المحتويات
مقدمة
تعتبر المجموعة القبلية مصمودة (أصادن أو إمصمودن) من أقدم وأكبر المجموعات القبلية الأمازيغية التي تنتشر في المغرب، وهي إحدى المجموعات القبلية الكبرى التي عادة ما تقسم إليها ساكنة شمال إفريقيا الأمازيغية في الأدبيات التاريخية والجغرافية العربية، وهذه المجموعات الثلاثة هي: قبائل مصمودة (أصادن، مصمودة) وقبائل زناتة (إزاناتن أو إزاناسن أو إجاناتن) وقبائل زناكة أو صنهاجة (إزناكن). و »هم من أقحاح “البربر” الذين لم يختلطوا بسواهم إلا نادرا، وأهل المغرب الأقصى الأولون المختصون بسكنى جباله منذ الأحقاب المتطاولة« [1]. ومعروفون أيضا ب “التشبث بوطنهم ومحبة ترابهم والإستماتة دونه ولو أدى ذلك إلى الانقراض التام”.[2]
ووفق النظر الجنيالوجية لهذه المجموعات والتي يتبناها عدد غير يسير من النسابين والجغرافيين والمؤرخين العرب والأندلسيين وكذا الأمازيغ، فإن قبائل مصمودة تنحدر من المجموعة الأمازيغية الكبرى البرانس. يقوم إبن خلدون عنهم: » وأما المصامدة وهم ولد مصمود بن يونس بربر فهم أكثر قبائل البربر وأوفرهم، من بطونهم: برغواطة وغمارة وأهل جبل درن. ولم تزل موطنهم بالمغرب الأقصى منذ الأحقاب المتطاولة « [3]. وتتميز قبائل المصامدة تاريخيا بطابع الإستقرار وممارسة الأنشطة الفلاحية (زراعة ورعيا). وتنضوي تحت هذه المجموعة عدة تكتلات كبيرة واتحاديات ضخمة. فقد كانت هذه المجموعة القبلية القوية تتألف من سكان جبل درن (كديميوة، كنفيسة، تينمل…. ) وسكان سهل سوس وبلاد هسكورة وحاحة وركراكة ودكالة وبرغواطة (تامسنا) وغمارة ومصمودة الشمال (صادة أو أصادن) وبني حسان وهرغة وغيرها كثير[4].
حول دلالة مصطلح مصمودة أو المصامدة
رغم الإنتشار الواسع الذي يتمتع به إسم ومصطلح مصمودة أو المصامدة، فإن الإتفاق بين الباحثين في تاريخ المغرب حول مضمون ومعنى هذا المصلح يبقى بعيدا. فرغم قدم هذه التسمية وهذا المصطلح بين صفوف المؤرخين والجغرافيين والنسابين من الشرق والمغرب والأندلس، فإن الغموض لا يزال يلف معناها، ويزداد هذا الغموض بالنظر إلى أن المجموعات التي يطلق عليها المصامدة لا تطلق على نفسها هذا الإسم، ولا يشتهر عندها الإسم بنفس الشكل الذي يشتهر لدى الكتابات العربية القديمة ومن جاء بعدهم من الكتاب والباحثين الغربيين وحتى المغاربة.
ومن أجل الإحاطة بمقدار التنوع، وأحيانا التناقض، الذي يميز المحاولات التي حاولت تحديد وإعطاء مدلول معنى لمصطلح “مصمودة”، فبالإضافة إلى النظرة الجنيالوجية (النسبية) كما تبناها ابن خلدون وغيره والتي ترى أن أقصر الطرق وأسهلها لتحديد معنى كلمة “مصمودة” هو نسبة الاسم إلى جدهم الذي يسميه مصمود بن يونس[5]، فإننا سنورد هنا بعض من تلك المحاولات في الآتي:
مولاي التقي العلوي:
يورد الأستاذ مولاي التقي العلوي في كتابه”أصول المغاربة” أن كلمة “المصامدة” هي الصيغة العربية لكلمة “إمصمودن” الأمازيغية، والتي تفيد أم الرعاة والقادة الذين يديرون شؤون الناس، أو أم الموالي والسادات. ويلاحظ الباحث مولاي التقي العلوي أيضا »أن مصامدة درن لا أثر لهذه اللفظة في لهجتهم ولا أعلامهم الجغرافية. وهم أنفسهم لا يعرفهم الناس ولا يعرفون أنفسهم إلا باسم الشلوح أو إشلحين أخذا من لهجة تشلحيت السائدة في منطقتهم وما حولها بالجنوب الغربي للمغرب…وكلمة الشلوح في أصلها تفيد معنى المسكن البسيط مثل الكوخ أو ما يقاربه، والشلوح أو إشلحين أي سكان الأكواخ هم في الأغلب جبليون مستقرون يسكنون الآن الدور الثابتة المبنية باللبن أو الحجارة ولا أثر للتنقل عندهم«[6]. وهنا يتضح طبعا أن مولاي التقي العلوي تحدث فقط عن مصامدة جبل درن (الأطلس الكبير) دون مصامدة السهول. وهذا الأمر يجد شرعيته في أن هذه المجموعة التي تستوطن هذه المنطقة الجبلية هي أقدم التجمعات المصمودية وأكثرها عددا وأعزهم نفرا.
محمد أقديم:
أما الباحث في تاريخ منطقة الأطلس الكبير محمد أقديم، فهو يقترح مدخلا آخر لفهم هذا الإسم وذلك انطلاقا من إسم “الشلوح” أو”إشلحِييْن” الذي يطلقه مصامدة الأطلس الكبير على أنفسم. حيث يرى أن »الهيمنة المطلقة لاسم “المصامدة” في التراث المغربي المكتوب و الغيّاب التّام لاسم “الشلوح” عنه، تقابلهما السيادة المطلقة لاسم “الشلوح” في لغة التداول الشفوية و الثقافة الشعبية سواء لدى الشلوح أنفسهم أو لدى العرب، فالغيّاب التّام لاسم “المصامدة” في اللغة و الثقافة الشعبية، يمكن أن يُستنتج من ذلك أن اسم “الشلوح” المتداول شفويا في الثقافة المغربية الشعبية هو الترجمة الفعلية لاسم “المصامدة” المتداول في التراث المغربي العربي المكتوب، خاصة إذا تمّ تفسير “اسم” مصمودة كاشتقاق من “صَامَدَ” و “يُصامِدُ” و “صمودا”، ممّا تعنيه من ثبات في الموقع و استقرار في المجال وصمود في المكان، و بالتالي السّكن فيه، و هي نفس الدلالة التي توحي بها معاني كلمات “ءشْلْحِيْنْ” و “ءيشَلْحْ ” في لغة تاشلحيت، حيث تعني استقَرّ و أقامَ و سَكَنَ. وهذا ما يعفي الدّارسين من شقاء البحث في الأصول اللغوية لكلمة “مصمودة” في لغة تشلحيت رغم أن هذه الكلمة غير متداولة شفويا في لغة تاشلحيت«[7] .
علي صدقي أزايكو:
أما الأستاذ والمؤرخ علي صدقي أزايكو فيرى أن كلمة “المصامدة” أو “إمصمودن” كلمة أمازيغية لا يخرج معناها عن معاني: الإستقرار والإرتباط بالأرض، وذلك باعتبار قبائل المصامدة من السكان الذين يتميزون بنمط العيش القائم على الإستقرار والفلاحة والإرتباط الأرض. وفي هذا الصدد يعتقد أزايكو أن كلمة “مصمود” (masmud) كلمة أمازيغية مركبة تعني الذي أو الذين يملكون أو يبذرون البذور، أي أنها تعني السكان الذين يمارسون النشاط الفلاحي والزراعي، وهم السكان المستقرين و المرتبطين بالأرض، وهذا ما ينطبق على القبائل التي يطلق عليها المصامدة[8].
بالإضافة إلى الآراء السابقة، يرجح البعض اللآخر نسبة الإسم إلى طبيعة المناخ والطقس الذي يميز معقل مصامدة الأطلس الكبير أي البرودة. وإذا علمنا أن البرد يعني في أمازيغية تلك المنطقة “أصميد”، فإن هذا الرأي يرى أن الكتابات العربية خاصة في الفترة الموحدية كانت تطلق على سكان هذه المنطقة “إمصميدن” أي المبردين أو ساكني البرد، بالنظر إلى أن المنطقة تعرف بشتائها القارس والبارد بفعل تساقط الثلوج. وقد تحول الإسم بفعل عامل التعريب فيما بعد إلى كلمة “مصامدة” أو “مصمودة”. ومن هنا أيضا جاء إسم أهم مدينة –على ما يذهب إلى ذلك هذا الرأي- تعد مخرج طريق وادي النفيس التاريخي العابر للأطلس، وهي مدينة “أمصميدي” التي تحول إسمها إلى “أمزميز”.[9]
مناطق إنتشار إمصمودن ونمط عيشهم
وقد كانت قبائل المصامدة تنتشر أساسا في أكثر المناطق غنى وخصبا في المغرب الأقصى (المملكة المغربية) خصوصا على طول السهول الأطلنتية؛ ابتداء من البحر الأبيض المتوسط شمالا إلى الأطلس الصغير جنوبا، أي أنهم كانوا منتشرين في تامسنا (الشاوية)، ودكالة وأزغار (الغرب) والحوز وبلاد حاحة، وكذا في مناطق الأطلس الكبير والصغير وسوس…، الأمر الذي جعلهم هدفا لكثير من الحملات الحربية العنيفة، والتي أباد بعضها كثير من تجمعاتهم خصوصا في السهول المذكورة، سواء كان ذلك من قبل المجموعات القبلية الأخرى وخاصة زناتة وصنهاجة، أو من القبائل العربية المستقدمة من إفريقية (تونس)، وخاصة الهلاليين والمعقليين، أو من طرف المرابطين والمرينيين وغيرهم أو من قبل البرتغاليين. وبسبب العنف والإضطهاد الممارس ضدهم لجأ عدد كبير من هم إلى الهضاب الداخلية أو الجبال. فقد كان غزاة مناطقهم، خصوصا في المناطق السهلية التي لا تتوفر على حصون ودفاعات طبيعية، يستخدمون »العنف في أبشع صوره مع السكان الأصليين الواقعين تحت سيطرة القهر والغلبة، وهذا ما يفسر لنا الاضمحلال الشامل الذي حل ببعض بطونهم ثم التعجيل بمحو معالمهم وطمس آثارهم…وهذا ما حدث بالفعل للبرغواطيين وبني حسان«[10].
وقد تقلص وجودهم بسبب هذه الحركية إلى أن أصبح مقتصرا على الأطلس الكبير الغربي والأطلس الصغير وسوس وقسم من الريف الأوسط، وبعض المناطق المنبسطة كمنطقة حاحا والمناطق المحيطة بمصب وادي تانسيفت[11]، كما انتقلت أعداد منهم إلى مناطق أخرى خارج المغرب كالأندلس ومناطق أخرى من شمال افريقيا، وقد تكونت في أعقاب بعضهم هناك دول وإمارات كما هو الشأن بالنسبة لأعقاب فاصكة بن ومزال (المعروف بأبي حفص عمر الهنتاتي) الذين أسسوا الدولة الحفصية بالمغرب الأدنى (تونس).
أدوارهم التاريخية والحضارية
لقد لعبت قبائل مصمودة منذ القدم أدوار كبيرة في تاريخ المغرب، وفي مختلف المجالات السياسية والثقافية والدينية والإقتصادية. وهذا ما أشار إليه صاحب (مؤلف مجهول) » مفاخر البربر” عندما قال: “وكان فيهم (يقصد المصامدة) ملوك قبل الإسلام، وفي الإسلام رؤساء مشاهير وفرسان وشجعان «[12].
ورغم ما تعرضوا له من الغزو والإضطهاد، فإن ذلك لم يمنعهم من الإبداع في مجالات الثقافة والشؤون الدينية وبناء الدول والكيانات السياسية وتشييد القصور والقلاع وكثير من العمران. »ومن هنا جاء القول المأثور الذي طالما رددت صداه كتب التاريخ المغربي، وهو قولهم: لم تزل البركة في المصامدة من قديم الزمان، فمنهم أهل الجد والإجتهاد والعلم والعمل والتحلي بالخصال الحميدة مثل يحي بن يحي بن كثير بن وسلاس الليثي ولاء، المصمودي نسبا، من مصمودة طنجة وراوية الإمام مالك، وابن محمد صالح الماجري دفين آسفي. ومنهم دهاقين السياسة والمراوغة ومعاول الهدم والتقويض وأبطال التحولات والإنقلابات مثل محمد بن تومرت الهرغي…ومنهم الأفاكون والمشعوذون الذين يتلاعبون بعقول الدهماء ويسيطرون على إرادة العامة وذلك مثل صالح بن طريف زعيم البرغواطيين، وحمو ابن منوا الغماري المعروف بأبي محمد حاميم بن من الله النبي المفتري…وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن هذا الشعب (الشعب المصمودي) تكمن في كيانه طاقة خلاقة تطبع أعماله وتصرفاته بحياة النشاط والإبداع، وتلك هي سمات الشعوب العظيمة”[13].
المراجع
[1] بن منصور عبد الوهاب، قبائل المغرب، المطبعة الملكية، 1968، الرباط، ص 321.[2] بن منصور عبد الوهاب، قبائل المغرب، مرجع سابق، ص 161.
[3] ابن خلدون عبد الرحمان، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، المجلد6، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1981، بيروت، ص 275.
[4] بن منصور عبد الوهاب، قبائل المغرب، ص 321-327.
[5] ابن خلدون عبد الرحمان، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ون عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، مرجع سابق، ص 275.
[6] العلوي مولاي التقين، اصول المغاربة، إعداد وإخراج علال ركوك وحفيظة الهاني، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي، الرباط، 2016، ص 160.
[7] أقديم محمد، التحولات السوسيوتاريخية في منطقة الاطلس الكبير، منشورات دار الأمان، 2016، الرباط، ص 27-28.
[8] Azaykou Ali Sidqi, Histoire du Maroc ou les interprétations possible, Publication du Centre Tarik Ibn Zyad, 2008,Rabat, p14-16.
[9] هوزالي أحمد، معلمة المغرب، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والنشر والترجمة، الجزء21، 2005، ص 7165.
[10] العلوي مولاي التقي، أصول المغاربة، مرجع سابق، ص 161.
[11] هوزالي أحمد، معلمة المغرب، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والنشر والترجمة، الجزء21، ص 7164.
[12] مؤلف مجهول، مفاخر البربر، دراسة وتحقيق عبد القادر بوباية، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، ط1، 2005، ص 172.
[13] العلوي مولاي التقي، أصول المغاربة، مرجع سابق، ص 161.