المحتويات
مقدمة
يورد عبد الله العروي في كتابه “المغرب والحسن الثاني”، في الصفحة 27، قوله: كان الأستاذ عبد الهادي بوطالب يرددها على سمع المهدي بن بركة، متنها “لا تترك المجال فارغا للحثالة”، بحيث يمكن أن يفهم من هذا الكلام أن الرجل، في قرارة نفسه، وخلافا لما يزعمه خصومه، كان بخدمته للقصر، يضع نفسه في خدمة الوطن، حتى لا يترك الحثالة، كما يسميهم، ينفردون بإذن الملك.
هذه، على الأقل، هي الصورة التي يحاول عبد الهادي بوطالب أن يرسمها لنفسه، فهو لم يختر أن يكون أستاذا للحسن الثاني، بل اختاره محمد الخامس لهذه المهمة، وأوشك أن يجبره على القيام بها، وخاض صراعا مريرا ضد وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري، الذي كان يستفرد بإذن الملك، وغادر المستشارية عندما أحس أن الملك لم يعد يقبل منه النصح، لكن عندما يسأل عن سنوات الرصاص، يقول، كما في آخر توقيع لكتابه “نصف قرن من السياسة”، إن الموضوع لم يطرح قط للنقاش أمامه.[1]
بوطالب الذي ركب السياسة وتقلد مناصب وزارية كان بعيدا عن الداخلية، ولم تكن له صلة بالنواة الصلبة لدولة الأمن والدفاع والمخابرات، رغم أن خياشيمه السياسية جعلته يوما ما يشم رائحة طبيخ سياسي كريه؛ “مؤامرة أوفقير”، وهذا ما جعله يقول إن ” المراكز التي اشتغلت فيها لم تكن مراكز سلطة، فأنا لم أكن في الحكم، بل كنت بجانبه”.
في شهادة للتاريخ يكشف بوطالب عبر كتابه “نصف قرن من السياسة” عن جزء من مساره العلمي والسياسي، وخبايا عايشها مع الرجل الأول للمملكة الحسن الثاني الذي كان أستاذا له ووزيرا ومستشارا ومعارضا لمحيطه بل مخالفا للعديد من اختياراته. لقد مر بمرحلة تعاقب على الحكم فيها ثلاث ملوك محمد بن يوسف، الحسن الثاني، ومحمد السادس. عرف خلالها اجتياح المغرب وخضوعه لسلطة الحماية، وانخرط في العمل الوطني وناضل من خلال حزب الشورى والاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وواكب الحكومات المتعاقبة على المغرب، والمؤامرات وسنوات الرصاص، وقضية الصحراء المغربية، والصراع مع الجزائر، والحركية الإصلاحية لمحمد السادس، وغيرها من القضايا المثيرة والمهمة سنعرض بعضها من خلال هذه الورقة التعريفية لمؤلف عبد الهادي بوطالب
عبد الهادي بوطالب الفقيه السياسي والمستشار الحكيم
ولد عبد الهادي بوطالب سنة 1923 بمدينة فاس. خريج القرويين، فقيه، وأديب، كاتب ومفكر وسياسي محنك، حصل على إجازة ودكتوراه في الشريعة وأصول الفقه ودكتوراه في الحقوق. وقد تشبع الفقيد عبد الهادي بوطالب بالفكر الديني الإسلامي في المرحلة الأولى من عمره، إذ حفظ القرآن الكريم ودرس الشريعة وأصول الفقه والعلوم الدينية الأخرى ودرَّسها في أروقة جامع القرويين.
تقلب طيلة الستينات والسبعينات في عدة وزارات منها: وزير الإعلام والشباب والرياضة، الوزير المكلف بالبرلمان، الناطق الرسمي باسم الحكومة، وزير العدل، وزير التربية الوطنية، وزير الدولة، وزير الخارجية. وعمل سفيرا للمغرب بكل من بيروت، ودمشق، وواشنطن، والمكسيك، وترأس البرلمان سنة 1970.
كان أستاذا للملك الراحل الحسن الثاني وللملك محمد السادس بالمعهد المولوي بالرباط، وعمل مستشارا للملك الحسن الثاني في فترة (1976-1978) و(1992 – 1996).
وكان له العديد من المؤلفات منها “بين القومية العربية والتضامن الإسلامي”، و” المرجع في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية”، و”نصف قرن في السياسة”، و”العالم الإسلامي والنظام العالمي الجديد”، و” لكي نفهم الإسلام أحسن“.
وفي سنة 1948 كان من بين المؤسسين لحزب الشورى والاستقلال وعضوا للمكتب السياسي لهذا الحزب منذ تأسيسه إلى سنة 1959، وخلال هذه المدة عمل رئيسا لتحرير جريدة “الرأي العام”.
وفي سنة 1951 شارك الراحل في الوفد الوطني المغربي الذي عرض قضية استقلال المغرب في إطار اجتماع الأمم المتحدة المنعقد في باريس بقصر شايو، كما كان أحد الذين تزعموا مقاومة الاستعمار الفرنسي إثر نفي جلالة المغفور له محمد الخامس.
ووضعت سلطات الحماية الفقيد تحت الإقامة الإجبارية في الدار البيضاء من غشت 1953 إلى فبراير 1954، وبعد ذلك ترأس الوفد المغربي بباريس والذي عرف بقضية المطالبة باستقلال المغرب في الأوساط البرلمانية والسياسية الفرنسية.
وفي سنة 1955 شارك في المفاوضات، التي جرت في إكس ليبان حول استقلال المغرب وعودة الملك الراحل محمد الخامس إلى أرض الوطن، كما كان من بين أعضاء الوفد الوطني الذي اتصل لأول مرة بجلالة المغفور له محمد الخامس في منفاه بمدغشقر للاتفاق على الخط السياسي للتعجيل بتحقيق عودة جلالته للوطن وانتزاع الاعتراف باستقلال المغرب من فرنسا.
ومنذ عودة الملك الراحل محمد الخامس تقلب الفقيد الأستاذ عبد الهادي بوطالب في عدة مناصب وزارية ومارس مهام سياسية، حيث عين في دجنبر 1955 وزيرا للعمل والشؤون الاجتماعية في أول حكومة وطنية بعد الاستقلال وهو المنصب الذي ظل يشغله إلى أكتوبر 1956.
وساهم في تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وكان من كتابه العامين من سنة 1959 إلى 1960.
وعين من أواخر 1961 إلى 1966، وزيرا للإعلام والشبيبة والرياضة ثم وزيرا منتدبا لدى الوزير الأول والناطق باسم الحكومة أمام البرلمان ثم وزيرا للعدل.
وما بين 1966 و1969 عين الفقيد وزيرا للتربية الوطنية ثم وزيرا للدولة فوزيرا للشؤون الخارجية. وفي سنة 1970 انتخب رئيسا لمجلس النواب.
وفي أكتوبر 1971 عمل الراحل بوطالب أستاذا في كلية الحقوق بالرباط والدار البيضاء حيث عمل أستاذا للقانون الدستوري والمؤسسات السياسية.
وفي سنة 1974 عين سفيرا للمغرب في الولايات المتحدة والمكسيك ثم مستشارا للملك الراحل الحسن الثاني سنة 1976 فوزيرا للدولة في الإعلام سنة 1978.
وفي مايو 1982 انتخب الفقيد من لدن المؤتمر العام لمجلس وزراء التربية والعلوم والثقافة للدول الإسلامية مديرا عاما للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)، ودرس في نفس السنة بكلية الحقوق بالرباط (مادة النظم السياسية في العالم الثالث)، وحصل أيضا على العضوية في المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) بالمملكة الأردنية وعلى العضوية بأكاديمية المملكة المغربية.
وفي نوفمبر 1983 انتخب الراحل من لدن وزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي، نائبا لرئيس اللجنة الدولية للحفاظ على التراث الحضاري الإسلامي التي يرأسها سمو الأمير فيصل بن فهد، وعين مجددا مستشارا للملك الراحل الحسن الثاني في دجنبر 1991.
وقد تم توشيح الأستاذ الراحل عبد الهادي بوطالب بعدد من الأوسمة ونال عددا من الجوائز، من بينها جائزة الاستحقاق الكبرى للمملكة المغربية (مارس 1990)، وتوشيحه سنة 2002 بوسام الاستقلال الأردني من الدرجة الأولى، كما وشح -رحمة الله عليه- سنة 2006 من طرف الملك محمد السادس بالحمالة الكبرى لوسام العرش.
وإلى جانب اهتماماته السياسية، برز الراحل عبد الهادي بوطالب كمفكر ومحلل لقضايا الساعة، المغربية والعربية والدولية، من خلال الأفكار والآراء التي قدمها على صفحات مجموعة من الجرائد الوطنية والعربية.
وللراحل الأستاذ بوطالب الذي غادرنا عن عمر 83 سنة يوم 16 دجنبر 2009، له مؤلفات في السياسة والقانون والأدب باللغتين العربية والفرنسية تبلغ أكثر من ستين كتابا.
نصف قرن في السياسة
يقدم الدكتور عبد الهادي بوطالب في هذا الكتاب، شهادة تاريخية عن تجربته السياسية التي امتدت على مدى نصف قرن. وهي شهادة تسلط الضوء على مساره السياسي الشخصي.
ويورد الدكتور بوطالب شهادته هاته بتسلسل مشوق، وبأسلوب تلطيفي ينزع عن الكثير من الأحداث والوقائع طابعها الدرامي، من خلال منهج وصفي يوثر سرد الوقائع والأحداث كما هي في وعي السارد، وكما دونتها ذاكرته القوية، مع اقتصاد في الأحكام، وابتعاد عن الكمائن، وحذر تأويلي واضح.
إن هذه المذكرات تعكس كذلك معالم شجاعة سياسية بارزة، وتبرز لنا الوجه السياسي لوطني ساهم في صناعة تاريخ المغرب الحديث، كما تبرز تموجات الممارسة السياسية لرجل دولة، مثلما تبين أيضا مجالات وحدود هذه الممارسة. وسيجد قارئ هذه الحوارات إنارة للعديد من المناطق العتمة في تاريخ المغرب الحديث، وسيقف على شهادة غنية وموحية ومليئة بالدلالات (ص09).
الكتاب سيبقى موشوما في ذاكرة المغاربة، لرجل لم يبحث عن خصومات مجانية، يقول «الحمد لله على ذلك، لأن الحكم في بلادي الآن ليس من حكم بني مرين وبني الأحمر.. فعلاقتي بالملك محمد الخامس لم تشبها أية شائبة تدعم كلمة “المأساة”، ونفس الأمر مع الملك محمد السادس الذي تجمعني به علاقة طيب قوامها الحب والتقدير، في حين كانت حياتي مع الملك الحسن الثاني رحمه الله، حياة لقاءات وتذكر وتفهم وتعاون صادق وإسداء النصيحة وقبولها، إلى أن جاءت فترة معينة بدأ فيها أن شخصيتي تصدم قليلا مع عظم شخصيته الفذة، وأنا لم أقصد ذلك أبدا لأنني كنت أعمل بالحكمة القائلة “قل كلمتك وامش” ويضيف قائلا ” كنت أقول الكلمة، لا تلك التي تسهل لي استمرار البقاء حيث أنا، ولكن تلك التي يمكن أن تسبب لي الابتعاد عما كنت فيه” (ص06).
وإن كانت طبيعة المؤلف حوارية قد تغيب فيها بعض المعطيات إلا أن قارئ قرن في السياسة سيدرك أن الرجل يملك ذاكرة قوية وحية، فمحاوره حاتم البطيوي نشر الحوارات عبر حلقات بجريدة “الشرق الأوسط”، وعلى مدى أسبوعين في منزله بالبيضاء تم سرد الأحداث، كان خلالها سيل الذكريات يتدفق من علياء ذاكرته، وقلما استعان بوثائق خاصة. إننا أمام ذاكرة متقدة وخصبة وموشومة.
تستمد شهادة بوطالب قوتها من كونها صادرة عن فاعل سياسي، انخرط في الفعل المغربي منذ ثلاثينات القرن الماضي إلى الآن، حيث ساهم في مرحلة النضال ضد الاستعمار، مثلما كان فاعلا في لحظات التحول الأساسي في مرحلة الاستقلال. بل إنه ترك بصمات واضحة خلال هذا المسار الطويل، وبخاصة خلال مرحلة الاستقلال عبر التقلب في المسؤوليات الوزارية، حيث ارتبط اسمه بعدد من الأحداث والوقائع، كمسألة تعريب القضاء، لكنه ارتبط بشكل أساسي بمناهضة هيمنة الحزب الواحد، وبالعمل من أجل إفساح المجال أمام التعددية السياسية. ولعل هذا الاختيار ظل هو الخيط الناظم لمختلف مواقفه ولارتباطاته السياسية مع الملك الراحل. والوجه الآخر والأبرز لمساهمته في سياسة الخارجية يتمثل في حرصه على تمتين صلات المغرب بمحيطه الثقافي الطبيعي ساهمة في المصالحة العربية بين الفينة والأخرى، كما تجلى ذلك مثلا في الوساطة بين الغرب وسورية بعد الانفصال أو في التوسط في ملف الأسرى بين العراق والكويت إلخ (ص09-10).
إن تاريخنا نفسه محكوم بآلية التكرار والاجترار والمراوحة في المكان، لأن الأجيال الجديدة لا تستفيد من تجربة الأجيال السابقة. فقد کررت أحزاب الحركة الوطنية الكثير من سلبيات حركة النضال ضد الاستعمار، وكررت الحركة اليسارية سلبيات الحركة الوطنية وربما كانت بعض الحركات الإسلامية اليوم تتجه نحو تكرار العديد من سلبيات التجارب السابقة.
تبرز المذكرات الصراعات الحزبية وما تعرض له حزب الشورى والاستقلال من المشاركة في التوقيع على وثيقة 11 يناير للمطالبة بالاستقلال، مما اضطرهم لتقديم وثيقة منفصلة يوم 13 يناير، ومن قبل إغلاق صحف حزبهم وإخراجهم من مكاتبها رافعين أيديهم والرشاشات خلف ظهرهم الخ.
وكذا قتل أو اختطاف أطرهم السياسية (إبراهيم الوزاني، عبد الواحد العراقي، عبد القادر برادة…)، ونشر صورة حكومة الاستقلال الأولى مع حذف صورهم منها إلخ.
الدكتور بوطالب يحكي هذه الأشياء ببرودة، لكن بمرارة أيضا. فبوطالب يقف في مذكراته أنه خلال مرحلة الصراع مع حزب الاستقلال النافذ آنذاك تعرض الكثير من الشوريين للتعذيب والسجن على أيدي الاستقلاليين، فقرر عدد منهم إبلاغ الملك محمد الخامس بالأمر لاتخاذ اللازم، فوجههم إلى ولي العهد المولى الحسن الذي قال لوفد الشوريين وبينهم بوطالب: «إذا كنتم قد أصبتم بما أصبتم به فإنني أقول لكم بكل صراحة: لكم خياران لا ثالث لهما، إما أن تصبروا وتقاوموا وقد تضيعون في هذه المعركة وتجنون منها من الخسائر ما لا يمكنكم أن تتصوروه، أما إذا عز عليكم أن تصبروا فاخرجوا خارج البلاد واذهبوا إلى حيث تشاؤون وانتظروا إلى أن تتغير الأوضاع إلى ما هو أحسن»، إذ كان ولي العهد آنذاك يخشى وقوع الفتنة داخل البلاد.
غير أن بوطالب سرعان ما ترك حزب الشورى والاستقلال إلى جانب بنسودة والتهامي الوزاني ليلتحق بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية ويكون أحد مؤسسيه عام 1959، لدى انشقاق بعض الاستقلاليين وبينهم المهدي بنبركة وعبد الله إبراهيم والفقيه البصري وعبد الرحمان اليوسفي والمحجوب بن الصديق وحسن صفي الدين.
ويروي بوطالب في مذكراته أنه كان حريصا على مصارحة الملك الراحل الحسن الثاني، وأنه كان يتحلى بالجرأة في إبداء رأيه أمامه. فعندما جاء شاه إيران إلى المغرب عام 1979، إثر قيام ثورة الخميني، حرص الملك الراحل على أن يكون ملك إيران السابق بجانبه لدى استقباله للوزراء والمسؤولين في حفل تقديم التهاني بمناسبة عيد الفطر حيث كان الوزراء يقدمون لهما التهاني معا، لكن بوطالب امتنع عن ذلك وبقي في الخلف، وعندما سأله الحسن الثاني بعد ذلك عن سبب عدم تقدمه للسلام عليه رد قائلا: « لأنني يا جلالة الملك لا أعرف في المغرب إلا ملكا واحدا، والبروتوكول الذي وزع علينا يتحدث عن ملكين» وبالرغم من علاقته الجيدة مع القصر فإن هذه العلاقات مرت عليها غيوم كثيفة خلال السنوات الأخيرة من حياة الملك الراحل، الذي قال بوطالب إنه بدأ يتضايق من آرائه ومواقفه، بفعل ما أسماه «دسائس القصر»، التي حيكت من قبل ضد لسان الدين بن الخطيب وأودت به إلى غيابات السجن، لكنها أدت ببوطالب إلى العزلة والابتعاد عن أجواء القصر.
لقد تميزت علاقة بوطالب بالملك الحسن الثاني، بالشد والجذب، تحكم فيها مزاجهما الصعب. فقد جعله الملك ضمن الدائرة المقربة إليه وأسند إليه أدوارا سياسية دقيقة ودبلوماسية، سواء في الداخل والخارج، دون أن ينجو من فترات غضب ملكي كانت تطول أحيانا ثم تنتهي بالصفح عنه وإعادته إلى واجهة الأحداث.
ولم ينس الملك الحسن الثاني أن بوطالب، الذي لقنه أصول اللغة العربية وآدابها وحببها إليه، بعد أن اختاره الملك الراحل محمد الخامس ضمن الأسرة التعليمية بالمعهد المولوي التابع للقصر الملكي، مكافأة له على تفوقه في امتحان تخرجه من جامعة القرويين التي منحت بوطالب شهادة العالمية وهو لا يزال شابا.
ومن المؤكد أن الحسن الثاني كان يقدر نبوغ بوطالب، وتضلعه في علوم اللغة العربية التي أبدع بها نصوصا أدبية رائدة بوأته مكانة مميزة في مشهد الأدب المغربي الحديث، ومن هنا سر تلك العلاقة المضطربة بينهما والتي انتهت بخروج بوطالب من الديوان الملكي وإنهاء مهامه كمستشار، اذ أن الملك الحسن الثاني لم يعد يتحمل، بسبب وطأة المرض في سنواته الأخيرة، أية معارضة لأفكاره، بينما كان بوطالب يعتقد أن من واجبه إسداء المشورة الخالصة للملك.
لقد تضمن الكتاب تفاصيل لا يغني عنها هذا التعريف البسيط، ومن أهمها: الأستاذ والأمير .. ووثيقة الاستقلال، الحكومات المغربية الأولى والصراع بين الأحزاب، أولى حكومة يسار … ضد اليسار، وفاة جلالة الملك محمد الخامس، حرب الرمال بين الجزائر والمغرب، من مؤامرة يوليوز إلى حالة الاستثناء، اختطاف المهدي بن بركة، هكذا عشت انقلاب القذافي، المغرب يخترق الساحة الدولية، المدرسة الأوفقيرية، الإبداع السياسي.. المسيرة الخضراء، المستشارية الملكية، والمهمات الخاصة، المغرب وأزمة الشرق الأوسط، مخاضات داخلية ومحطات دولية، … في مواجهة الدسائس، جلالة الملك محمد السادس…، حركة إصلاح شاملة
يقول بوطالب «أنا في الحقيقة زهدت في المناصب لأني أعتبر أن الإنسان إذا بلغ من العمر عتيا ينبغي أن ينسحب بهدوء ومن تلقاء نفسه بدل أن يطرد بالقوة والسوط على رأسه». وفي ذلك الحوار كشف بوطالب أنه لا يتقاضى أي معاش من الدولة، رغم مزاولته عدة مسؤوليات، وقال إنه أبلغ الملك محمد السادس في أحد لقاءاته القليلة معه، عندما سأله عن اهتماماته الحالية، بأنه يعمل على إنشاء مؤسسة تحمل اسمه، بعدما اتصل به بعض المسؤولين السعوديين، فكان رد الملك بأن تلك المؤسسة تخصه هو أي الملك ولا تخص بوطالب، وقرر الملك محمد السادس تخصيص فضاء خاص بمسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء لاحتضان هذه المؤسسة. وقد احتفلت مؤسسة عبد الهادي بوطالب للثقافة والعلم والتنوير الفكري بالذكرى العاشرة لتأسيسها 2017م، ولم ينطلق نشاطها بشكل فعلي، إلا سنة 2012، بسبب مرض رئيسها السابق، عبد الهادي بوطالب، واتسمت أعمالها بالتنوّع والتعدد، لا من حيث موضوعاته ولا من حيث التنظيم.
خلاصة
مهما كان الاتفاق أو الاختلاف مع بوطالب إلا أن شهادته ستبقى إضاءة على حقبة من التاريخ السياسي المغربي بصم عليها فاعل عايشها، وهو المتعدد الواجهات من الانتساب لتيار المحافظين الذي يجسده تكوينه الفقهي بالقرويين، إلى الحداثة التي تبناها في العديد من القضايا المجتمعية والسياسية، وستبقى شهادته غنية وموحية ومليئة بالدلالات.
لقد قام الرجل بمهمة مستشار كما رسم معالمها الحسن الثاني، حينما اختاره رفقة ثلاثة مستشارين آخرين، خطب فيهم قائلاً: “مهمتكم أن تتابعوا عمل الوزراء، وتكونوا واسطة بيني وبينهم فيما يبعثونه إلى الديوان الملكي، وتقدموه إلي مع مقترحاتكم عليه، وتقترحون علي أفكاركم بشأنه، لأتخذ القرار على ضوء ذلك”.
في هذه الرواية التي قدمها كتاب “نصف قرن من السياسة” للمستشار الراحل عبد الهادي بوطالب، تبدو المهمة واضحة وسهلة، لكن الواقع يقول إن وظيفة المستشار الملكي واحدة من المهام الأكثر غموضاً وسرية في النظام السياسي في المغرب، وذلك نظراً لما أثير دوماً حول تدخل نتائج المستشارين في عمل الحكومة والمؤسسات المغربية.
لقد خرج بوطالب في نهاية مساره من دواليب السلطة ليستعيد دوره ومكانه في الجامعة وفي المنتديات الثقافية، محاضرا مدافعا عن التحديث والإصلاح السياسي الذي جعله الملك محمد السادس شعار عهده.