المحتويات
تحناوت.. دلالة الإسم
لم نعثر على معنى هذا اللفظ في لغة المصامدة، كما لم نهتد إلى تأويل مقبول له، والذاكرة المحلية هي الأخرى عاجزة تماما على ربطه باسم حيوان أو نبات أو شخص… أو واقعة تاريخية ما… أو معنى جيولوجي. كما أن الأخذ بمنهجية التحليل الطوبونومي للوصول إلى معنى هذا اللفظ في اللغة المحلية لم يفدنا في شيء لكونه لا يقبل التفكيك. لا شك أن تحريفا عميقا لحق رسم هذا الاسم مع طول الزمن أفقده معناه. من السهل افتراض أنه تحريف لكلمة تاحنوت الأمازيغية، أي الدكان أو ما شابهه، لتكون الإسمين من الحروف نفسها وتشابه رسميهما. هذا ما تغرينا به حاسة السمع منذ الوهلة الأولى من سماعه، دون أن يكلفنا جهد التفكير، لكن من الصعب جدا التدليل على صحته بالأدلة القاطعة. لابد من التأكيد كذلك أن الاسم ليس لأحد بطون قبيلة هنتاتة الكبرى التي استوطنت وادي غيغاية طيلة العصر الوسيط. فأسماء تلك البطون مضبوطة لدى أبي بكر الصنهاجي الملقب بالبيدق مدون أحداث بداية تأسيس الدولة الموحدية، اليد اليمنى لمحمد بن تومرت الداهية، والمرافق له في الحل والترحال[1]. فما هو التأويل الممكن إذن لمفردة تحناوت؟ لا نستطيع أن نقطع برأي في الموضوع. من الأحسن والحال هذا، تجنب الدخول في متاهات التأويلات المغرضة التي تضر بالبحث التاريخي كثيرا. فاللفظ مستعصي على التفكيك وسيبقى كذلك، شأنه شأن كثير من أسماء المدن والمداشر وأسماء القبائل المغربية. ما يروج حول بعضها من تفسيرات يبقى مجرد اجتهادات ليس إلا، صدرت عن باحثين أجانب ومغاربة[2]. تناقلتها الأقلام فيما بينها دون أن تحظى منها بالمراجعة اللازمة، رواها اللاحق عن السابق دون تدقيق، فتسلل الخطأ إلى إصدارات الباحثين بشكل يبعث على القلق. ولتصحيحها لابد من الاهتمام باللهجات المحلية بحثا ودراسة، وهذا من مهام الجامعات والمعاهد بتخصصات مختلفة، لا يستطيعه المؤرخ وحده، وهو ما نبه إليه عبد الله العروي لما كان بصدد توجيه ضربات نقدية للكتابات الاستعمارية حول تاريخ المغرب [3].
تحناوت في متون المصادر
أما تاريخ ورود إسم تحناوت لدى الإخباريين والجغرافيين فيطرح بدوره على الباحث صعوبة كبيرة، أصلها ندرة إن لم نقل، الغياب التام للمادة المصدرية الضرورية للوصول إلى ذلك. ولا ننسى أننا بصدد التأريخ للهامش الذي لا تاريخ له، لنقل لا تأليف حوله توخيا التدقيق. لهذا السبب يعتبر البحث في التاريخ المحلي بشكل عام مغامرة بحثية حقيقية. ورغم ذلك، فلا محيد لنا عن تشجيعه إذا أردنا تصحيح ما اعترى مصادر ومراجع تاريخ المغرب في مختلف عصوره من أخطاء. وما نلاحظه في السنوات الأخيرة من إقبال الباحثين على انجاز الدراسات المحلية يبعث على التفاؤل[4].
سنبحت عن تاريخ بداية تداول التسمية في مؤلفات المؤرخين والجغرافيين، ومتى صادفناه علمنا أن الأمر يتعلق بتجمع سكاني محدود العدد، لأن القول بحداثة تكون المدينة لا يحتاج إلى أدلة، في حين لا نناقش قدم تسمية الموضع الذي سيتم تعميره فيما بعد. وكإجراء منهجي، لابد من تحديد الموقع الجغرافي لتحناوت في البلاد المراكشية (مراكش ومحيطها الواسع). فهي تقع على بعد ثلاثين كلم من مدينة مراكش التاريخية وإلى الجنوب منها على الطريق الرابط بينها ومدينة تارودانت، في وسط طبيعي يعرف في القاموس الجغرافي بالدير، عند قدم جبال الأطلس الكبير.
تؤكد أقدم القرائن المتوفرة لدينا أن تحناوت كتجمع سكاني، يثير الانتباه أو الاهتمام، لا وجود له بقدم الأطلس الكبير الغربي طيلة العصرين الوسيط والحديث. لنبدأ مع البكري الذي عاش خلال القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي. فقد حصر عدد مدن المنطقة في ثلاث مدن لا أكثر، وهي: أغمات، نفيس وأفيفن[5]. عن هذا الجغرافي الأندلسي الأصل والنشأة أخذ كل من الشريف الإدريسي وصاحب “كتاب الاستبصار” معلوماتهم حول المنطقة دون إضافات بقيمة تذكر.
وإذا كان حدث تأسيس الدولة الموحدية قد أخرج قبائل الأطلس الكبير عموما وكذا مناطقه إلى ضوء التاريخ بفعل ما تزخر به المصادر التاريخية لهذه الدولة من معلومات حول المنطقة أرضا وبشرا، فإن سكوتها عن تحناوت كمحطة استراحة التجار أو كموضع لمعركة ما بين المرابطين والموحدين يقوم دليلا قاطعا على عدم وجودها في خريطة المنطقة كمدشر على الأقل إلى ذلك العصر، أي القرنين السادس والسابع الهجري/الثاني عشر والثالث عشر الميلادي، رغم كون منطقة الدير التي تقع فيها تحناوت، حلبة حقيقية للصراع المرابطي الموحدي، وموقع تحناوت هو نقطة عبور إلى تينمل معقل الدولة الموحدية عند تأسيسها. وما يجب التذكير به هو كون المحيط القريب لموقع تحناوت قديم التعمير والمداشر، وفيه أثر العمران الموحدي حسب ما أفادتنا به الرواية المحلية.
قرنا بعد ذلك تقريبا، زار لسان الدين بن الخطيب عامر الهنتاتي في معقله بالجبل، واصفا طريقه إلى هناك، ذاكرا ثرواته النباتية والحيوانية ولم يذكر بدوره تحناوت[6]. هذه الملاحظة تصدق كذلك على كل من: الحسن الوزان (توفي 1550م) صاحب كتاب “وصف إفريقيا” وعلى عبد الله التاسافتي مؤلف “كتاب رحلة الوافد” الذي كان حيا خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر الميلادي، فالأول تحدث عن هجمات الأعراب على مدن وقرى السفح الشمالي للاطلس الكبير الغربي دون أن يذكر ضمنها تحناوت، خاصة وأنه تناول بالوصف مدينة تينمل وجبل هنتاتة الذي توجد تحناوت عند قدمه، كما وصف أمزميز بكونها “مدينة متوسطة الكبر”. أما الثاني فقد قدم معلومات قيمة عن وادي نفيس خاصة والمنافد المؤدية إليه انطلاقا من مراكش، ضمنه منفذ وادي غيغاية، غير أنه لم يشر هو الآخر إلى موقع تحناوت.
علينا انتظار بداية القرن العشرين، وبالضبط تاريخ 4 مايو 1901، حيث حط الإثنوغرافي الفرنسي إدمون دوتي رحله بالمنطقة، فنقرأ له هذه الجملة: “في السادسة صباحا (من اليوم المذكور) تركنا مخيمنا الذي اتخذناه لنا في تحناوت…”[7]. والذي يثير الانتباه في الموضوع أن الصورة التي وضعها دوتي لمحطة رحلته هذه هي لمدشر أزرو وليست لتحناوت؟ ، وهذا يقبل عدة احتمالات منها:
- أن يكون موقع تحناوت هو المعروف لدى الدوائر الاستعمارية الفرنسية التي سيقدم إليها دوتي منتوجه، وهي بصدد التهيؤ لفرض حمايتها على المغرب.
- أن يكون أدلائه لا يميزون بين أزرو و تحناوت، لكونهم أغراب عن المنطقة.
- أن يكون اسم تحناوت منذ ذلك العهد هو الغالب على كل مداشر المنطقة كما هو الحال في يومنا هذا، حيث علا اسمها على أسماء باقي التجمعات السكانية المحيطة بها كتلات مارغن، سيدي محمد أوفارس، اغواطيم… وهذا ما يعكس أهميتها كمركز محلي متميز عن المداشر المذكورة، و يؤكد هذا الافتراض اتخاذها من طرف اليهود مقرا لسكناهم.
وإذا كنا لا نتوفر من الشواهد على ما يجعلنا نرجح هذا الاحتمال عن ذاك، فإن إشارة دوتي لتحناوت في التاريخ المذكور يدل على تكونها كمدشر قبل القرن العشرين لكن في حدود بداية القرن التاسع عشر، لعدم ورود ذكره في رحلة الوافد وصاحبها من أهل القرن الثامن عشر كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ساهمت الهجرة في تكونه، وهذا ما يدل عليه تعدد أصول ساكنته.
خاتمة
سقنا مجموعة من القرائن تؤكد أن تحناوت كمدينة صغيرة حديثة التكون، والواقع أن ذلك ارتبط بحدثين أساسيين كلاهما يعودان إلى العقد الأخير من القرن العشرين، ويتعلق الأمر باكتشاف المعدن بكماسة، ثم اختيارها كمقر لعمالة إقليم الحوز سنة 1991. ومن الملاحظ أن الحدث الأول خاصة أنه رافقه توافد عدد من المهاجرين من وراء سلسلة جبال الأطلس الكبير على المنطقة. والظاهرة تذكرنا إلى حد ما بالتدافع القبلي من الجنوب نحو الشمال الذي تكرر في مناسبات معينة في تاريخ المغرب، محاصرة جوانبه.
يعوق الارتقاء بتحناوت إلى مصاف المدن بالمعنى الواسع للكلمة إكراهات طبيعية (توالي سنوات الجفاف) وأخرى مرتبطة بتدبير مواردها، إضافة إلى عطالة أبنائها، كما أن قربها من مدينة مراكش ينتصب عائقا حقيقيا أمام تطورها بالشكل الذي ساهمت به هذه المدينة في أفول نجم مدينة أغمات بعد تأسيسها من طرف المرابطين في بسيط الحوز.
المراجع
[1] البيدق ( أبو بكر الصنهاجي)- المقتبس من كتاب الأنساب لمعرفة الأصحاب – تحقيق عبد الوهاب بن منصور - دار المنصور للطباعة و الوراقة.[2] أنظر مثلا: Laoust émile, Contribution à une Etude de la Toponymie du Haut Atlas, Paris, 1942, - "الاسم الجغرافي: تراث وتواصل"(Le nom géographique : patrimoine et communication)، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي ; مديرية المحافظة العقارية و الأشغال الطبوغرافية، 1994.
[3] العروي عبد الله، مجمل تاريخ المغرب، المركز الثقافي العربي، الجزء الأول.
[4] أنظر مثلا: التوفيق أحمد، المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 1976 - المختار السوسي، المعسول ـ إيليغ قديما وحديثا ـ خلال جزولة.
[5] أبوعبيد الله البكري: المغرب في ذكر بلاد افريقية والمغرب.
[6] لسان الدين بن الخطيب، نفاضة الجراب في علالة الاغتراب.
[7] إدموند دوتي، مهام في المغرب من خلال القبائل، ترجمة وتعليق وتحقيق عبد الرحيم حزل، منشورات دار الأمان، الرباط، 2015.