توطئة

انبرَى الزعيم الوطني الأستاذ علال الفاسي (تـ. 1974) بفِكْرِه وقَلمه وأشعارِه طيلة عهْدَي الاحتلال والاستقلال لقضايا الوحدة المغاربية، بناء المغرب العربي الكبير، الصّحراء[1]، بناء الدولة الوطنية الحديثة، والإصلاح الاجتماعي، التعليم، الفِكر الاقتصادي، والحرية[2]، السياسات الاستعمارية[3] التضامن الحزبي، الأُخُوّة والموالاة. وهي القضايا التي استَوْقَفت رموز العمل الوطني في شمال المغرب، ورأَوا في المنافِر عنها شَخصية وطنية جديرة بالتقرير، فتَقارَبت معه أخَويا واجتماعيا وسياسيا، واشتَرَكت معه في المسار الطويل من أجل التحرير.

والـمُطالِع للسيرة العامِرة للزعيم علال يقِفُ على حقيقةِ التقدير الكبير والـتَّجِلة البالِغة التي كانَ يحُوطُه بها إخوانُه وكان هو يُبادلهم بمِثْلها. حيث نقِفُ في كتاب “دَور الفقهاء في الحركة الوطنية من خلال رسائل إلى الفقيه عبد الله كنّون[4]، وفي الرسائل المتبادَلة بين علال الفاسي وأعلام النضال الوطني بالشمال على ذلك الكمّ الغزيز من المشاعر الأخوية الصادقة والتعابير الـمُطْرِية في حَق بعضهم البَعض.

بدايات العلاقات واستِمرار الصِّلات

لَـمّا أَسَّس الأستاذ علال الفاسي جمعيته السّرية لمناهضة الحماية الأجنبية؛ كان مِن أوائل مَن أحاطهم علما بالمبادَرة؛ بضْعة رجال من وطنيي تطوان. على رأسهم الأستاذ عبد السلام بنونة، واقتَرح لعضوية الجمعية كلاً من المؤرّخ محمد داود وعبد السلام بنونة وأخيه محمد بنونة، وكان ذلك حوالي العام 1928.

ومِن وَقْـتِها؛ رَبَطَتِ الأستاذَ علال علاقات وطيدة مع المؤرخ محمد داود وأبناء السيد بنونة الذين وَفدوا على فاس للدّراسة في القرويين سنة 1930. وتؤكّد الوفْرة الوافِرة مِن الرسائل المتبادَلة بين علال الفاسي ووطنيي تِطوان طيلة مرحلة الاحتلال على العلاقة الأخوية والإنسانية المتينة بين الرّجل ورفاقه التطوانيين، واحترامهم الكبير لشخصه وأفكاره ونضاله الوطني. ثم لاحقا مع شخصيات أخرى؛ التهامي الوزاني، المفضل أفيلال، محمد العربي الشاوش.

ولم تكن العلاقات محصورة في النّطاق الجغرافي للمغرب. بل تَعَدّت الصُّحبة الإنسانية والأهداف السياسية المشتَرَكة إلى العالَمَ الخارجي. حيثُ كافَح الأستاذ علاّل مرفوقا بالطيب بنونة والمهدي بنونة ومحمد المكي الناصري وعبد الخالق الطريس وامحمد طنّانة وامحمد بنعبود في لقاءات ونضالات عاشوها مَعاً في القاهرة ومدريد وباريس وجنيف.

كانت المرحلة الانتقالية الفاصِلة بين تحوُّل إسبانيا من نظامها الملكي إلى نظامها الجمهوري أواسط 1931 وتأثيرات ذلك على المنطقة المغربية التّابعة لحمايتها؛ عامِرة بالأحداث التي جعلت علال الفاسي يُكثِّف مِن تواصُلِه وتنسيقِه مع رموز العمل الوطني في تطوان. ولا سيما مع العناصر التي كانت تُدير بعض الجرائد وتُجيد التواصلَ بالإسبانية، أمثال الأديب التهامي الوزاني والأستاذ عبد الخالق الطريس. وطَلَب علالٌ مِن الحاج عبد السلام بنونة -ثمانية أيام بعد إعلان الجمهوية- جمْعَ لَفيف مِن الوطنيين بتطوان للتّوجه صوبَ مدريد لعقْد لقاء مع رئيس الحكومة الإسبانية الجديد السيد زامورا. لتهنئته ولتقديم عريضة مَطالِب الشّمال لإسبانيا، وللسَّعْي في إضعاف علاقاته بفرنسا. وأكّد له في تلك المراسلة أنّ وطنيِّي المنطقة السلطانية سيُعزّزونَ هذه الخُطْوَةَ برسالة سياسية إلى رئاسة الحكومة الإسبانية، بما يُفيد وجودَ وعْي قويٍّ بقيمة الوحدة السياسية والإستراتيجية بين الوطنيين المغاربة.

وفي صيف 1933 حَلّ الأستاذ علال ضَيْفاً مُكرّما مُعزّزا على تطوان. فأُقيمَت على شرفه مائدة حضرها جمع غفير من الوطنيين المغاربة من تطوان والقصر الكبير والعرائش. زار خلال الزيارة جمعية الطالب المغربية الكائن مقرها في الطريق المؤدية إلى باب العُقلة التاريخي، ومنها توجه في رحلة قصيرة إلى سبتة، وقد دوّن عن هذه الزيارة في كتابه “الحركات الاستقلالية في المغرب العربي”.

تَمظهرات حضور علال في تطوان

أَدَّت روابط العلاقة الأخوية ووضوح المشتركات الوطنية والدينية والسياسية بين علال ورفقائه بتطوان؛ إلى تَوسيع طبيعة مُشاركة الرجل في أكثَر من واجِهة، خِدْمةً للأهداف الوطنية. فقد كَرّسَ علال حضورَه الوطني في شمال المغرب، وبالأخص مدينة تطوان، بمُساهماته العديدة بمقالاتٍ أدبية وثقافية وقصائد شِعرية في مجلة “السّلام” التي صدَرت تحت رئاسة الأستاذ محمد داود سنة 1933. وفي جريدة “الحياة” لسان حال حزب الإصلاح الوطني، حيث كان يَنشُر فيها مقالات سياسية قوية.

ولما اشتَدَّ وطيسُ المعركة بين الحماية الفرنسية والسّلطان محمد الخامس والحركة الوطنية. احتَضَنت جرائد “الأُمّة” و”الرّيف” و”الحرية” مقالات وتعليقات وحوارات للأستاذ علال الفاسي. وكانت اللّسان الذي مَرّرَ عَبْره معظَمَ مواقِفه مِن سياسات فرنسا في تلك المرحلة. وكانت تِلكم المقالات تَحظى بالقراءة ِمن لَدُن جمهور واسعٍ من النّاس في شمال المغرب ومن قِبَل السلطات الاستعمارية أيضا؛ لصُدُورها عن عالِـمٍ كان في طلائع المتصدِّين لحقِّ بلادنا وأمّتنا في حرية أبنائها وأراضيها ومِلكياتها وسيادتها وسُلطانها.

وتكشِف رسالة موجَهة من علال الفاسي إلى ممثل حزب الإصلاح الوطني بشمال المغرب محمد بنونة جوانبَ مهمة مِن مرحلة جِدّ حساسة في تاريخ المغرب (1953) كانت فرنسا تسعى فيها أنْ تَكسِر الوحدة الوطنية بالمغرب، وتَلْعَب بالتّناقضات بين مُكَوِّناتها، وأنْ تَدفع بفكرة عدم الحاجة للسلطان.[5]

وحينَ دَعَت القيادة العامة لجيش التحرير إلى ثورة أكتوبر 1954. انطلاقا من مَقر اجتماعها وانعقادها بمدينة تطوان، عاصمة المنطقة الخليفية؛ كان علال الفاسي أوّلَ زعيمٍ سياسيٍّ مَغربيٍّ يُسانِد معركة التحرير بإطلاق ندائه الشهير من القاهرة “قُضيَ الأمر”. مُعَضِّدا فيه الكفاح المسلّح انطلاقا من المدينة المجاهدة تطوان، والحواضن الجغرافية والسياسية لجيش التحرير في مرْموشة والناظور وتازة.

علاّل في تطوان بعد الاستقلال

امتدّت الصِّلة بتطوان وتوطّدت لغاية عهد الحرية والاستقلال. حيث حَلّ الأستاذ علال الفاسي ضيفا مُعَزّزا مُكرّما على المدينة تزامنا مع الزيارة السلطانية لمحمد الخامس إليها مُبشِّرا بالاستقلال عن الحامي الإسباني يوم 7 أبريل 1956. وشمِلَت زيارةُ علالٍ تنظيمَ أنشطة حزبية وفقرات تواصلية ومحاضرات علمية ودروساً في بعض المساجد. الأمر الذي دَفع بالوطنيين الذين اندمَجوا في حزب الاستقلال بعد حَل حزب الإصلاح؛ يُنظّمونَ للأستاذ علال الفاسي سلسلة محاضرات وأنشطة ثقافية في شهر رمضان[6] من كُل سنة بَعد الاستقلال.

المراجع
[1] انظر: (الفاسي) علال: "دفاعا عن وحدة البلاد"، مراجعة وتدقيق المختار باقة، منشورات مؤسسة علال الفاسي، الرباط، الطبعة الثانية، 2009.
[2] (الفاسي) علال: "الحرية"، منشورات مؤسسة علال الفاسي، سلسلة الجهاد الأكبر، رقم 14، عن مطبعة الرسالة بالرباط، الطبعة الأولى 1987.
[3] انظر: (الفاسي) علال: "حماية إسبانيا في مراكش من الوجهتين التاريخية والقانونية"، صدر في أول طبعاته عن دار الرسالة سنة 1948 بمصر، و(الفاسي) علال: "السياسة البربرية في مراكش؛ عناصرها ومظاهر تطبيعها"، صدر عن المطبعة العالمية بالقاهرة سنة 1952.
[4] انظر: (كرم) إدريس: "دَور الفقهاء في الحركة الوطنية من خلال رسائل إلى الفقيه عبد الله كنّون، مرحلة الحماية (1912-1956)"، منشورات مركز بلعربي العلوي للدراسات التاريخية، الطبعة الأولى، ربيع الثاني 1441 – دجنبر 2019.
[5] انظر: (الفاسي) علال: "رسائل تَشهَد على التاريخ" الجزء 2، إعداد ودارسة المختار باقة، منشورات مؤسسة علال الفاسي، الرباط، الطبعة الأولى 2024.
[6] انظر: جريدة "العلَم" بتاريخ 14 شتنبر 2010.