مقدمة

تعد مدينة دمنات واحدة من الحواضر المغربية العريقة التي تشكلت في نقطة يلتقي فيها الجبل مع السهل، وينسجم فيها المجال القروي مع المجال الحضري. فموقعها الجغرافي عند السفوح الشمالية للأطلس الكبير كان عاملا حاسما في تشكل هويتها التاريخية والعمرانية. إذ ظلت دمنات عبر قرون طويلة فضاء للتبادل التجاري والثقافي، وممرا للقوافل، وموطنا لساكنة متعددة الأصول والانتماءات، وهو ما انعكس بوضوح على نسيجها الاجتماعي.

وقد ارتبط المسار التاريخي لمدينة دمنات ارتباطا وثيقا بمجال هسكورة، الذي شكل الإطار الجغرافي الذي نشأت فيه المدينة، ولعب دورا أساسيا في تطورها عبر مختلف العصور. كما أسهم هذا المجال في توجيه مسارها التاريخي، مما يجعل فهم تاريخ دمنات مدخلا ضروريا لفهم خصوصيتها.

دمنات.. ظروف النشأة وروايات التأسيس

ترتبط ظروف تأسيس مدينة دمنات بموقعها الاستراتيجي ضمن مجال هسكورة؛ إذ كانت تعتبر مفترق طرق يربط بين أهم المسالك التجارية آنذاك، ولاسيما الطريقين المؤديين إلى فاس ومراكش. وبفعل هذا الموقع تطورت المدينة تدريجيا من بلدة صغيرة إلى مركز حضري بارز، أصبح يضم أهم تجمع سكاني بمنطقة إينولتان، مما جعلها تؤدي أدوارا اقتصادية وعمرانية متنامية داخل المجال الجهوي.

ومن هنا نرى أن ثمة صعوبة في تحديد تاريخ دقيق لتأسيس مدينة دمنات؛ إذ إن نشأتها ارتبطت بمسار تطور تدريجي أكثر منه بحدث تأسيسي واحد. غير أن بعض الإشارات التاريخية تفيد بوجودها منذ عهد الدولة الموحدية، خلال القرن الثاني عشر الميلادي، وهو ما يؤكد قدم الاستقرار البشري بها وعمق جذورها التاريخية.[1]

وتختلف الروايات التي توارثت واشتهرت حول تاريخ تأسيس مدينة دمنات. فهناك من يعتبر أن موسى بن نصير، آخر ولاة عبد الملك بن مروان الأموي، هو من بناها. فيكون تأسيسها بناء على هذا، في حدود سنة 80 من القرن الثاني للهجرة.  وبالتالي تكون مدينة دمنات أقدم وأسبق من مدينة مراكش الحالية بعدة أعوام. إذ يذكر أن مدينة مراكش أسست سنة بسط 292هـ، ودمنات سنة فق 180هـ، وفاس سنة قصب 162هـ[2]. كما يطلق على دمنات أنها من وضع رجل هندي، كما حكاه العلامة سيدي علي البوجمعاوي الدمناتي، وأن هذا الهندي هو الذي جلب لها شجر الزيتون. وقد نص بعض الخبراء على أن بدمنات أشجار زيتون يبلغ عمرها ألف عام.[3]

وقيل أن ثمة روايات متعارضة حول تاريخ تأسيس مدينة دمنات، تحاول كل واحدة منها نسبتها إلى أمير أو فاتح، على غرار ما هو معمول به في سرديات تأسيس المدن الكبرى. ويرجح في المقابل أن تكون دمنات قد نمت تدريجيا من قرية صغيرة نشأت عند ملتقى طرق تجارية مهمة، تمر بها قبائل كبرى، قبل أن تتطور إلى مركز حضري له وزنه الإقليمي.

كما يرجح أيضا أن تكون قصبة دمنات قد بنيت خلال عهد الدولة الموحدية، وهو ما يتقاطع مع ما هو متوارث لدى يهود دمنات، من أن ملاح المدينة سبق ملاح مراكش بنحو أربعمائة سنة. ويؤكد هذا المعطى ما أورده صاحب كتاب الأعلام في قسمه المخطوط، إذ يذكر اعتمادا على “نزهة الحادي” (ص365)، أن ملاح مراكش بني في عهد عبد الله الغالب السعدي سنة 970هـ. وبالرجوع أربعمائة سنة إلى الوراء، يتبين أن أبو يعقوب يوسف الموحدي كان قد أمر في الفترة نفسها تقريبا ببناء الدور بحصن هسكورة، وهو ما يعزز فرضية قدم الاستقرار العمراني بدمنات وارتباطه بالمرحلة الموحدية.[4]

المسار التاريخي لمدينة دمنات

عرفت مدينة دمنات حضورا متواصلا في مختلف مراحل التاريخ المغربي، وإن تفاوتت أدوارها ووظائفها باختلاف السياقات السياسية والاقتصادية. فقد ارتبط ظهورها المبكر بالحركة التجارية وبشبكة الطرق التي ربطت بين الشمال والجنوب، مما جعلها حاضرة منذ العصور الإسلامية الأولى.

دمنات في عهد الموحدين (1147– 1269م):

احتلت هسكورة مكانة مهمة في المغرب خلال فترة حكم الموحدين، وهو ما تشير إليه عدد من المصادر التاريخية. فقد وصف ابن خلدون قوتها ومكانتها بقوله: “وأما هسكورة فكان لهم بين الموحدين مكان واعتزاز بكثرتهم وغلبهم، إلا أنهم كانوا أهل بدو، ولم يخالطوهم في ترفهم، ولا انغمسوا في نعيمهم”.[5]

وبما أن سياسة القوة لم تكن مجدية في إخضاع هسكورة، اضطر الموحدون إلى نهج أسلوب مختلف قائم على نسج علاقات ود وثقة معها، انتهت إلى التحالف. فأصبحت قبائل هسكورة حلفاء للموحدين، وقاتلت إلى جانبهم في عدد من الحملات. ومن دلائل هذا التودد السياسي ما يذكره المؤرخون من أن أبا يعقوب يوسف الموحدي، لما بلغت مدينة مراكش أوج ازدهارها، أمر قبائل هسكورة وصنهاجة بالانتقال من مواطنهم إلى السكنى بمراكش بأهليهم ومن معهم، في خطوة تعكس مكانتهم داخل البنية السياسية للدولة الموحدية.[6]

دمنات في عهد المرينيين والوطاسيين (1269– 1465م):

إذا كان العهد الموحدي قد عرف توقف اتحاد قبائل هسكورة عن التوسع، فإن الفترة المرينية والوطاسية شهدت تقلص مجال هذا الاتحاد بشكل ملحوظ. ويعزى هذا التراجع بالأساس إلى تحالف قبائل بني هلال العربية مع المرينيين والوطاسيين، حيث تمكنوا منذ نهاية القرن السابع الهجري من السيطرة على السهول الممتدة عند سفوح جبل هسكورة. وقد أدى هذا التحول إلى إضعاف الحركية التجارية التي كانت المنطقة تستفيد منها لحقبة طويلة.

غير أنه وعلى الرغم من مظاهر الحصار التي عرفتها قبيلة هسكورة وعاصمتها دمنات خلال هذه المرحلة، فقد استطاعت المدينة التكيف مع هذه الظروف. إذ عززت بنيتها السوسيو-اقتصادية عبر تطوير أساليب استغلال المجال الزراعي، وتحسين التقنيات المرتبطة بالحرف والأنشطة الإنتاجية، مما مكنها من الحفاظ على قدر من الاستقرار والاستمرارية داخل محيطها الجهوي.[7]

دمنات في عهد السعديين (1554–1659م):

ابتداء من سنة 1526م، دخلت منطقة هسكورة مرحلة جديدة من العلاقات السياسية بين القبائل والدولة، حيث برز احتكاك مباشر بين جهاز الدولة السعدية وبنية القبيلة التي كانت تعرف نوعا من التفكك. وفي هذا السياق، تتضح أهمية دمنات خلال العهد السعدي، باعتبارها نقطة ارتكاز سياسية وعسكرية داخل المجال الجبلي.

وقد أشار مؤلف برتغالي مجهول في وصفه للمنطقة، إلى أن دمنات كانت مقرا لقائد سعدي، وأنها ضمت حامية من العسكر، وهذا يعكس مكانتها الإستراتيجية في تدبير المجال وضبطه.

وإلى جانب دورها السياسي والعسكري، احتلت دمنات مكانة اقتصادية مهمة خلال هذه الفترة. فقد وصفها ليون الإفريقي (الحسن الوزان)، الذي أقام بها في منتصف القرن السادس عشر، بأنها مدينة يقدر عدد سكانها بنحو مائتي أسرة، تضم تركيبة اجتماعية متنوعة، من حرفيين وتجار، ينتمون إلى ديانات وخلفيات مختلفة، من المسلمين واليهود، بل وحتى الأندلسيين، وهو ما يدل على حيويتها الاقتصادية وديناميتها الاجتماعية في تلك المرحلة.[8]

دمنات في عهد العلويين (1666–1912م):

يتسم تاريخ دمنات خلال المرحلة التي تلت وفاة أحمد المنصور الذهبي سنة 1603م بنوع من الغموض، وذلك بسبب قلة المصادر التي تناولت بالتفصيل الاضطرابات السياسية التي عرفها المغرب آنذاك. وقد أشار أحمد توفيق إلى هذا الفراغ التوثيقي، مؤكدا أنه لم يتم الوقوف على أخبار واضحة عن منطقة إينولتان خلال فترة صراع أبناء المنصور وانقسام البلاد إلى عدة إمارات، وهو ما يوحي بأن دمنات خرجت من تلك المرحلة منهكة ومستنزفة، رغم ما كانت تتمتع به من ثروة ومكانة.

ومع قيام الدولة العلوية، اندمجت دمنات تدريجيا في المشهد السياسي الجديد، خاصة خلال حكم مولاي إسماعيل، ثم في عهد ابنه أحمد الذهبي الذي تولى حكم تادلا سنة 1699م. وبعد وفاة مولاي إسماعيل، بايع سكان دمنات المولى سيدي محمد بن عبد الله، الذي أنهى سياسة الحصون عند سفوح الأطلس، وأسند حكم دمنات إلى السراغنة. غير أن هذا الوضع لم يستمر طويلا، إذ تمكن السلطان مولاي عبد الرحمن من إخضاع المنطقة، وعين علي أوحدو الدمناتي عاملا عليها سنة 1848م، لتصبح دمنات مركزا مهما لسياسة المخزن في بسط نفوذه على قبائل الأطلس الكبير وامتداداته نحو دادس ودرعة وسوس.

وخلال القرن التاسع عشر، استعادت دمنات مكانتها الإستراتيجية، واستفادت من هذا الدور السياسي، حيث استقلت عن حكم السراغنة. كما أمر السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن ببناء السور المحيط بالمدينة لحمايتها من أعمال النهب التي كانت تتعرض لها أسواقها. وفي سياق التنظيم الحضري، وخلال زيارة الحسن الأول لدمنات في أبريل 1887م، تقرر نقل الساكنة اليهودية من حيها القديم جنوب المدينة إلى ملاح جديد أكثر اتساعا وتنظيما، حفاظا على الموارد المائية وتحسينا لشروط العيش، على أن يعوض السكان عن الدور التي تم إخلاؤها.[9]

دمنات خلال فترة الحماية (1912–1956م):

عرفت دمنات تدخلا مبكرا للسلطات الاستعمارية الفرنسية في مجالها الترابي ابتداء من سنة 1913م، وهو ما شكل مرحلة جديدة في مسارها التاريخي، اتسمت بإعادة بسط الأمن والاستقرار السياسي. ورغم تشييد ثكنات عسكرية ومكتب للمراقبة المدنية بمنطقة إمليل، فإن الحضور الفرنسي ظل محدود الظهور داخل المدينة، ويرجع ذلك أساسا إلى النفوذ القوي للقايد الكلاوي عبد المالك، ثم خليفته عمر، إضافة إلى الدعم الذي وفره لهما التهامي الكلاوي باشا مراكش.

وخلال هذه الفترة، ظلت دمنات مرتبطة بالمنطقة العسكرية لمراكش، وألحقت إداريا بدائرة آيت أورير. وقد عملت السلطات الفرنسية على تزويد المدينة ببعض البنيات التحتية الحديثة، شملت مرافق اجتماعية واقتصادية، غير أن هذه التدخلات لم تنجح في الحد من مظاهر التدهور التي عرفتها دمنات منذ مطلع القرن العشرين.[10]

وزاد من حدة هذا التدهور والتراجع؛ إحداث طريق جديدة عبر ممر تيزي نتيشكا، التي حولت مسار التجارة والقوافل القادمة من المناطق الصحراوية، مما حرم دمنات من عائدات تجارية ظلت تشكل أحد أهم روافدها الاقتصادية لقرون طويلة.

دمنات منذ الاستقلال إلى اليوم:

عرفت مدينة دمنات منذ مرحلة الاستقلال تحولات عميقة لم تكن في صالح تطورها الاقتصادي والعمراني. فقد شهدت المدينة تراجعا ملحوظا في أدائها الاقتصادي، خاصة بعد إلحاقها بإقليم أزيلال المحدث سنة 1975م، رغم أنها كانت قد ارتقت إلى مركز مستقل منذ سنة 1961م. وقد أسهم هذا التحول الإداري في إضعاف موقعها داخل المجال الجهوي، خصوصا مع تفكك اتحاد هسكورة وهيمنة مراكز أخرى، مثل آيت أورير وأزيلال، على الأدوار الاقتصادية والإدارية.

وفي ظل هذه المتغيرات، لم تستطع دمنات مجاراة التحولات الوطنية والدولية التي عرفها المغرب خلال العقود الأخيرة، وهو ما انعكس بشكل واضح على نسيجها العمراني ومكوناتها التراثية. فقد عرفت المدينة تدهورا متزايدا في بناياتها التقليدية، وتراجعا في العناية بتراثها المادي، نتيجة غياب رؤية متكاملة توازن بين متطلبات التحديث والحفاظ على الخصوصية التاريخية والعمرانية للمجال الدمناتي.

لقد أتاحت دراسة المسار التاريخي للمدينة إمكانية الوقوف على جملة من العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أسهمت في تشكيل المشهد الحضري لدمنات عبر مختلف المراحل. ويتضح أن المشهد التراثي للمدينة يمثل عنصرا مركزيا في هويتها، وخصوصية تميزها داخل محيطها الجهوي، غير أنه ظل عرضة للتهميش والاندثار بسبب غياب سياسات فعالة للحماية والتثمين.

خاتمة

تعيش دمنات اليوم مفارقة واضحة بين غنى تاريخي وتراثي عميق تشكل عبر قرون من التحولات السياسية والاقتصادية، وواقع حضري يعاني من اختلالات متعددة. فرغم ما تزخر به من مؤهلات طبيعية وتاريخية، لا تزال المدينة تواجه تحديات بنيوية، تتجلى في ضعف الاستثمار، وتراجع الوظائف الاقتصادية، واهتراء النسيج العمراني، خاصة داخل المدينة العتيقة التي تختزن ذاكرة المسار التاريخي لدمنات.

ويظهر من خلال تتبعنا لهذا المسار التاريخي؛أن دمنات لم تكن مدينة هامشية، بل فضاء حضريا فاعلا تأثر بمختلف التحولات التي عرفها المغرب، وأثر فيها بدوره. غير أن هذا الرصيد التاريخي، الذي يشكل اليوم أحد أهم عناصر هوية المدينة، ظل في العقود الأخيرة مهمشا ومهملا –إن صح القول-.

ومن هنا؛ فإن الحفاظ على التراث العمراني والثقافي لدمنات مدخل أساسي لإعادة الاعتبار لها، شريطة تبني مقاربة تنموية شاملة تراعي الذاكرة المحلية، وتربط بين صيانة الماضي ومتطلبات الحاضر وآفاق التنمية المستدامة.

المراجع
[1] Etude architecturale et plan d’aménagement et de sauvegarde de la médina de Demnate, 2007, p51. (بتصرف).
[2] هذا أسلوب قديم لتدوين التواريخ بالحروف بدل الارقام. حيث يقصد بـ: سنة بسط، سنة فق، سنة قصب؛ التواريخ المدونة وفق حساب الجمل (الحساب الابجدي)، إذ تستعمل الحروف للدلالة على القيم العددية، وهي تواريخ رمزية تختلف باختلاف الروايات والنسخ، ولا يعتمد عليها وحدها في الحسم التاريخي.
[3] أحمد نجيب الدمناتي، القول الجامع في تاريخ دمنات وما وقع فيها من الوقائع. ضبط النص وقدم له: أحمد بن محمد عمالك، الطبعة الأولى، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، 2012، ص25.
[4] أحمد التوفيق، المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر، إينولتان 1850-1912، سلسلة رسائل وأطروحات، رقم36، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ص71. (بتصرف).
[5]ابن خلدون، المقدمة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1988، ص 354.
[6] أحمد التوفيق، المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر، مرجع سابق، ص 71. (بتصرف).
[7] Etude architecturale et plan d’aménagement et de sauvegarde de la médina de Demnate, 2007, p. 55 (بتصرف).
[8] Etude architecturale et plan d’aménagement et de sauvegarde de la médina de Demnate, 2007, p56. (بتصرف)
[9] أحمد التوفيق، المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر، مرجع سابق، ص71.(بتصرف).
[10] Etude architecturale et plan d’aménagement et de sauvegarde de la médina de Demnate, 2007, p61. (بتصرف).