المحتويات
مقدمة
يعد فيلم “الرحلة الكبرى” لإسماعيل فروخي أول فيلم مغربي عابر للقارات، يصور العودة إلى الجذور الروحية العميقة للإسلام، كما يعد مخرجه، الذي يقدم أفلامه بين المغرب وفرنسا، في رأي النقاد السينمائيين، من بين أفضل المخرجين العرب في المهجر، والذين يمزجون في أعمالهم قضايا وإشكالات روحية تبغي الراحة الإنسانية وخلق حالات من الوجد والحنين تنهض على التسامح والمعرفة والغفران. وينتمي هذا الفيلم إلى “أفلام الطريق” التي تعتمد الإثارة والتشويق، لكن مخرجه جعل منه ثنائية بين جيلين، وتدافعا حول منظومة القيم، ورحلة للعودة إلى الجذور الروحية للإسلام.
وقصة الفيلم التي يجسد بطولتها الراحل محمد مجد، تحكي عن مهاجر مغربي مقيم بفرنسا، يقرر القيام بشعيرة الحج، واختار وسيلته سيارة قديمة من أوربا إلى مكة، رفقة ابنه “رضا”.
ما الذي يحمله الفيلم من قيم، وما الرسالة التي أراد المخرج تبليغها، وكيف كانت معاناته من أجل تقديم عمل متميز بكل المقاييس الإبداعية والجمالية التي تشد المشاهد إليه، ولا يحس فيها بالملل، ولا التكرار، وما الثنائيات والتناقضات، والتحديات التي يعيشها المغربون في دار المهجر؟ هل تأثر مخرج الفيلم باتهامات ظالمة للإسلام، وكيف رد عليها؟ كيف قرب بين جيلين الأب والابن، وثقافتين مختلفتين؟، أسئلة كثيرة قد يجيب عنها الفيلم، وأخرى نستشفها من تأملات في المشاهد الإبداعية التي يحملها بين ثناياه.
مسار إبداعي طويل “للبطل” محمد مجد
ودع المحبون سنة 2013 باكو الغيوان، وطيب لعلج رائد المسرح، وحسن مضياف، وفجع السينمائيون في وفاة محمد مجد عن عمر 73 سنة، فالرجل رغب في الموت بمنزله، لكن الموت لا تخير أحدا، ابن درب السبليون بالمدينة القديمة بالبيضاء، انطلق بمعانقة الركح مع مسرح «الطبقة العاملة» ثم «البدوي» وبعدها مسرح «الصديقي» قبل الانتقال إلى الشاشة الصغيرة، ومنها إلى السينما. أطلّ محمد مجد في فيلمه الأول «الغابة» (1970) للمخرج مجيد الرشيش الذي أبدع فيه من خلال براعته في التشخيص، معلناً بذلك عن ولادة نجم سيترك بصمته في تاريخ السينما المغربية من خلال أدوار خالدة كدور حميد في فيلم «علي زاوا» لنبيل عيوش، ودور التهامي في فيلم «في انتظار بازوليني» لداود أولاد السيد، إضافة إلى أدواره في «السفر الطويل» لإسماعيل فروخي، و«الحي الخلفي» لفريدة بورقية من دون نسيان مشاركته في أفلام عالمية كـ «الرسالة» لمصطفى العقاد، وفيلم «شهرزاد» لفيليب دو بروكا. كما حاز جوائز عدة، منها جائزة في «مهرجان نانت» عن دوره في فيلم «عود الريح» للمخرج داود أولاد السيد، وجائزة في «مهرجان الفيلم الوطني» في طنجة عن دوره في فيلم «السفر الطويل». ورغم دوره القصير في شريط «وبعد» للسينمائي محمد إسماعيل، إلا أنّه كان دوراً تاريخياً في السينما المغربية، إذ جسّد دور المسؤول عن الهجرة السرية (الحرقة) الذي تنتهي به الحال شنقاً بعد معرفته بغرق القارب.
وقد وجه العاهل المغربي رسالة تعزية إلى عائلة الفنان الراحل محمد مجد، و عبر الملك محمد السادس عن بالغ تأثره بعد علمه بنبأ وفاة الفنان الراحل و جاء في البرقية “بلغنا بعميق التأثر نبأ وفاة المشمول بعفو الله ورضوانه المرحوم الفنان المقتدر محمد مجد الذي اختاره الله إلى جواره في هذه الأيام المباركة الفضيلة. وبهذه المناسبة المحزنة نعرب لكم ومن خلالكم، لكافة أهلكم وذويكم ولكل أصدقاء الفقيد المبرور ومحبيه ولعائلته الفنية الكبيرة عن أحر تعازينا وأصدق مشاعر مواساتنا في رحيل نجم من نجوم السينما المغربية المتألقة”.
معاناة قبل المخاض
يذكر مخرج الفيلم اسماعيل فروخي معاناته مع فيلمه الروائي الأول، والتي مرت بدورها عبر موت منتجه الفرنسي “ايون بيكترز”؛ «كتبت سيناريو الفيلم في 1998، وتطلب مني الأمر 5 سنوات كاملة قبل أن أعثر على منتج. الجميع تخوف من هذا العمل حتى عثرت على المنتج المتميز “انيون بيكترز”، المعروف بكونه أنتج مجموعة من الأعمال السينمائية المختلفة عما هو سائد، والذي كان يغلب قناعاته على مبدأ الربح. عندما التقيت به كنت على شفير الإفلاس ومغادرة حرفة السينما نهائيا. غير أنه أنقذ حياتي السينمائية عندما منحني فرصة إخراج “الرحلة الكبرى”، قبل أن ينتحر داخل مكتبه في وقت لاحق».
وحول الظروف الصعبة التي تم خلالها التصوير يقول فروخي: «هذا أول فيلم مغربي عابر للقارات، ورغم أنني لست متخصصا في الفلسفة والدراسات الإسلامية، فقد حاولت تصوير شخصية الأب ذات القناعات العميقة والمعاناة الكبيرة. ولعل هذه المعاناة هي التي جعلت الفيلم يثير نقاشات متحمسة في جميع المهرجانات التي عرض بها. لقد عانينا خلال التصوير من مشاكل متعددة لأن ميزانيتنا كانت محدودة ، ولأننا صورنا من دون رخصة في عدد من الدول التي كانت تعيش وضع احتقان سياسي لدى وجودنا بها. وخلال ترحالنا عبر أوروبا وآسيا كنا، أنا والممثلون، نقوم بدور السائقين والتقنيين ونواجه المشاكل الفنية والقانونية. وقد غامرنا بالتصوير من دون رخصة في بلغاريا، وفي صربيا، التي كانت في حالة حرب أهلية، والناس يمرون أمامنا مسلحين بينما نحن نحمل الكاميرات. وعندما أكملنا الفيلم الذي تحول تصويره إلى معركة حقيقية، بكينا من التأثر أنا والممثلان محمد مجد ونيكولا كازال».
لقد تم تصوير مشاهد الفيلم في نفس الأماكن التي تمر بها الرحلة فعليا على الرغم من الصعوبات التي واجهت فريق العمل أثناء الرحلة من بلد إلى آخر، والتي اضطرتهم أحيانا إلى الإلتزام بعدم التحول مثلما حدث في صربيا وقت اغتيال رئيس وزرائها، وكذلك أثناء الحرب على العراق، كما رفضت السلطات التركية السماح لهم بالتجول داخل المسجد الأزرق، ومن المثير أن جزءا من هذا الفيلم تم تصويره داخل مكة المكرمة.
بداية القصة
تعود فكرة الفيلم لتجربة الكاتب نفسه، فقد ولد في يونيو 1962 في المغرب، ثم سافر إلى فرنسا مع عائلته وهو في الثالثة من عمره، وعندما كان طفلا قام والده برحلة سفر إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج بالسيارة، ولم يستطع إسماعيل أن يصدق قرار والده، فشعر انه مجرد حلم خادع أو هلوسة، ولكنه فكر في أن على أبيه أن يروي هذه المغامرة في يوم من الأيام، اختمرت الفكرة في وعي الكاتب وبلورها من خلال هذا الفيلم، وضمنها كل المعاني السامية سواء منا الاجتماعية، أو التربوية، أو العقدية.
الفيلم مزج بين ثقافتين، وجيلين، الأب عاش في بيئة تقليدية محافظة، وابن في بيئة غربية بحمولة فكرية وثقافية ليبرالية “رضا” طالب في العشرين، ينحدر من إقليم “بروفونس” الفرنسي، وأبوه مغربي أصيل قضى حياته في البادية ، وفي صحراء المغرب بقساوة طبيعتها وشظف العيش، وبالرغم من سفره المبكر لفرنسا، فإنه لم يفقد هويته الأصيلة، بل بقي محافظا على التزامه بدين الإسلام وقيمه، وشريعته السمحة، وطوال الرحلة 5000 كلم من فرنسا إلى مكة، وفي سيارة قديمة، حرص على التحدث باللغة الدارجة العربية، ولم يستخدم لغة موليير إلا في لقطة واحدة، فحواره مع ابنه رضا يتم باللغة العربية بالرغم من أن ابنه يجيب بلغة فرنسية، وأداؤه لفرائض الإسلام أثار خط ابنه، بل وصل الأمر به إلى الغضب والهروب بعد أن قدم صدقة لمحتاجة وهو في اشد الحاجة للمال، ف”رضا” كان متأثرا بالمجتمع الفرنسي في ثقافته وعادته وسلوكه، فهو يشرب الخمر، ولا يهمه من الدنيا سوى التفكير في خطيبته. وقناعة الابن بهذه الرحلة نحو المجهول بالنسبة إليه، إلا أنه لم يجد منها بدا، فتحمل المشاق رفقة أبيه.
ويأخذنا الفيلم برحلة سياحية روحية وحوار جميل، عبر مناطق أوروبا المتنوعة، ثم عبر بلاد البلقان المضطربة الغائصة في حروب التطهير العِرقي، ومنطقة الشرق الأوسط المتوترة. إنها إذن «أوديسة» مغرية حقيقية، رحلة تكوين وتثقيف يتقاطع التنقل في الفضاء خلالها مع التنقل داخل مناطق الهوية والذات الفردية والجماعية. إنها مغامرة كبيرة تذكر بالتقاليد الفنية العريقة لأدب الرحلة، التي غالبا ما تتكون البنية السردية فيها من شخصين: المرشد والمتعلم (الأب والابن هنا)، ومن فقرات مرتبطة بتوالي المرور عبر المناطق والمجتمعات المتنوعة، لتكوين وجهة نظر مبنية على الاختلاف، على نسبية الأشياء وعمق الروابط التي توحد البشر رغم التناقضات الظاهرية. كما أن أداء الأب لمناسك الحج ثم وفاته في الديار المقدسة التي هي مهد الإسلام، تصبح كلها بمثابة علامة فارقة على نضج الابن. فالنضج والخروج من المراهقة الصعبة إلى الرجولة يمر عبر الموت، عبر الخروج من شرنقة الأوهام والعودة إلى أوروبا والى الحياة اليومية برؤية مغايرة، رؤية تطغي عليها التجربة الإنسانية العميقة التي أتاحها هذا السفر الطويل لأبطاله.
وعبر هذا السفر تمر علاقة الأب والابن بمراحل متقلبة وأزمات تساهم في تشكيل شخصية الابن، ليعود إلى مكان إقامته بأوروبا بشخصية جديدة واعية بجذور هويتها وبوضعية العالم المعاصر الذي نعيش فيه من خلال عبور منطقة البلقان خلال أحلك لحظات تاريخها المعاصر: أي مرحلة الحرب والتطهير العِرقي الصربي ضد المسلمين. يعود الابن إلى أوروبا بعدما قام كذلك برحلة إلى مهد الإسلام، في الوقت الذي يعيش فيه الغرب كل هذا الخوف المرضي الممكن من المسلمين، في سياق خطوة شجاعة يقوم بها هذا الفيلم المشحون بحمولة رمزية وفلسفية عميقة، طارحة لسؤال المستقبل وصراع الهويات وقضية التسامح والعلاقة مع التراث بشكل مكثف ومعمق. على العكس من بعض المخرجين المغاربة الذين يقيمون بالخارج، والذين تأتي بعض أعمالهم سطحية، ناقلة لرؤية «اثنوغرافية» تبسيطية منقطعة الصلة بالقضايا الكبرى لأوطانهم وأمتهم.
خلاصة
لقد نجح إسماعيل فروخي في إبراز أهداف الفيلم من خلال استخدام فكرة ” road movie” فاستطاع أن يوضح كيفية التعايش بين الأب وأبيه. كما أحيى الفيلم مجموعة من القيم، سمو الحب والمودة والتقدير، واحترام الآخر، والالتزام، والإحساس بالانتماء، والشعور بالحب نحو المقدس وبيت الله، “رضا” المتمرد كانت قيمة احترام الوالد وتقديره ميزته، وبكاؤه على أبيه حين وافته المنية بمكة المكرمة، وحرصه على لقائه، واندهاشه من آلاف الحجاج وهم يؤدون المناسك، وتأثره بسماع القرآن وقراءة الأب لآيات من الكتاب وهو يتتعتع فيه وعليه شاق لينال بذلك الأجر مضاعفا، فلا وجود لمتطرفين ولا لمتخيل والتمثلات والصورة المظلمة التي حاول الغرب رسمها للإسلام، فالله قريب منهم يحميهم.
تجدر الإشارة إلى أن فيلم «الرحلة الكبرى» حاز سنة 2005 جائزة أحسن دور رجالي في مهرجان طنجة للسينما المغربية بفضل الأداء المتميز لشخصية الأب من طرف الممثل محمد مجد، بعدما اعتبر العديدون أن هذا العمل يستحق أكثر من تتويج.