توطئة

في تموز يوليو عام ألف وتسعمائة وواحد وعشرين للميلاد، جرت أطوار معركة شديدة دارت رحاها سِتَّةَ أيام جعلت الرأي العام العالمي يردد إعجابه ببطولة الشعب المغربي واستبساله، فيما ركن الرأي العام الإسباني لوصفها بالكارثة[1]. وهي معركة عُرفت في التاريخ المعاصر باسم واقعة أنوال، نسبةً إلى مركز احتله الإسبان وحاصره الريفيون قصد دفعهم عنه، بل وتحرير المغرب كله من يد الأجنبي، وهو الميراث الذي خلَّفه والد محمد بن عبد الكريم الخطابي لوَلدَيه، والذي أبرز أن القومية المغربية راسخة، وأنها كانت وستظل فوق كل الاعتبارات العصرية وفق تعبير الزعيم الوطني “علال الفاسي[2] وملمحُ ذلك خطابٌ ألقاه الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي على نفرٍ من القوم ورد فيه ما نصه: “لا أريدها سلطنة ولا إمارة ولا جمهورية ولا محمية، وإنما أريدها عدالة اجتماعية ونظاما عادلا يستمد روحه من تراثنا”[3]. وهو تراث امتد لإثني عشر قرنا، في استمرارية تاريخية لإمارة المؤمنين وعملية “البيعة”، الأمر الذي يعكس عدم رغبة الخطابي في إحداث القطيعة مع الماضي.

معركة أنوال.. المخيال الرمزي للمجتمع المغربي

ومعركة أنوال من المعارك الأكثر شعبية بين المؤرخين المغاربة خلال القرن العشرين، وأقصد بالشعبية معنيين، معنى أنها كانت معركةً خاضتها فئة من الشعب الذي لم يطله الاستعمار بعد، ومعنى أنها معركةٌ أَثيرةٌ عند المؤرخين بصفتها مَثلاً أعلى للمعارك المغربية يكثرون من ذكرها ما استطاعوا. إلا أنك لو نظرت إليها قليلا لوجدتها معركة أُمَّةٍ، في تعبير واضح عن الروح الوطنية السائدة آنذاك، ذلك أن وعيا وطنياً “ما” كان موجوداً في ذلك الوقت، وإن أخذ صبغة دينية أو قبلية مكنت الشعب المغربي من مواجهة مختلف المحاولات الاستعمارية بفعالية[4]؛ فلولا التكالب الفرنسي والإسباني لدحر المقاومة الشعبية المسلحة، واستخدام الأسلحة الكيمياوية لأول مرة في التاريخ البشري قصد ذلك، لعم الانتصار معظم التراب المغربي، ولتم للمغرب والمغاربة الاستقلال في وقت مبكر، لذلك فإن انتصار المقاومة في معركة أنوال، انتصارٌ للمغاربة؛ فالمغاربة لم يهزموا وإن بدا ذلك على شكل نظام حكم كنظام “الحماية”؛ فالمهزوم لا يكون مهزوما إلا إن أقر أنه مهزوم، وهو إن لم يسُلّم بذلك، فالحرب لم تنتهي بل خبت مؤقتا فحسب، واستمرت بأشكال مختلفة تحت مسمى النضال السياسي للحركة الوطنية، وانتهاء بثورة الملك والشعب. ويفهم من هذا التطور المتلاحق أن معركة أنوال لم تكن نتاجا لتخطيط المقاومة الريفية وحدها، بل كانت مجرد مرحلة عادية على درب النضال المستميت للمغاربة.

من الحروب التقليدية إلى الحروب الشعبية

هناك قاعدة في العلوم العسكرية لا تزال صالحة في كل حال، وهي ما يعرف بالحرب الشعبية التي أثبت المغاربة لأول مرة في التاريخ نجاعتها أمام الجيوش النظامية، وهي حرب لا تقتصر مقاومة الغزاة فيها على الجيش النظامي والجند المحترفين، بل يواجهُهم كل من يقدر على ذلك رجلا كان أو امرأة، وهذه قاعدة كانت تندر في الأزمنة الماضية؛ فقليلون هم من كانوا ينادون بالحروب الشعبية، إذ لم يكن معتادا أن العامة يقاتلون، كانت الجيوش المحترفة تُدفَعُ لجنودها الرواتبُ، وهؤلاء الجُند المأجورونَ، لا يصنعون شيئا إلا القتال إن كان قتالاً، أو التدرب عليه إن كان سلماً، أما أن يخرج الفلاح والتاجر والصانع إلى الحرب فلم يكن معروفا؛ فكان ذلك من أسباب انتصار الريفيين على الغزاة الإسبان، وانتصار الفيتناميين بعد ذلك. ومن خلال العمل الأدبي لقائد الجيش الأحمر في روسيا السوفياتية ميشيل فرونزي Mikhail Frunze (1925/1985م) المعنون ب Die europaischen und Marokko، يتضح لنا الأهمية الإجمالية لهذا النمط الجديد الذي برز بعد أن كان الجيش الروسي أيام الثورة فقيرا وسيء التجهيز، فكان ميشيل يشعر بأهمية الانتصارات على الطريقة الريفية حيث مفعول التقنية فيها والعتاد العسكري يتضاءل أمام العنصر البشري[5].

معركة أنوال.. مَدَيَاتُ التأثير

ويجب علينا أن نذكر فضلا عن ذلك، بأن معركة أنوال التي انتصر فيها المغاربة قد حملت بين ظهرانها روح كل الأقطار المستعمرة، وكل الشعوب المضطهدة من قبل القوى الإمبريالية شرقا وغرباً بعد أن اعتراها حماس جنوني إثر سلسلة الانتصارات التي تمت، والتي كانت بمثابة ثأر من السيطرة الأوربية. مما أضفى على نضال محمد بن عبد الكريم الخطابي بُعدا إيديولوجيا بعد أن انطلق كفاحه مما هو إقليمي وطني، ليتحول إلى أيقونة عالمية يحج إليه العلماء والسياسيون ومناهضو الاستعمار من كل بقاع العالم طلبا للاستزادة من خبرته وحنكته، فقال عنه الثائر الشيوعي تشي جيفارا “أيها الأمير لقد أتيت إلى القاهرة خصيصا لكي أتعلم منك” وذلك لما خلفته واقعة أنوال من أثر على الوجدان الجماعي للشعوب المستعمَرة، بعد أن أحست أنها معنية بحدث محصور في رقعة ضيقة، فرأوا فيه إرهاصات عصر ينتفض فيه المستعمَرون لخلع نير العبودية، ومؤشراً لتحول يحدث في مصير الشعوب، فعُلِّقَ على الحدث أملٌ جنوني، ليس أبلغ من ذلك ما وصفه الصحفي الشهير شكيب أرسلان بالقول : “أن عبد الكريم هو بطل عصرنا، ليس بين المسلمين فحسب، بل وكذلك بين جميع الأمم”[6]، وفي الجانب الآخر لوحظ انفعال وذعر من قبل الإمبراطوريات الكبرى التي بدأت تتوجس من أفولها بعد أن زعزعت ضربة واحدة دعائم سيطرتين مزدوجتين.

المراجع
[1] Celso Almuina Fernandez, la Desastre de Annual (1921) y su proyeccion sobre la opinion publica espanola, Ediciones Universidad de Valladolid. Spain, 1988.
[2] علال الفاسي، الحركات الاستقلالية في المغرب العربي، عبد السلام جسوس للنشر والتوزيع، طنجة، 1948، ص110.
[3] محمد سلام أمزيان، عبد الكريم الخطابي وحرب الريف، مطبعة المدني، المغرب، 1971م، ص132.
[4] عبد الكريم بلكندوز، وادي المخازن وأنوال والصحراء المغربية، مجلة بيت الحكمة، عدد 3، أكتوبر 1986م، ص151.
[5] جرمان عياش، أصول حرب الريف، ترجمة محمد الأمين الباز وعبد العزيز التمسماني، الشركة المغربية المتحدة للنشر والتوزيع، الرباط، 1992، ص9.
[6] جرمان عياش، أصول حرب الريف، مرجع سابق، ص7.