المحتويات
توطئة
للاطلاع على بعض من فكر بن بركة، وكي لا نقيد تصوراته ورؤاه وتلخيص فكره في نص الاختيار الثوري فقط، رغم الأهمية البالغة لهذا النص. ومن هذه الناحية يمكن الحديث عن نوع من النص العام بخصوص فكر المهدي بن بركة. وكما تجدر الإشارة إلى أن نصه هذا من النصوص التي تنطوي على خطاب متعين لا يتعارض والسياق المتحرك للقراءة. وعلى الرغم من المنحى السياسي الظاهر والأحادي لهذا الخطاب، وقد بدا للمؤلف أن يشدد، في هذه الدراسة، على “صور” أو “تمثلاث المثقف” في هذا الخطاب. ذلك المثقف الذي يعتقد في جدوى “السند السياسي” جنبا إلى جنب الاعتقاد في جدوى تسريب الخطاب من خلال أية قناة متاحة وبكثير من التألق والتأنق في الوقت ذاته. وكل ذلك في المدار الذي لا يجعل هذا المثقف يقف على الشاطئ بتعبير إدوارد سعيد، وفي المدار الذي لا يجعله يعتقد في جدوى الاستقرار على المخاطبة من خلال المنابر، واستخلاص دلالات هذا الخطاب وقف على الفكر القرائي الذي نتصور أن هذه الدراسة تسعى إلى الانتساب إليه. ( الكتاب ص 9/10)
تقديم الكاتب
يحيى بن الوليد ناقد ثقافي وباحث أكاديمي، وأستاذ التعليم العالي بالجامعة المغربية، من مواليد مدينة وجدة المغربية عام 1967. حاصل على دبلوم الدراسات العليا (1998) والدكتوراه (2002) من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. ومن إصداراته: التراث والقراءة دراسة في الخطاب النقدي عند جابر عصفوره (القاهرة، 1999)، و«الخطاب النقدي المعاصر بالمغرب (القاهرة، 2003)، و«شعر الرؤية» (الرباط، 2005)، و”الكتابة والهويات القاتلة” (الرباط، 2007، والأردن، 2008)، و«الوعي المحلق؛ إدوارد سعيد وحال العرب» (القاهرة، 2010)، و«سلطان التراث وفتنة القراءة» (الأردن، 2010)، و”هدأة العقل النقدي” (ليبيا، 2010)، و”تدمير النسق الكولونيالي (المغرب، 2012)، و «عمل المؤرخ عبد الله العروي والتحليل الثقافي”.
مضامين الكتاب
صدر كتاب “صورة المثقف قراءة في الفكر السياسي عند المهدي بن بركة” ليحيى بن الوليد ضمن سلسلة دفاتر وجهة نظر عدد 27 سنة 2012م، ويقع في 120 صفحة، ينتظم في إطار مما حرص المؤلف على نعته ب”فكر المهدي بن بركة“، وكل ذلك في المنظور الذي يصل الفكر، وعبر إواليات “التأثر المتبادلة”، بالواقع، لكن دون تلخيصه في “الفكر السياسي” فقط وعلى نحو ما يفعل البعض. في الخلفية الثقافية، تبدو جلية في دراسته ولا من ناحية التشديد على “خطاب المثقف” في هذا الفكر فحسب، بل وأيضا من ناحية إفادته وعلى صعيد القراءة ذاتها من التحليل الثقافي بمعناه المرن والمدعم ببعض مفاهيم و”نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي”، وفي مقدمها مفهوم أو مقولة «صور» أو تمثلات المثقف» سالفة الذكر التي هي في الأصل عنوان أحد كتب الأكاديمي الأمريكي والكاتب الفلسطيني الأبرز والأشهر إدوارد سعيد (1935 ـ 2003) الذي كان وراء تدشين هذا الحقل الأكاديمي المغاير الذي يستجيب لأبناء العالم الثالث. وكما أن التشديد على مرتكز ” الفكر” في خطاب المهدي بن بركة هو ما جعل الكاتب يصل هذا الخطاب بالحاضر، لكن من خارج دائرة استعمال هذا الفكر أو تأويله بشكل متعسف. (الكتاب ص 10)
يتضمن الكتاب دراستين مطولتين سعى المؤلف في أولاهما إلى استخلاص دلالات المثقف في فكر المهدي بن بركة، وذلك من خلال تتبع تمظهرات “المثقف الوطني” المهموم بـ «التنمية» باعتبارها “قضية سياسية” لا “قضية فنية” أو “سياحية”، وكل ذلك قبل إن يتحول هذا المثقف إلى الاهتمام بالقضايا “الثالثية” وفي مقدمها التصدي للإمبريالية في أوج انتشارها. وبما أنه يسعى في الدراسة إلى التعبير عن وجهة نظره فإن أهم ما توصل إليه أن أهمية فكر الرجل كامنة في هذا المستوى بالذات الذي هو مستوى أو “درس المثقف” الذي يعتقد في “جدوى المواجهة” لا “لوثة المخايلة “.
أما الدراسة الثانية فسعى فيها إلى مقاربة ثلاث قراءات لفكر المهدي بن بركة وهي لثلاثة أسماء فكرية وازنة بالمغرب ويغني استحضارها عن توصيفها. ويقصد، هنا إلى كل من: عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري والمهدي المنجرة. قراءات متفاوتة، غير أنها جديرة بالتأكيد على قابلية إثراء فكر المهدي بن بركة عن طريق “مرتكز النقد”، وبما في ذلك “النقد الحاد” كما في حال قراءة العروي، وعن طريق الاحتكام لـ “النصوص” وفي المدار الذي لا يفارق “تداخل التأريخ بالتأويل” كما في حال قراءة الجابري، وعن طريق “استشراف المستقبل” كما في حال شهادة المنجرة.
غير أنه بدا له أن يذيل الدراسة الثانية، والكتاب بصفة عامة، بملحق هو في شكل “نصوص مختارة”. وقد حرص على أن تجاور، هنا، ومن خلال النصوص ذاتها، ما بين محمد عابد الجابري وعبد الله العروي والمهدي بن بركة نفسه… حتى يفسح مجال الوعي للقارئ بطبيعة بعض النصوص التي مارست تأثيرا ولا سيما في الدراسة الثانية. وكما أن هذه النصوص، وغيرها، ومن ناحية فعل الاختيار ذاته، جديرة بالتأكيد على ما يصطلح عليه في الفكر الفلسفي المعاصر، والدراسات التأويلية تعيينا، ب”التفكير بالنصوص”.
وفي ظل مثل الواقع التسلطي الفولاذي، المرئي وغير المرئي، والناجم عن الحضور الكثيف للدولة، والذي عايشه، بن بركة، لا يملك المثقف، النبيل، وهو الذي لا يمللك أي سلاح من غير سلاح الفكر، إلا أن يجابه، وبصرامة وإلحاح، ودونما أي تقدير للمخاطر، المؤكدة، التي تعترض طريقه وإلى ذلك الحد الذي كان يبلغ التصفية الجسدية، وخصوصا في تلك الفترة العصيبة في تاريخ المغرب السياسي الحديث التي كان فيها الجنرال محمد أوفقير (1920-1972)، وفي واقعة من الوقائع الدالة على القمع اللاهب، ينزع الأضراس للناشطين السياسيين وهم مشدودين من أرجلهم إلى السقف. غير أن هذا السجن الخانق، ومن حيث هو سجن بقضبان وبلا قضبان، لم يمنع المثقف النبيل، وقتذاك، من التأكيد على حضوره المضاد… ذلك الحضور الذي هو قرين إعلان هذا الأخير، وبصوت المؤذن كما يقال، تصوراته بخصوص أداء الدولة والمهام المنوطة بمؤسساتها .
خلاصة
يتصور المؤلف أن مطلب المثقف النبيل والملتزم وغير المهادن والمحاذي للألغام… ما يزال واردا وقائما حتى أيامنا. أجل لقد وقعت تغيرات عديدة، في التصور والمعجم، غير أنها لم تحدث «شروخا» في بنيان الدولة. بكلام جامع، لا يزال المغرب في «النفق» ذاته الذي قاتل البعض من أجل الخروج منه. وفي هذا السياق يمكن فهم خطاب المهدي بن بركة (1920-1965) الذي ما يزال ينطوي على أفكار ثاقبة تمس، وفي الصميم، المغرب الراهن حتى وإن كان الرجل لم يخلف سوى نصوص معدودة ومحكومة بمناسبات محددة وفي شكل عروض ومداخلات وحوارات… إلخ. وحتى إن كنا لا نعدم كتابات أخرى في عهد المهدي بن بركة فإن هذه الأخيرة تظل حبيسة فترتها، عكس كتابات هذا الأخير التي تمتد، وبشكل من الأشكال، إلى فترتنا بل وتخاطبها وفي وضوح تام. وليس غريبا أن نقرأ عن مجلات ” فكرية وسياسية: تعيد، من حين لآخر، نشر بعض كتاباته في دلالة على فكره الذي ما يزال قابلا لـ«التحيين» و«الترهين» في ظل “الحال المغربي الذي لم يتغير” .
ولتسليط مزيد من الضوء على شخصية المهدي بن بركة وفكره لن نجد أحسن من محاميه “موريس بوتان”، والذي ألف كتاب بعنوان ”الحسن الثاني، دوكول وبن بركة، ما أعرفه عنهم”، كما نقلت مقتطفات منه مجلة وجهة نظر، حيث يقول: “وفي كل فترة كنت أظل مشدوها أمام توقد ذهنه وحصافة أقواله ونشاطه الفياض وتحليله النقدي للوضعية الراهنة، وكلامه المتحرر وانفتاحه وقابليته للتحاور وللإنصات وحضوره. وأفهم أكثر لماذا استطاع اجتياز امتحانات الباكلوريا بنجاح في تلك الفترة في ثانوية مولاي يوسف وبعده في ثانوية غورو بالرباط بميزة حسن جدا مع تنويه من اللجنة رغم أنه لم يكن متسلحا بامتياز الأصول الفرنسية في عهد الحماية. وأفهم أيضا أكثر لماذا كان يعتبر في نظر مسؤولي تلك الفترة والمقيم العام عدو فرنسا الأول قبل أن يصبح كذلك بالنسبة إلى الحسن الثاني”.