توطئة

منذ قرون، تشكّلت روابط إنسانية وثقافية وتجارية ثم دينية وأخوية بين المغرب الأقصى وإفريقيا، دُولاً وحضاراتٍ وإماراتٍ وكياناتٍ سياسية، وتأصَّلت وعَزّزت الروابط بينه وبين عُمقه الإفريقي حتى أضحى بحقٍّ شجرةً عظيمة عريقة، جذورها في إفريقيا، وأغصانها تُورِق في البحر الأبيض الـمتوسِّط.

واصَل المغرب على عهد العلويين مسيرةَ أسْلافه من الدول المغربية الـعُظمى التي كانت لها علاقات وصِلاتٍ بكثير من دُول إفريقيا، ووطَّد لطبيعة علاقة قائمة على التعاون والـمُسانَدة الـمتبادَلة في القرن العشرين، وأساسا بعد أن حازَ المغرب على استِقلاله، ورأى تشوُّفَ الأفارقة لقيمة الحرية والتحرر، فما كان منه إلا أنْ بَادَر لِدَعْم مَسْعاهم في الاستقلال، وكانت سنوات الـخَمسينات والسِّتينات علَامة فارِقة وصادِقة على وَشيجِ العلاقات التي تَربط المغرب بالبلدان الإفريقية، بِـيضِها وسُودِها.

أَوْجُه الدعم المغربي للكفاح الإفريقي

منذ عودة السلطان محمد الخامس إلى المغرب، وإلقائِه خطاب العرش لسنة 1955؛ حدَّد الخطوط العريضة للنظام السياسي للمملكة، والذي شـمِلَ التأكيد على الانتماء الإسلامي والعربي والإفريقي[1]. وفي هذا السياق احتَضَن المغرب على أراضيه الحكومة الجزائرية المؤقَّتة التي كان يرأسها المناضل فرحات عبّاس، ووضَع إمكانياته رهْن إشارة الأمم المتّحدة لحلِّ النزاع في الكونغو، ونَظَّمَ المؤتمرَ الإفريقيَّ بالدار البيضاء ما بين 3 – 6 يناير 1961[2]، شارك فيه جمال عبد الناصر عن مصر، وقْـوامِي نكْروما عن غانا، وموديبوكايتا عن مالي، وسِيكا توري عن غينيا، وفرحات عباس عن الحكومة المؤقتة للجزائر الثورية. ومِن أهمّ التوصيات والقرارات التي أعْقَبت تنظيم مؤتمر الدار البيضاء لدَعْم الدول الإفريقية التقدمية؛ تكوين “لجنة التنسيق لتحرير إفريقيا”، أُسنِدت إليها مهمة تنسيق الـمَعونات لحركات التحرير.

وفي المرحلة التي تَلَت اندلاع معارك جيش التحرير بالمغرب ومعارك جبهة التحرير الوطني بالجزائر؛ قام المغرب بتخصيص مَركَزٍ لصناعة الأسلحة وتخزينها لفائدة قادَة جبهة التّحرير الجزائرية، وكان مقرّه بمدينة الخميسات “حيث كانت هذه الورشة عبارة عن مَصنع تحت الأرض حتى لا تُكتَشَف من طرف عُيون الفرنسيين”.[3]وحِين التّحضيرِ لانطلاق الثورة الجزائرية؛ استقَرَّ بعض مسؤولي جبهة التحرير الوطني الجزائرية بمدينة الناظور[4] منذ مارس 1955 لتَلقّي الأسلحة عبر البواخر[5] ونقْلها إلى الجزائر.

وفي فبراير من سنة 1957 استقرّت قيادة الولاية الخامسة لجيش التحرير الجزائري بمدينة وجدة، كما سلّم المغرب جوازيْ سفَر مغربيين استخدمهما محمد بن بلة في تنقّلاته إلى الخارج. فيما احتضَنَت مدينة طنجة الندوة المغاربية الهامة التي حضَرتها قيادات حزب الاستقلال المغربي، وحزب الدستور الجديد التونسي، وجبهة التحرير الجزائرية، فيما بين 27 و30 أبريل 1958.

وفي إطار التعاون المشترك؛ شارَك المغرب بكثافة في فعاليات “مؤتمر الشُّعوب الإفريقية” الذي احتضنته غانا في دجنبر 1958، من خلال أحزابه السياسية ونقاباته العُمالية وشخصياته البارزة، وعلى رأسها الأستاذ المهدي بن بركة.

الإمداد المُتواصل والإسناد الكامل

تميّزت مرحلة حُكم الملك الحسن الثاني بكثافة التواصل والتكامل والتعاون بين المغرب والدول الإفريقية المتحررة وتلك التي كانت على طريق الاستقلال، وبقِيَ المغرب وفِيا لعهوده وعلاقاته وصِلاته بالزعامات الإفريقية التحررية، سواء تلك التي قُدِّرَ لها الوفاة على أيدي الاحتلال الأجنبي أو عملائه في الداخل، أو تلك التي واَصلت مِشوار العمل السياسي والدبلوماسي والقيادي لِدُوَلها إلى حينٍ مِن الزمن. ويَرصد الباحث لحقبة الستينات والسبعينات أساساً تمظهراتٍ عِدَّة للتعاون والدعم والاحتضان الكامل الذي أَبَان عنه المغرب تُجاه الأفارقة، من ذلك: مبادَرة الملك الحسن الثاني شهوراً قلائل بعد تسلُّمِه الحُكم؛ إلى تأسيس وزارة جديدة باسم “وزارة الشؤون الإفريقية”، أُسنِدت إلى الشخصية السياسية البارزة التي كان لها باعٌ طويل في المقاومة المسلحة وفي دعم حركات التحرر الإفريقي، المقاوم عبد الكريم الـخطيب (تــ 2008).

وأعطى الملكُ أوامره بتخصيص إقامة دائمة لقادة حركات التّحرر الإفريقية في العاصمة الرباط، وألقى كلمة في الحفل الافتتاحي للإقامة التي كان مقرُّها خلْفَ فندق “باليما الشهير وسط شارع محمد الخامس بالرباط، جاء فيها: “إنّ المملكة المغربية لَـتَسْعَد بتخصيص هذه الإقامة لحركاتكم التحريرية مجتمِعةً، لِتَمْكِينِكم من القيام بمسؤولياتكم ومهامكم بكل حرية، للانتصار لقضاياكم المشروعة، وآمل أن تُصبِح هذه الإقامة _ عندما تحقِّقون استِقلالكم _ مقرا لسفاراتكم”،[6] نقلا عن شهادة المناضل الثوري دو سانطوس.

أضْحى المغرب قاعدة خلفية رسمية للشّباب من مختلف الدول الإفريقية، الذين كانوا يَـخْضَعُـون للتّدريب والتّـأطير العسكري والتّكوين النّـضالي في مراكز متعدّدة (حوالي 2160 شاب)[7]، بإشراف من القوات المسلحة الملكية، في مدة ناهزت 380 يوماً، أبرزها مركز باب بودير نواحي مدينة تازة ومركز مدينة بركان.

استَـقْبَل المغرب في سنة 1962 مُوفَدَ حزب “المؤتمر الوطني الإفريقي” بجنوب إفريقيا، ممثِّــلا للقائد نيلسون مانديلا (تــ 2013)، وزَوَّده بما يَلزم من الدّعم اللوجيستي والمالي لدعْم حركة التحرر.

وعمِل أيضاً على ترتيب لقاء تاريخي في مدينة وجدة بين قيادة وفْـد المؤتمر الوطني الجنوب إفريقي ومنظمة التحرير الجزائرية[8]، حضره نيلسون مانديلا وريشا ورئيس القسم السياسي لجيش التحرير الوطني. وفي منطقة الزّغــنْـغن التابعة إداريا لمدينة الناظور حاليا؛ تَلَقّى الزعيم نيلسون مانديلا تدريبا عسكريا على التعامل مع الأسلحة وكيفية استعمالها، حسب شهادة ليندي روفوسراديبي.

واحتضنت المملكة المغربية الزعيمَ الأنكولي نيتو أوجستينو وأسرتَه، ووفّرت لهم اللجوء السياسي بَعد فرارهم من الاعتقال في البرتغال سنة 1962. ومن مُستقرِّه _ لاحقاً _ بمدينة طنجة، نَسَّق وقاد الزعيم الأنغولي نيتو أعمال الحركة التحريرية الأنغولية “إمبيلا”.

وفي مدينة الدار البيضاء نظَّم المغربُ اللقاءَ الهام الذي أفْرَز تأسيس مؤتمر المنظّمات القومية للمستعمرات البرتغالية.

ثمّ تواصَلت هذه الجهود وتعزَّزت طيلة عقد الستينات،بانعِقادِ اجتماعات الطَّلبة الموزنبيقيين ضِمْن إطار “مؤتمر منظمات الحركات القومية للمستعمرات البرتغالية” في الرباط، أطّر أغلبيتها الزعيم أكينو دي باراغانسا الكاتب الخاص للأستاذ المهدي بن بركة. وأَحْدَثت مجموعة من الدّول الإفريقية الخاضعة آنذاك للاحتلال البرتغالي منظّماتٍ للتّنسيق في مجال سياسة النضال من أجل الاستقلال وسكرتارية دائمة، كان مقرها بمدينة الدّار البيضاء[9].

خاتمة

لم تتوقّف مَسيرة الاحتضان والدعم والمؤازة للأشقاء الأفارقة، رغم الانشغالات الكبيرة للمغرب بملفات وقضايا وطنية ودولية، فَفِي عِزّ الاستعداد الداخلي لحَدَث المسيرة الخضراء الـمُظَـفّرَة (1975م)؛ استَـقْـبَل الحسن الثاني وفْدًا مِن إريتيريا وقَدّم لهم الدعم المادي واللوجستي ومِنَحًا دِراسية لطلبتهم، وأمَّن لهم المجال للشُّروع في ترتيبات استِقلال بلادهم. وكان المغرب مِن أوائل الدول العربية التي اسْتَـقْبَلَت ممثِّلا دائما لجبهة التّحرير الإريترية هو السيد محمد علي قاضي الإرتيري، منذ 1973 وإلى غاية استقلال البلاد سنة 1993.

المراجع
[1] (القبلي) محمد: "المغرب والزمن الراهن"، تنسيق عبد الرحمن المودّن، المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، الطبعة الأولى 2013، ص 91.
[2] "تاريخ المغرب؛ تحيين وتركيب"، إشراف وتقديم محمد القبلي، المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، السحب الثاني، طبعة 2012، ص 642.
[3] (حنيفي) هيلالي: "المغرب والثورة الجزائرية 1954-1962؛ دعم وتضامن"، ضمن أعمال الندوة العلمية (جلالة المغفور له محمد الخامس؛ كفاح من أجل الاستقلال ودعم لحركات التحرير الإفريقية)، الرباط، 14-15 نونبر 2005، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، ص 33.
[4] (حنيفي) هيلالي: "المغرب والثورة الجزائرية 1954-1962؛ دعم وتضامن"، مرجع سابق، ص 56.
[5] تفاصيل أوفى في (شوراق) حمدون: "الباخرة دينا وتسليح المغاربة للثورة الجزائرية؛ مذكرات المقاوم شوراق حمدون"، تقديم حياة أجعير، منشورات دار الإحياء للنشر والتوزيع، طنجة، الطبعة الأولى 2023.
[6] مجموعة باحثين: "دعْم المغرب لحركات التحرر الوطني ببلدان جنوب إفريقيا والموزنبيق وأنغولا وغينيا بيساو والرأس الأخضر وساوتومي وبرنسيب"، أشغال وفعاليات مناظرة علمية، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، مطبعة شمس برنت، الطبعة الأولى 2020، ص 21.
[7] مجموعة باحثين: "دعْم المغرب لحركات التحرر الوطني ببلدان جنوب إفريقيا والموزنبيق وأنغولا وغينيا بيساو والرأس الأخضر وساوتومي وبرنسيب"، مرجع سابق، ص 41.
[8] مجلة"زمان"، النّسخة العربية، العدد رقم 87، نونبر 2017، ص 40.
[9] مجموعة باحثين: "دعْم المغرب لحركات التحرر الوطني ببلدان جنوب إفريقيا والموزنبيق وأنغولا وغينيا بيساو والرأس الأخضر وساوتومي وبرنسيب"، مرجع سابق، ص 100.