مقدمة

شهدت الكتابة التاريخية في المغرب عدة تحولات، وعرفت في صيرورتها تعاقب أجيال من المؤرخين، ركز الجيل الأول منهم على النصوص والوثائق الدبلوماسية والرسمية مما أفرز أدبيات تندرج جلها ضمن ما يعرف بالتاريخ السياسي، وبهذا ظل التاريخ الاجتماعي غير مفكرا فيه إلى حدود سبعينات القرن الماضي مع الجيل الثاني من المؤرخين الذين انفتحوا على مدرسة الحوليات ومدرسة التاريخ الجديد، وانفتح هذا الجيل على العلوم الاجتماعية من أنثروبولوجيا وإثنوغرافيا واقتصاد، ووظف مقاربات هذه العلوم لتشريح الظاهرة التاريخية.

يأخذ هذ المقال حيزا زمنيا له خلال العصر الحديث وفق منطق التحقيب التاريخي، وتحديدا ما بين القرنين السادس عشر ونهاية القرن الثامن عشر الميلاديين، أي منذ مبايعة أول سلاطين السعديين مولاي أحمد الأعرج، إلى ما قبل حكم المولى عبد الرحمن ابن هشام ودخول المنطقة للحقبة الاستعمارية التي يؤرَّخُ لها في الشمال الإفريقي بحدثي احتلال الجزائر ومعركة إيسلي، اللذان مثلا نقطة تحول طُويت معها صفحةُ عصرٍ وافتتحت بعدها صفحات عصرٍ آخر.

تحولات مغرب العصر الحديث

عرف المغرب خلال هذه الحقبة التي ميزناها وأطرناها زمنيا وتاريخياً، تطوراتٍ حضارية كبرى مست بنى ومجالات وهياكل متعددة… نخص بالذكر ما يتعلق بالمجال الاجتماعي. والتطور بحسب معجم المعاني، لفظٌ يحيل على الترقي والتدرج والتغير والتبدل من حال إلى حال، ومن مستوى إلى آخر، ذلك أن المجتمع المغربي لم يبق على الحال الذي كان عليه خلال العصر الوسيط بعدما شهده المجال المتوسطي من أحداث تاريخية كبرى أعطت مفهوما جديدا للمغرب، وتركت أثراً بالغا على الهوية المغربية.

إن أهم ما يمكن ملاحظته في سياق دراستنا للتاريخ الاجتماعي للمغرب بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، هو التنوع الذي عرفته المادة المصدرية بالمقارنة مع الحقب الزمنية التي سبقت؛ فبالإضافة إلى المصادر التقليدية ككتب الرحلات والمناقب وما تراكم من وثائق مغربية خاصة ورسمية، استفادت هذه الفترة من الرصيد الذي يزخر به الأرشيف العثماني والأوربي، هذا التنوع في المادة المصدرية هو ما يسر إمكانية دراسة الأوضاع الاجتماعية وما يتصل بها من أوضاع اقتصادية…

وقد يكون من المهم أيضا أن نشير إلى حدث بارز، والذي يمثل نقطة التحول في التاريخ العالمي، ويتعلق الأمر بسقوط غرناطة، وهو حدث يمثل محطة زمنية فاصلة، أُسدل فيها الستار عن العصر الوسيط واستقبل فيها المغرب العصر الحديث، فكان لهذا الحدث التاريخي انعكاسات كبرى على المغرب الأقصى، على عكس ما ذهب إليه الباحثون الذين ساهموا في تأليف كتاب “تاريخ المغرب تحيين وتركيب” ممن اعتبروا هذه المحطة لا تعدوا أن تكون “مجرد لحظة من لحظات مسلسل طويل موغل في القدم”[1]، ولن نناقش هنا الانعكاسات التي طرأت على الجغرافيا التاريخية، وانتقال الحروب بين المسلمين والمسيحيين من الضفة الشمالية للمتوسط لتدور رحاها أكثر في الضفة الجنوبية منه، وإنما سنتعرض لتأثير هذا الحدث على بنية المجتمع المغربي. فالمجتمع المغربي ما بعد سقوط غرناطة ليس كمجتمع ما قبله، فالمجتمع السابق والذي امتزج فيه الأمازيغ والعرب ليشكلوا قاعدته الرئيسية، استقبل بعد هذا الحدث _سقوط غرناطة_ عناصر بشرية جديدة من أبرزها العنصر الأندلسي الذي لجأ إلى المغرب بعد هذه النكبة واستقر بقرى المغرب ومدنه المختلفة[2]، وسنبين ما لهذا العنصر من تأثير كبير على الهوية والحضارة المغربية، بالإضافة استقبال عناصر أخرى في فترات لاحقة كما سنستعرض من خلال مقالتنا هاته.

مكونات وعناصر المجمع المغربي

المُكون الموري (الأمازيغي)

يُعتبر المكون الموري أو الأمازيغي كما يشاع تسميتهم، من العناصر التي ظلت وضعيتها الاجتماعية ثابتة وراسخة بالمغرب الأقصى منذ التاريخ القديم، إلا أن الأوضاع السياسية التي شهدها المغرب ساهمت في تغير أنماط عيشهم، فالأمازيغ على عكس ما نظن، لم يكن مكونا انحصر وجوده عبر التاريخ في المجالات الجبلية في الريف والأطلس، وإنما اعتادوا في العصور السابقة النزول إلى السهول ليأخذوا نصيبا من إنتاجها الفلاحي في الصيف، بمعنى أنهم كانوا يمارسون أنشطة زراعية في السهول بالرغم من استقرارهم في المناطق الجبلية، إلا أن هذه الحركية بين الجبال والسفوح ستنتهي مع حلول عصر الدول الكبرى في المغرب الأقصى بعد أن بدأت حركة التعمير، فأضحت حركة الأمازيغ تمثل مشكلا اجتماعيا، وهو ما دفع أبرز سلاطين الدولة العلوية _ المولى إسماعيل_ إلى توطينهم في المجالات الجبلية، وحثهم على تغيير نمط عيشهم. ثم أن مكونا أمازيغيا آخر دخل إلى المنطقة وهم من يعرفون ب: “الشراقة”، و”الشراقة” هم أمازيغ وعرب كانوا يستقرون بالمغرب الأوسط، ودخلوا إلى المغرب الأقصى.

المُكون العربي

أما العرب، وهو المكون الذي كان راسخا في المغرب الأقصى قبل دخوله في العصر الحديث، والذي أضحى إحدى المكونات الاجتماعية الرئيسية في المغرب بعد هجرتهم الكثيفة نحو الغرب، فقد عرف هو الآخر بعض التحولات خلال العصر الحديث وبالتحديد خلال عهد السلطان مولاي رشيد العلوي، بعد أن دخل عرب الشراقة إلى المغرب الأقصى من قادمين من المغرب الأوسط، وهم عرب ينتمون إلى بني عامر وأشجع، وقد كان لهذا المكون أدوار سياسية وعسكرية في العصر العلوي، وتقلدوا مهاما في الجيش والسلطة كما ذهب إلى ذلك الناصري في كتابه “الإستقصا”، يقول الناصري: “قد قَدمنا في أخبار السعديين أن لفظ شراقة فِي الأَصْل لقب لعرب بادية تلمسان وَمن انضاف إِلَيْهِم وَسموا بذلك لأَنهم فِي جِهَة الشرق عَن الْمغرب الْأَقْصَى فَأهل تلمسان مثلا يسمون أهل الْمغرب الْأَقْصَى مغاربة وَأهل الْمغرب الْأَقْصَى يسمون أهل تلمسان مشارقة إِلَّا أَن الْعَامَّة يلحنون فِي هَذِه النِّسْبَة فَيَقُولُونَ شراقة بتَخْفِيف الرَّاء وإيقاف المعقودة وَقد كَانَ للسعديين جند من هَؤُلَاءِ الْعَرَب كَمَا مر”[3]

المُكوِّن الأندلسي

بعد المكونين _الأمازيغي والعربي_ واللذان يعتبران من العناصر الأساسية المُشكِّلة للمجتمع المغربي منذ ما قبل العصر الحديث، سنتحدث عن أهم مكون وعنصر بشري عرفه المغرب خلال هذه الحقبة، ألا وهو العنصر الأندلسي، ولعل ما يحدد أهمية مكون بشري على آخر خلال حقبة معينة، هو إسهامه وإشعاعه الحضاري، وهو ما أضفاه هذا العنصر الذي توافد إلى المغرب عبر سيرورة من الهجرات المتتالية امتدت على مدى مئة وعشرين سنة، أي منذ أواخر العهد المريني إلى بداية عهد السعديين، قادمين من العدوةِ الأخرى بعد سقوط الأندلس، إذن فنحن لا نتحدث عن هجرة واحدة، وإنما عن هجرات امتدت على مراحل، ولعل أهم هجرة، هي التي أعقبت ثورة البَشَرات، وهي ثورة قام بها الأندلسيين على المسيحيين في عهد محمد الغالب السعدي، بعد أن وعدهم هذا الأخير بدعمهم وتقاعس عن ذلك، مما تسبب بهجرتهم إلى المغرب.

ما يجعل العنصر الأندلسي بهذه الأهمية قيمة رأسماله البشري الذي ساهم في الحفاظ على الحضارة العريقة للأندلس من الاندثار، بعد أن انتقلت عبرهم إلى المغرب العربي، وإلى المغرب خصوصا نظرا لقربه الجغرافي، وساهموا في تشييد العديد من المدن، معظمها من مدن الشمال، وتوسعة أسوارها وأحيائها وما رافق ذلك من إدخال لأنظمة مائية متطورة، ومعمار منقطع النظير، وأساليب حديثة في اللبس والفلاحة والصنعة. كما أنهم أسهموا بشكل كبير في الحياة العلمية والفكرية والثقافية للمغرب، فبرزت أسر كان لها عطاء علمي كبير كأسرة لوقاش في تطوان المشهورة بالتصوف، وأسرة الفهري في فاس، وأسرة بن سودة وغيرهم… ومن الأدوار الأخرى التي ساهموا فيها أن كانت لهم فرقة في الجيش السعدي، كما شغل بعضهم مناصب القُوَّاد، فيما اشتهر بعضهم بأعمال القرصنة، لأن مدينة سلا كانت من أبرز حواضرهم[4]، وهي مدينة اشتهرت كمركز للقراصنة والجهاد البحري؛ فكانت حركة القرصنة بالنسبة لهم خير وسيلة للانتقام من الملك فيليب الثالث الذي وقع على قرار طرد الأندلسيين، وترتب عن ذلك هجرتهم بعد أن تركوا خلفهم كل أموالهم وممتلكاتهم. وعندما نتحدث عن المُكون الأندلسي فإننا نتحدث عن مزيج مركب جمع مسلمي ومسيحيي الأندلس بالإضافة إلى اليهود

المُكون الزنجي

على الرغم من أن المكون الزنجي، من المكونات الاجتماعية التي عرفها المغرب منذ القدم، إلا أنهم لم يمارسوا أدوارا مهمة تعبر عن ذاتهم وهوياتهم، فكان أغلبهم رقيقا، أو من الجواري والغلمان، وكان أكثرهم مملوكا للسلطان أو معدودا في الجيش[5]، لهذا لم نقم بعدهم كعناصر اجتماعية راسخة ومؤثرة إلى جانب الأمازيغ والعرب قبل العصر الحديث. ومع مطلع هذا العصر، تفاوتت وضعيتهم الاجتماعية بين فترة وأخرى، فتارة نجدهم عبيدا وخدما، وتارة أخرى أحرارا شأنهم شأن باقي عناصر المجتمع المغربي.

من المفيد في سياق حديثنا عن المكون الزنجي، استذكار منعطف بارز في تاريخ المغرب، ألا وهو حدث الحملة السعدية على السودان الغربي سنة 1590م بقيادة المنصور الذهبي، فقبل هذا التاريخ، اعتاد سلاطين المغرب على الجهاد والغزو شمالا ناحية الأندلس، أو شرقا ناحية المغرب الأوسط، لكن مع استعصاء استرجاع سبتة نظرا لما تتمتع به من حصن منيع يستمد قوته أيضا من موقعه الجغرافي، والتي كانت سببا في سقوط شرط البيعة بالنسبة للعديد من سلاطين المغرب الذين بويعوا على الجهاد وفشلوا في استرجاع الثغور المحتلة، ارتأى السلطان المنصور الذهبي على عكس سابقيه، أن يقود حملة عسكرية نحو الجنوب، وهو الحدث الذي سيعرف عقبه المكون الزنجي حضورا مكثفا له بعد استجلاب العديد منهم بأمر من السلطان، وقدرت المصادر التاريخية عددهم بنحو 150 ألف فرد. إلا أن أدوارهم الاجتماعية ستستمر إلى ما هي عليه حتى أفول عهد السعديين، لينالوا حرية مؤقتة ستنتهي مع تكوين السلطان المولى إسماعيل جيشا أسماه بجيش عبيد البخاري وأعادهم إلى حالة وضعيهم السابقة، وتم توزيعهم على القلاع والحصون، ويتولون حماية المسالك والطرق وحفظ الأمن فيها، ويستخلصون الجبايات. وبعد العهد الإسماعيلي نالوا حريتهم وأصبحوا جزءا من النسيج الاجتماعي المغربي، لكنه لم يكن تحريرا شاملاً، وهو ما عكسته ظاهرة الخدم السود في القصور والبيوت المغربية التي استمرت على حدود القرن العشرين.

مُكونات أخرى (أقليات)

مثَّل المغرب خلال العصر الحديث مجالا استقطب العديد من الإثنيات والأعراق والأجناس من شرق الأرض ومغاربها، وعرف قدرا كبيرا من الانفتاح الاجتماعي، مما يدل على ما للمجتمع المغربي من قدرة على قبول الاختلاف، وتوفره على بيئة تكفل التعايش والتنوع، ومن أبرز هذه الأجناس الأتراك، الذين قدم بعضهم من المغرب الأوسط (الجزائر حاليا) والبعض الآخر من إسطنبول، وكان لهذا المكون نشاط بارز في مجال القرصنة والجهاد البحري، وتكونت منهم فرق عسكرية خدمت السلاطين السعديين، وكان لهم أثر بيّنٌ في ثقافة المغاربة خصوصا في نمط لبسهم وطبخهم[6].

ثم نجد المُكوِّن الأوربي اللذين تميزهم المصادر التاريخية في فئتين رئيسيتين، فئة العسكريين الذين سموا بالعلوج والروم وخدموا عددا من سلاطين المغرب، وفئة من المدنيين. ويندرج ضمن الفئة الأولى فرق الجيش، والأسرى المسيحيين، والقراصنة الذين قدموا من إيطاليا وهولندا وشكلوا نواة قراصنة سلا، ومن أبرزهم الهولندي “يان يانزون” الذي أسر من قبل القراصنة الأتراك واعتنق الإسلام وغير اسمه إلى “مراد الرايس”، ليتخذ فيما بعد من سلا عاصمة لعمليات القرصنة والجهاد البحري. ثم نجد في الفئة الثانية العلماء والباحثين، ويتحدث الدكتور عبد المجيد القدوري في كتابه “المغرب وأوربا”[7] كيف أن المغرب مثل منارة علمية استقطبت طلاب العلم من مختلف الأقطار والأصقاع، فكان الملوك الأوربيون يرسلون أبنائهم إلى جامعة القرويين لينهلوا مما يُدَّرس بها من علوم شتى، ويتحدث كيف أن الأوربيين كانوا يخلطون كلامهم ببعض المصطلحات العربية ليبرزوا سعة ثقافتهم.. نذكر أيضا في خضم حديثنا عن الجالية الأوربية قضية التبشير بحيث كانت هناك بعثات تبشيرية فرنسيسكانية استقرت بالسواحل المغربية ووجد بعض أفرادها في فاس ومكناس.

خاتمة

وبناء على ما سبق، نستطيع أن نخرج بخلاصة حول وضعية المجتمع المغربي خلال العصر الحديث، والتي نجملها بازدهار تشكيلته الاجتماعية، بتنوعها وثراءها الإثني والهوياتي، والتي تبرز الأدوار التي اضطلع بها المغرب إقليميا وإشعاعه الذي عبر الآفاق وبلغ كبريات العواصم العالمية آنذاك خلال عصر الإمبراطوريات، ما جعله مركزا يحج إليه طلاب العلم والدبلوماسيون والمستكشفون والمغامرون (القراصنة) والمهاجرون واللاجئون، وكانت لهذه العناصر تأثيرات قوية على مستوى العادات والتقاليد والثقافة في المدن التي استقروا فيها، وفي الوقت ذاته تبين مدى انفتاح المجتمع المغربي وقدرته على استيعاب الآخر والتعايش معه.

المراجع
[1] القبلي (محمد)، تاريخ المغرب: تحيين وتركيب، المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، الرباط، 2011، ص372.
[2] جبرون (امحمد)، تاريخ المغرب الأقصى من الفتح إلى الاحتلال، منتدى العلاقات العربية والدولية، ط1، 2019، الدوحة، ص476.
[3] الناصري (أحمد بن خالد)، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، دار الكتب، الدار البيضاء، ج7، ص42.
[4] الدكالي (محمد بن علي)، الإتحاف الوجيز: تاريخ العدوتين، منشورات الخزانة العلمية الصبيحية بسلا، الطبعة الثانية، 1996م، ص29.
[5] جبرون (امحمد)، تاريخ المغرب الأقصى من الفتح إلى الاحتلال، مرجع سابق، ص480.
[6] داوود (حسناء)، مختصر تاريخ تطوان (محمد داوود)، منشورات المسارة، 2008، إسبانيا، ص109.
[7] القدوري (عبد المجيد)، المغرب وأوربا ما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر (مسألة التجاوز)، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 2012، الدار البيضاء، ص310-311.