، ج2، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ودار الأمان، ط1، 1989، ص 643.
[11] المدارس العتيقة وإشعاعها الأدبي والعلمي؛ المدرسة الإلغية بسوس نموذجا، ص 99.
[12] السوسي محمد المختار، المعسول، ج1، مرجع سابق، ص 178-179.
[13] عبد الله درقاوي، معلمة المغرب، ج2، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ودار الأمان، ط1، 1989، ص 647.
[14] السوسي محمد المختار، المعسول، ج1، مرجع سابق، ص 175-180.
[15] السوسي محمد المختار، المعسول، ج1، مرجع سابق، ص 180-181.
[16] السوسي محمد المختار، المعسول، ج1، مرجع سابق، ص 173.
[17] المدارس العتيقة وإشعاعها الأدبي والعلمي؛ المدرسة الإلغية بسوس نموذجا، ص 101.