توطئة

رغم تقسيم المغرب لثلاث مناطق؛ شمالية/صحراوية –سلطانية، دولية؛ فقد ظَلَّ المغاربة القاطنون قرب الحدود الفاصلة بين شمال المغرب وجنوبه يجمَعهم الهمّ المشترك المتمثّل في مقاومة الذي فرَّق بينهم وقطَع أواصرهم وحاصَرهم وحاربهم وسلب خيراتهم، وكان يُوحّدهم الهدف الأكبر المتمثل في إخراجه من بلادهم طمعا في الحرية والاستقلال ورفضا للحماية والاحتلال والإذلال والاستغلال، وكان يجمعهم التَّنسيق الحربي مِن أجل مقاتلة العدو المستعمر المحتل، ولا أدل على ذلك المنطقة الحدودية التي شَكَّلَت مَعَابِر للمقاومة وجيش التحرير، في مثلَّث الموت بالريف وصْلاً بتازة، فتطوان في أقصى الشمال الشرقي.

فكرةٌ تُعزِّز حُلْم توحيد المغرب بعد الاستقلال

انطلاق مِن شَهر مايو 1957 بدأت معالم أفْكار مشروع “طريق الوحدة” تتبلور في ذِهن الشَّهيد المهدي بن بركة بصورة لا غَبش فيها، عندما كان يُلقي محاضرته بالدار البيضاء، مخاطبا مسؤولي حزب الاستقلال، شارحا لهم الوضعية السياسية للبلاد، والمهام المستعجَلة المطروحة على الحزب وعلى الوطن كله، أيْ مهام بناء مغرب الاستقلال.

ضِمن هذه الظروف تقدَّم الأستاذ المهدي بن بركة إلى الملك محمد الخامس بمشروع شَقّ طريق الوحدة، وذلك في يوم 6 يونيو 1957، وكان الهدف الجغرافي للمشروع؛ رَبْطُ المنطقة الشَّمالية التي كانت تحتَ الحماية الإسبانية بالمنطقة الجنوبية التي كانت تحت الحماية الفرنسية، وباستثناء مَسَالِكَ جَبلية قديمة، لم تكن هناك طُرق مُعبَّدة تربط جزئيْ المغرب، سوى تلك التي تحاذي شاطئ المحيط الأطلسي في الغرب، والتي كانت نقطة التقاء المنطقتين فيها في المركز الحدودي الجمركي “عرباوة”. كان مشروع طريق الوحدة يَهدف إلى فتح طريق جديدة وسط المغرب تربط الشمال بالجنوب في وسط المغرب، تمتد مِن “تاونات” جنوبا نحو “كتامة” شمالا، على مسافة 60 كيلومترا.[1]

في معرض حديثه عن هذه الفكرة الخلّاقة يقول الشهيد بن بركة: “إنَّ هذا المشروع بطبيعة الحال يندرج في إطار الحملة الوطنية لمجموع القوى الحية في بلادنا لتوطيد الاستقلال الوطني، كذلك سيشكِّل هذا المشروع اختيارا عمليا سيؤدِّي النجاح فيه إلى فـتْح الطَّريق نحو مشاريع أُخرى لخدمة التَّنمية الاقتصادية والاجتماعية في بلادنا، بالاعتماد على الإمكانات المحلية الوَطنية التي يُنْــتَـظَر تعبئتها”.[2]

وقد بَــيَّـنت اللَّجنة المكلَّفة بالمشروع الخطوط العامة لمشروع طريق “توحيد المغرب”، الرابط بين “تاونات” و”كتامة” الذي يتطلب تجنيد اثني عشر ألف شاب للعمل طَوْعِيًّا، بنسبة أربعة ألف في كل شهر، وَتَمَّ تحديد برنامج موازي، يتمثَّل في إعطاء تكوين وطني وتدريب مدني عسكري. كما تَمَّ تعيين السيد محمد الدويري _ وزير الأشغال العمومية حينَها _ مندوبا وطنيا للسَّهر على تنفيذ المشروع، فباشر هذا الأخير الدِّراسة التقنية للمشروع على مستوى الأشغال الواجب إنجازها في كل حيثياثها، لا سيما أنَّ الرهان القائم كان يتمثَّل في تقليص مدة الأشغال ماديا وزمنيا، مِن سنة ونصف إلى أقل مِن ثلاث أشهر. ولم تكن الأوراش المادية تقتضي فقط بناء طريق على طبوغرافية مستوية كلها؛ وإنَّما تتطلب إقامة مُنْشئات متنوِّعة ، تشمل _ إلى جانب الطريق المعبَّدة _؛ إقامة سبعة وثلاثين جسرا متفاوتة الطُّول والحجم كما يلي:

  • جِسران أحدهما قرب قرية “ثلاثاء كتامة” والآخر قرب “عين أزازم”، يبلغ طول كل منهما عشرين متراً؛
  • خمس وعشرون جسرا صغيرا، طول كل واحد مِتران؛
  • سَبعةُ جسور، طول كل واحد ثلاث أمتار؛
  • ثلاثةُ جسور صغيرة، طول كل واحد منها خمس أمتار؛
  • مَدُّ قنوات للمياه مجموع طولها 2.700 متر
  • حَفْرُ الآبار وَفَتْحُ العيون والسَّواقي.[3]

إنَّ حَدث بناء طريق الوحدة لم يكن مُجرَّد شَقّ طريق وتعبيدها؛ بل كان مَيداناً لتفعيل نشاط شباب المغرب وطلابه لتعويده على خدمة بلاده ومجتمعه، وللتضحية بالوقت والقوة في سبيلهما، ولتعلُّم مهارات وقُدرات واستيعاب واقع وتحديات المغرب من خِلال المحاضرات واللقاءات والدروس التي كان يُوفِّرها فضاء المخيّم والأوراش، ولتحقيق حُلم الوحدة الاندماجية بين أجزاء البلاد الواحدة.

وفَضلا عن فكِّ العزلة عن مناطق معزولة كالريف والأطلس، والمنفعة الاقتصادية المهمة المنتظرة مِن تشييد هذا الطريق، والعائد السياسي المتمثِّل في التواصل المطلوب بين الإدارة المركزية والإقليم؛ يُشير المهدي إلى منافع لا تَقِلُّ أهمية عن ذلك قائلا: “لِننظر إلى الغاية الاجتماعية النبيلة التي يرمي المشروع إلى تحقيقها، إذ سيكون مَدرسة لشباب يَبعث في نفوسهم روح المبادرة، وشَحذ عزائمهم للقيام بأعمال إصلاحية في قراهم النائية، على أساس ضَم الصُّفوف وتضافر الجهود في سبيل الصالح العام. فَمشروع توحيد المغرب يُعتبر أوَّلًا وقبل كل شيء؛ مَدرسة لتكوين الأطر التي ستقود شباب الأمَّة في إنجاز مشاريع أخرى تقضي على البطالة وتزوِّد البلاد بما تحتاج إليه مِن وسائل النَّهضة الزراعية والصناعة الاجتماعية..”[4].

طريق الوحدة من أعظم مسؤوليات مغرب الاستقلال

انْدَرَجت عملية بناء طريق الوحدة _ الذي خلَّدنا ذِكراه التاريخية 66 يوم 5 يوليوز 2023 _ في إطار سَعي المهدي بن بركة لتأسيس المجتمع الجديد، وبناء مغرب ما بعد الاستقلال، وهي بهذا المعنى لم تَكن لتَخلو من دلالات سياسية ومرامي اجتماعية وثقافية.

أكّدت خُطب ومحاضرات ومقالات الزعيم الوطني غير ما مرّة على الأهداف المبتغى تحقيقها من إطلاق مبادرات وأوراش وطنية وجهوية لاستكمال جهود المغرب في مسار القَطْع مع عهد الاستعمار وتدشين عَهد فَجر الحرية والاستقلال والجِهاد الأكبر بتعبير الراحل محمد الخامس.

نتبيّنُ بجلاء في مضمون المحاضرة التي ألقاها المهدي بن بركة لفائدة متطوِّعي مشروع “طريق الوحدة” صيف سنة 1957 بعنوان (مَهَمَّتُنا في الحالة الراهنة)؛ الغايات والأهداف والوسائل والواجبات وسُبل النَّجاح في مثيل هته المبادرات، إذ يقول: “غايتنا؛ هي بناء مغرب جديد، يُعيد مَجده التاريخي وتَتحقَّق فيه لأبنائه:

  • الرفاهية الاقتصادية لفائدة الجميع، بِفضل طاقاته البشرية وخيراته المختلفة؛
  • العدالة الاجتماعية بِفضل حيوية جماهيره الشعبية، وروح التضامُن التي تتربّى عليها؛
  • الاستقرار السياسي والازدهار العِلمي بِفضل نِظام ملكي دُستوري يَنبني على مؤسّسات ديمقراطية ناشئةٍ عن تربيتنا الوطنية، ومِن أعماق عقائدنا الدِّينية وتقاليدنا التاريخية الصّحيحة.

وإنّ هَدفنا؛ محاربة العوائق التي تَقِفُ في وجهنا، مِن غَيرنا ومن أنفسنا:

  • محاربة روح التَّقاعُد التي تُوحي بإيقاف الكفاح، وتَخلُقُ روح الاغترار ببوادر النَّصر؛
  • محاربة روح النَّفعية التي تَجعل من الاستقرار غنيمةً تُوَزَّع؛
  • محاربة روح الانتظار التي تَجعل مِن الاستقلال غاية في حدّ ذاته تُحقِّق كلّ المعجزات.

وإنَّ من واجباتنا:

  • الشُّعور بالمسؤولية وعدم السماح بأدنى إهمال في الفترة الانتقالية الدّقيقة التي يتربَّصُ فيها الـمُستَعمِرُ بِـنا الدوائر، وعدم التّهاون في أمر قيادة حركة النّهضة حتّى لا تتجه أمّتُنا في طريق التّضليل والإغراء؛
  • تجنيد الجماهير الشَّعبية في المنظَّمات الوطنية حتى لا تَبقى عُرضةً لكلِّ استغلال، ويُوَجَّهَ حماسُها للبناء الـمُثْمِر، وتتضافَر جُهود المخلِصين في طريق الخير، مَع تثمين النِّظام وتَقوية الصفوف، ونَشْر روح الخُضوع للمصلحة الوطنية الُعليا؛
  • إعدادُ المواطنين الـمُكافِحينَ الذين يُكَوِّنون طلائع الجماهير الـمُجَنَّدَةِ لتحقيق البرنامج، ويُشتَرطُ في هذه الطَّلائع: استِعدادٌ فِكريٌّ بالإخلاص والتَّفاني في خِدمة الشَّعب الذي يجب أن يكونوا منه وإليه – تكوين خاصٌّ لتزويدهم بمعلومات ضرورية عَن حالة البلاد، وما تتطلَّبه مِن عِلاج ومِن طريقة التّجنيد في سبيل العمل لبِناء الاستقلال.

تلك هي الغايةُ الرئيسية من مشروع طريق توحيد المغرب، الذي هو قَبل كلّ شيء مَدرسةٌ ستُخرِّج لنا الطلائع من صفوف جماهير الشباب الـمُتَطَوِّع لبناء الاستقلال، وثانيا؛ اعتبار هذه الخطّة لتعبئة الحماس الشَّعبي في سبيل بناء الاستقلال وتَحصينه خير وسيلة لكَسْب الأصدقاء من الأمم التي نحن في حاجة إلى مؤازرتها، والتي يَـتعيَّنُ تَمتين الروابط معها، وخاصّةً الأمم الشَّقيقة التي تَجمعنا وإياها روابِط الكفاح في سبيل التّحرُّر والتَّقدُّم”[5]. الأمر الذي يجعل بِحقِّ مشروع طريق الوحدة عملية كان لها “قَبل كلِّ شَيء؛ بُعدٌ سياسيٌّ ورَمزِي”[6].

خاتمة

فبِهذا الأُفق والمِنظار الوطني الممتَدّ كان يُنظِّر ويَشتغل المهدي بن بركة ومن معه من شرفاء الوطن في المخزن المغربي والإدارة المغربية والصحافة الوطنية والشباب النشيط في الأحزاب السياسية وشباب الطائفة اليهودية المغربية أيضا، ويَقتَسِم مَهمّة الاضطلاع بمهام بناء المجتمع الجديد وبمسؤوليات الاستقلال مع أوْسَع قَدْر ممكِن من الشباب والشرائح الاجتماعية من مُختلِف ربوع الوطن.

المراجع
[1] الجابري، محمد عابد: مواقِف، إضاءات وشهادات، العدد 6، الطبعة 1، غشت 2002، أديما للطبع، دار النشر المغربية، الشبكة العربية للتوزيع والصحافة، ص56.  
[2] لومة، محمد: مساهمة بحثية: "العمل الجمعوي بين حماس البداية واحتمال التحولات"، ضمن أعمال ندوة عملية "العمل الجمعوي بالمغرب التاريخ والهوية"، منشورات الجمعية المغربية لتربية الشبيبة، الرباط، الطبعة الأولى 2004، ص 46.
[3] إميلي، حسن: "طريق الوحدة"، ضمن أعمال ندوة "العمل الجمعوي بالمغرب.."، مرجع سابق، ص19.
[4] أوري، أوري: مساهمة علمية "حدث بناء طريق الوحدة"، ضمن أعمال كتاب جماعي "فاس وتأسيس ذاكرة المقاومة؛ أحداث 17-18-و19 أبريل 1912"، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الطبعة الأولى، مطبعة  دار أبي رقراق 2010، ص: 142.
[5] مجلة "أمل للتاريخ والثقافة والمجتمع"، العدد 45، سنة 2015، الثمن 30 درهما، عنوان العدد: "نِصف قرن على اختفاءه في باريس؛ المهدي بن بركة جدلية الفِكر والممارَسة"، الجزء 1، صفحة: 142 – 146، نسخة ورقية.
[6] مُنجيب، المعطي: مقال بعنوان "بن بركة؛ خُطرة في طريق الثورة"، منشور بمجلة "زمان" في نُسختها العربية، العدد 2، نوفمبر 2013، ص: 60.