توطئة

المقرئ أبو زيد الإدريسي، ليس بدعا في عالم السياسة، ولا يقتصر عمله على الجانب النظري، بل تجازوه إلى الممارسة الميدانية من خلال انخراطه فيها من بوابة البرلمان المغربي، بعد التجربة الوحدوية بين مكونين من الحركة الإسلامية بالمغرب سنة 1996م، والتي أنتجت مولودا جديدا حمل اسم حركة التوحيد والإصلاح، واحتضان الدكتور عبد الكريم الخطيب للفاعل الإسلامي والوافد الجديد، وتسليمه مفاتيح حزب الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية الذي عرف بحزب العدالة والتنمية. بمجهود كبير أصل المقرئ للعديد من المفاهيم السياسية، وانخرط في فعل المراجعات الفكرية والسياسية. وساعده في هذا المشروع السياسي امتلاكه لرصيد لغوي ولساني بحكم تخصصه في مجال اللسانيات، عضده بحقول معرفية اجتماعية وسياسية. أضاف إليه اطلاعه الواسع على تجارب العمل السياسي بالعديد من الدول قراءة ومتابعة وبحثا.

يأتي كتابه “الدين  والعلمانية ” ضمن سلسلة قضايا سياسية الجزء الثالث، بعد جزأين، واحد الجزء الأول منهما سنة 2000م، تناول زوايا ثلاث؛ الأولى همت تناول الفكر السياسي للحركات الإسلامية بالمدارسة والنقد والتشريح المعرفي الدقيق، والثاني، مارس فعل التفكيك والنقد من موقعين، موقع المفكر الممسك بعدد من آليات التحليل المتعارف عليها في حقول معرفية مختلفة، ثم موقع الفاعل الحركي، الذي ألزم نفسه منذ زمن بعيد بارتداء جبة الناقد المرشد الجريء الذي لا تنمطه الرؤى السائدة.  أما الزاوية الثالثة، فتظهر من خلال تأثيره في مسار التأصيل للأفكار السياسية الجديدة داخل الحركة الإسلامية. وهو ما يجعل كتابه، محور جذب مهم من شرائح واسعة من النخب التي تراقب فكر الحركة الإسلامية، بل وشرائح واسعة من النخب الحركية التي تعيش توترات فكرية وسياسية من جراء التحولات التي تعرفها الحركات الإسلامية في العالم. وقد جمع في هذا الكتاب كثيرا من الإشكالات السياسية والحقوقية التي اضطرب فيها فكر الإسلاميين.

أما الجزء الثاني من “قضايا سياسية” فصدر سنة 2022م، جمع فيه المقرئ حواراته بعنوان “حوارات لبناء الوعي”، وضمنها هذه الباكورة الفكرية، التي حاولت أن تغطي مساهماته ومشاركته التحليلية لعدد من الأحداث الاستراتيجية التي عرفتها الأمة، وذلك لما يزيد على عقد من الزمن (ما بين 2000 و 2013) في موضوعات مختلفة، يربطها رابط واحد، هو ما يشكل البوصلة الاستراتيجية التي توجه المقرئ أبو زيد في نظرته إلى الأحداث الكبرى، والاستهدافات التي واجهتها الأمة الإسلامية في مختلف تمظهراتها العسكرية والسياسية والثقافية والفكرية والقيمية الحضارية.

تقديم المؤلِّف

ولد أبو زيد المقرئ الإدريسي يوم 19 سبتمبر/أيلول 1960 بمدينة مراكش المغربية لأسرة لها حضور علمي وشغف كبير بتعليم القرآن الكريم ودراسة العلوم الشرعية.حاز سنة 1978 على شهادة البكالوريا في الآداب العصرية، بعد ذلك انتقل إلى جامعة محمد الخامس بالعاصمة الرباط، ومنها حصل على الإجازة في الأدب العربي عام 1982، وفي سنة 1984 نال دبلوم الدراسات الجامعية العليا في تخصص اللسانيات، شغل منصب أستاذ مساعد في شعبة الدراسات الإسلامية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وأسند إليه تدريس فقه اللغة وعلوم القرآن واللسانيات. كما عمل أستاذا في شعبة اللغة العربية (تخصص اللسانيات) بكلية الآداب بنمسيك في الدار البيضاء. وفي العام 1996 اختير عضوا في رابطة الأدب الإسلامي العالمية التي تعنى بالأعمال الفكرية والأدبية لأدباء الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وفي عام 2004 أصبح عضوا في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

كان الإدريسي من أوائل الإسلاميين الذين خاضوا غمار العمل السياسي، فقد ترشح للانتخابات التشريعية في المغرب عام 1994 عن حزب الشورى والاستقلال في مدينة وجدة، لكنه لم ينجح آنذاك في الحصول على مقعد في البرلمان، وفي الانتخابات التشريعية التي أجريت عام 1997 انتخب نائبا برلمانيا عن حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية (حزب العدالة والتنمية فيما بعد). ومنذ ذلك التاريخ كان يعاد انتخاب الإدريسي نائبا في البرلمان المغربي إلى نهاية 2021.

ومن مؤلفاته، القرآن والعقل (جزءان)، وهو رحلة ينادي من خلالها إلى التدبر والتفكير العميق في معاني القرآن الكريم، معضلة العنف.. رؤية إسلامية، الغلو في الدين.. المظاهر والأسباب، عموم الرحمة وعالمية الإسلام، فلسطين وصراع الإرادات، الشراكة والمشاركة السياسية في الوطن العربي، الطائفية وتفكيك الأمة، حروف المعاني في اللغة العربية، أفهم القضية الفلسطينية ليكون لي موقف، الخطاب الدعوي، قضايا سياسية في 3 أجزاء…..

مضامين الكتاب

إن الموضوع الذي تناوله المقرئ من المواضيع الشائكة، لما فيه من وجهات النظر المختلفة، والجدل والاستقطاب الحاد في الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر،وصل إلى حد الصراع الشرس بين التيارات السياسية في تجارب الربيع الديمقراطي المجهض. فلم يكتف المفكر الموسوعي بتحليل الأبعاد الفكرية والحضارية لكلا النموذجين وتشخيص أعطابهما المنهجية، بل أضاف إليهما المنهج المقارن في دراسة الخبرة السياسية الحضارية وأشكال التنظيم السياسي وتحليل تجارب العلمانية المتعددة في الحالة الغربية. (الكتاب ص 5- 6).

تضمن الكتاب بعد التقديم خمسة فصول، الفصل الأول عنونه ب: الإسلاميون والعلمانيون: في الموقف من الديموقراطية وقبول الاختلاف، الفصل الثاني: العلماء والحكام: جدل الاتصال والانفصال، الفصل الثالث: الدين والتدين في التصور الإسلامي، الفصل الرابع: التجربة العلمانية في الحالة الأمريكية، الفصل الخامس: الدين والسياسة والدولة المدنية.

يعد هذا العمل حسب الدكتور سلمان بونعمان، ثمرة تفكير عميق في المسألة العلمانية في علاقتها بقضايا الدين والسياسة والدولة، وفق رؤية تركيبية جمعت بين استيعاب الخلفيات الفلسفية والحضارية التي أطرت النموذج السياسي الغربي، وبين إدراك . خصوصیات البناء الفكري والأخلاقي الذي قدمه النموذج السياسي الإسلامي في فهم المسألة السياسية، كما يرصد الأسس التصورية والمنهجية التي حكمت العلاقة بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، والتفاعل المركب بين وظيفة العلماء ورهانات الأمراء في التجربة الإسلامية، محاولا فك الالتباس الحاصل في هذه العلاقة باعتبارها جوهر التفاعل الخلاق الذي حصل بين الإسلام والسياسة والحكم.(الكتاب ص 6)

إن إسهام المفكر الإسلامي في تقديم رؤية جديدة للتفاهم بين الإسلاميين والعلمانيين، تنحاز إلى الديمقراطية وضرورة التمييز بين النسبي والمطلق في الرؤية الإسلامية لمسألة الحكم والسياسة وتعدد العلمانيات، قد يؤدي إلى تبديد المخاوف حول إمكان قيام دولة ثيوقراطية شمولية ونسق سياسي مغلق، ويُخصب المجال العربي بفكر سياسي جديد وممارسة راشدة.

خاتمة

ستظل كتابات المفكر الإدريسي مرجعا لا غنى عنه للباحثين المشتغلين بمسار التطور الفكري للحركة الإسلامية بالمغرب، وللمهتمين برصد الكسب السياسي والتصوري للمدرسة الإصلاحية المغربية وتحليل مخرجاتها وتقييم مآلاتها، فالإدريسي – دون مبالغة – يعد رائدا من رواد مدرسة إعادة تشكيل العقل المسلم المعاصر، كما أن جهوده الفكرية ومساجلاته النقدية للعلمانية مفهوما ومسارا ونموذجا، تؤكد بروز معالم خطاب إسلامي جديد مستوعب للأدبيات العلمانية وسياق تشكلها ومآزقها النظرية والعملية، ناهيك عن وعي تحيزاتها الحضارية وأزماتها الأخلاقية ومواقفها من التدين الإسلامي.(الكتاب ص 10)