توطئة

عرف عبد الرحيم العطري بعصاميته  في البحث السوسيولوجي، وغرائبية المواضيع التي يتطرق إليها، وبصيغ مختلفة،  في كتابه “قرابة الملح، الهندسة الاجتماعية للطعام”، يؤكد المؤلف على أن الطعام، وفي جميع المجتمعات، يعد، شاهدا على كل التحولات ومدخلا  لإمكان كل القراءات، فعن طريق أطباقه وعلاماته ورموزه تنسلك سبل مقاربة الثابت والمتحول… فالطعام هو الأثر البارز الذي يحمل في هندسته الاجتماعية وشهوده المادي والرمزي… فالأنثروبولوجي والسوسيولوجي والمؤرخ وغيرهم، يجدون في شكل ومحتوى العادات الغذائية وآداب المائدة الكثير من الشفرات التي تفسر وتفكك الكثير من البياضات والأسئلة المعلقة في مسارات البحث عن «الحقيقة»، إلا أن أهمية الطعام من الناحية القرائية تصير أكثر فاعلية، في مستوى الانتقال من مجال إلى آخر، ومن سجل إلى آخر. (الكتاب ص )6

يحاول الكتاب الاشتغال على تيمة “قرابة الملح” باعتبارها وشيجة اجتماعية، تعضد التماسك المجتمعي المغربي، وبهذا يعكس التعامل  مع الطعام في مستويات الإنتاج والتحويل والاستهلاك والحفظ، انتقال الإنسان من الطبيعة إلى الثقافة، فعلى طول هذه العمليات نكتشف «المعنى الثقافي» للإنسان، ونكتشف تاريخا من الفعل الاجتماعي المرافق لحركية المجتمع، وبناء قيمه الحضارية.

مضامين الكتاب

حظي كتاب “قرابة الملح: الهندسة الاجتماعية للطعام”، لمؤلفه عبد الرحيم العطري، برواج واسع، أدى إلى نفاذ الطبعة الأولى 2016م، وصدور طبعة جديدة مزيدة ومنقحة، وبغلاف دال يحيل على اقتسام الطعام ذات “موسم” قروي.. وقد أهدى العطري هذا الكتاب، الصادر عن دار المدارس للنشر والتوزيع، وبدعم من وزارة الثقافة المغربية، إلى روح الكاتبة المغربية وعالمة الاجتماع الراحلة فاطمة المرنيسي، مستحضرًا لقاءاتها التأطيرية وأبحاثها القيمة، و”انتصارها الدائم لثقافة الاعتراف”، باعتبارها “عالمة اجتماع فوق العادة”، على حد تعبيره. ويسعى هذا الكتاب الذي يقع في 351 صفحة من القطع المتوسط، للمساهمة في توسيع دائرة الانشغال بالطعام كثقافة دالة يتم من خلالها قراءة المجتمع في ثباته و تغيره، مدافعا بالأساس عن رموزية الأكل و تراتبيته.

يتوزع الكتاب إلى مقدمة وخمسة فصول وخاتمة وملاحق غنية بالمتون. ففي الفصل الأول الموسوم بـ”الطعام أُفُقاً للتفكير”، ناقش الباحث محدودية الدرس العلمي للطعام والإطعام، مُوضحًا ظروف الاهتمام به في إطار الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والتاريخ والأدب، ومُتوقفًا عند الانتقال من الطبيعة إلى المائدة، لينعطف في نهاية الفصل نحو “نحن” والطعام، ليبرز فيه علاقة المتن العربي الإسلامي بالمطبخ والطبيخ.

أما الفصل الثاني المفتوح على مفاعيل الطعام والإطعام، فقد استعاد فيه الباحث التراث الأنثروبولوجي لمارسيل موس في مستوى الهبة وبناء الوجاهة الاجتماعية، عن طريق الإطعام، لينتقل إلى مدارات هذا الفعل ورهاناته في المجتمع المغربي واحتمالات التمايز الغذائي. وخصص الفصل الثالث لمسارات الترميق الغذائي، عبر التفاوض مع الطبيعة والتناص الغذائي.

وفي الفصل الرابع من الكتاب سيتطرق الباحث للطعام وجواراته، منفتحا على “النعمة” والقداسة، وجَنْسَنَةُ الطعام، والخبز والثورة، ليبرز العلائق القائمة بين الطعام وهذه الجوارات. ويأخذنا بعدئذ إلى الفصل الخامس الذي اختار له من العناوين: من “القَعِيدَة” إلى “الفَرْدَنَةِ”، حيث تناول فيه بالدرس والتحليل: العادات الغذائية واشتغال العادة، فضلا عن التغير الغذائي و”فَرْدَنَةُ” الطعام.

سمى خاتمة العمل ب”أحواز القراءة”، جعلها الباحث دفاعا عن أطروحته المتعلقة المجتمع التراتبي، ليختم بملاحق ثرية جمع فيها معجما للطعام، وأمثالا شعبية مغربية عن الطعام والإطعام، بالإضافة إلى أقوال في الجوع والطعام، وأدوات ومواعين الطبيخ وأطعمة من المطبخ الموحدي، ونماذج من قصائد ونوازل الأطعمة والأشربة.

خاتمة

هذا الكتاب مساهمة ، ولو في حدود دنيا، في توسيع دائرة الانشغال بالطعام كثقافة دالة نقرأ من خلالها المجتمع في ثباته وتغيره، مدافعاً بالأساس عن رُمُوزِيَةِ الأكل وتراتبيته، ومنتهياً في الختام إلى “مشروع توصيف” ممكن للمجتمع المغربي. فالطعام هو جسر عبور ممكن إلى الأبنية الخفية للمجتمع، ومنه نفكك كثيرا من الشفرات الثقافية، ونتتبع مختلف التلاقحات والتواصلات التي تختزنها وجبات وأدوات الممارسة المطبخية.

الخلاصات التي انتهى إليها هذا البحث، لا تهدفد تبرير وتسويغ أية نزعة تعميمية، بشأن سجلات الطعام مع المغربي ولا تريد إكساب النص أية نزعة إطلاقية؛ ففي العلم  يبقى التنسيب مبدأ ديونطولوجيا للمناولة والتفكير في الاجتماعي. إنها، أي هذه الخلاصات، تتقدم كممكنات نافذة نطل من خلالها على تحولات المائدة لاكتشاف طعامية هنا والآن، ودونما ادعاء للكمال والاكتمال،  فالطعام ما يزال جنينيا، وما يزال بحاجة قصوى إلى المقاربات والاجتهادات، إن هي إلا محاولة للفهم والتفهم.