توطئة

وجَد المغرب نفسَه أمام إرث إداري استعماري بعد سنة 1956، ووضْع جغرافي قَسَّم البلاد إلى مناطق نفوذ بين القوى الاستعمارية، وكرَّس العزلة بين المنطقتين الخليفية والسّلطانية والمنطقة الدولية.

ورغم أنَّ البلاد كانت تتوفَّر على شبكة مِن الطرق؛ إلَّا أنَّ توزيعها الجغرافي عبر التراب الوطني لم يَكن شاملا لكل المناطق، الأمر الذي طَرح وضعية مُلِحّةً أمامَ مغرب ما بعد الاستقلال، مِن أجل ربْط الصِّلة بين مختلف مناطق البلاد المحرَّرة، وتغيير البنى الوظيفية التقليدية للطرق التي كانت ترتكز على خدمة مصالح المستعمر.

ولأنَّ المغرب كان بحاجة ماسَّةٍ للبِنيات التحتية، وبما أنَّ الحكومة التي تَشكّلت آنذاك (حكومة البكّاي الأولى) لم تكن قادرة على توفير كلِّ المُتطلَّبات الاقتصادية والاجتماعية لمغرب الاستقلال؛ فقد بادر الوطنيون المغاربة إلى وَضع مُخطَّط مَشروع يُعيد رَبطَ الصِّلة الجغرافية والتاريخية والبَشرية بين الشمال والجنوب. ففي مطلع سنة 1957 -وهي الفترة التي عاد فيها الأستاذ المهدي بن بركة من زيارة عمل إلى جمهورية الصّين الشّعبية مفتونا بنموذجها التّعبوي التنظيمي الهائل في الإعمار والبناء والتشييد، وخصوصا نموذج “قنطرة النهر الأصفر”-، وباعتبار المهدي مِن قياديي حزب الاستقلال ورئيسا للمجلس الاستشاري الوطني، وبإدراكه للتَّباعد الحاصل بين المجتمع وروح العصر، ومراهنته على الدَّور الحيوي الذي يجب أنْ تَلعبه القوى الحية، وعلى رأسها الشَّباب؛ فقد كانَ يؤمن أنَّ تطويرَ البلاد والانتقال بها إلى رَكْبِ الدُّول المتوجِّهة نحو المستقبل، لا يمكن أنْ يتمَّ إلا إذا تضافرت الجهود الشَّعبية مع الجهود الحكومية لمواجهة التأخُّر عَن ركب الحضارة العصرية وبناء المغرب المستقِل.[1]

مِفصل العلاقة بين الشَّمال والجنوب

رغم تقسيم المغرب لمنطقتين شمالية وجنوبية وأخرى دَولية؛ إلّا أنَّ المغاربة ظلّوا موجودينَ قرب الحدود الفاصلة بين شمال المغرب وجنوبه، يجمعهم الهمّ المشترك المتمثّل في مقاومة الاستعمار الذي فرَّق بينهم وقطَع أواصرهم وحاصرهم وحاربهم وسلَب خيرات أراضيهم، وكان يُوَحِّدُهم الهدف الأكبر المتمثِّل في إخراجه مِن بلادهم طَمَعًا في الحرية والاستقلال ورفضا للحماية والاحتلال والإذلال والاستغلال، وكان يجمعهم التَّنسيق الكفاحي مِن أجل مقاتلة العدو المستعمر المحتل.

انطلاقا مِن شَهر ماي1957 بدأت معالم أفْكار مشروع “طريق الوحدة” تتبلور في ذِهن المهدي بن بركة بصورة بارزة، عندما كان يُلقي محاضرته بالدار البيضاء، مخاطِبا مسؤولي الحزب شارحا لهم الوضعية السياسية للبلاد، والمهام المستعجَلة المطروحة على الحزب وعلى الوطن كله، أيْ مهام بناء مغرب الاستقلال.

ضِمْن هذه الظروف تقدَّم الأستاذ المهدي إلى الملك محمد الخامس بمشروع طريق الوحدة، وذلك يوم 6 يونيو 1957، بهَدف ربْط المنطقة الشَّمالية التي كانت تحتَ الحماية الإسبانية بالمنطقة الجنوبية التي كانت تحت الحماية الفرنسية، وباستثناء مَسَالِكَ جَبلية قديمة، لم تكن هناك طُرق معبَّدة تَربط جزئيْ المغرب، سوى تلك التي تُحاذي شاطئ المحيط الأطلسي في الغرب، والتي كانت نقطة التقاء المنطقتين فيها في المركز الحدودي الجمركي “عرباوة”. كان مشروع طريق الوحدة يهدف إلى فتح طريق جديدة وسَط المغرب تربط الشَّمال بالجنوب في وسط المغرب، تمتد مِن “تاونات” جنوبا نحو “كتامة” شمالا، على مسافة 60 كيلومتر.[2]

أعطى الملك محمد الخامس الانطلاقةَ الفعلية لدِراسة مشروع توحيد المغرب يوم الأحد 9 يونيو 1957 بترؤُّسِه لجلسة عمل خاصة، حضرها إلى جانب وَلي العهد آنذاك؛ كلٌّ مِن رئيس الحكومة امبارك البكاي، ووزراء الدَّاخلية والتربية الوطنية والأشغال العمومية والصِّحة، والمهدي بنبركة رئيس المجلس الاستشاري الوطني، والجنرال الكتاني؛ حيث تَمَّ تَبَنِّي تسمية المشروع بـ” طريق توحيد المغرب” أو “طريق الوحدة”، ثمّ وجّه نداءً لشباب المغرب من مراكش يوم 13 يونيو، وقام بتعيينِ لجنة وطنية للاضطلاع بتنفيذ المشروع، كاتِبُها العام الأستاذ المهدي، ورئيسها ولي العهد.

فُتِح باب التَّطَوُّعِ في وجه الشّباب المغربي الذي يَترواح عمره بين العشرين والثّلاثين سنة، والراغب في التّجنيد السِّلمي لبناء المغرب الـمُستَقل. وفيما يَرجع لمسألة استدعاء المتطوِّعين؛ وَجَدَتِ اللَّجنةُ نَفْسَها أمام كثرة الطّلبات بالنّسبة للعدد المطلوب مِن كلّ جهات المغرب، “فقد كان هناك 30 ألف مرشَّح للتطوع، اجتهد المهدي مِن أجل حَصْر نسبة محدّدة، بناء على عدد السُّكان في مختلف الأقاليم حتى تكون لكلّ هناك تمثيلية عادلة بين المتطوِّعين، لقد كانت للمهدي منهجية في النِّهاية تُعْطِي نتيجة”.[3] وقد تَمَّ اختيار المتطوِّعين وفق منهجية رُوعِيَ فيها التَّوزيع الجغرافي للمتطوِّعين، وضَمان تمثيلية لمختلِف أرجاء البلاد، كما تَمَّ إعطاء الأسبقية للقرى والبوادي، وعَدَم اشتراط الثَّقافة أساساً للاختيار، اللَّهم ما عدا مُسَيِّري الأوراش الذين تم اختيارهم لحضور دروس إعداد المسيِّرين التابعة لمصلحة الشبيبة والرياضة.[4] واستفاد مِن هذا التكوين 304 متطوع، شَكَّل المعلِّمون نسبة 45 في المائة منهم، في مَدرسة “المعمورة لتكوين الأطر” المشرِفة على المشروع.

تَمّ تقسيمُ مراحل الشّروع في تنفيذ المشروع على ثلاث مراحل؛ كلُّ مرحلة تضمّ فوجا مِن الشباب المغربي يتقاطرون على فاس، مَركز تجمُّع المتطوِّعين، الآتين عبر خَطّ السِّكك الحديدية مِن “طنجة” شمالا ومن “مراكش” جنوبا ومن “فاس” حيثُ يَلتحقون على مَتن شاحنات القوات المسلحة الملكية، بالمخيمات التي أُعِدَّت في “تاونات” لاستقبال المتطوِّعين، ومنها يَتَوزَّعُون على أوراش العمل[5]، للانخراط في تنفيذ إجراءات المرحلتين الموالِيتين.

وقد بَــيَّـنت اللَّجنة المكلَّفة بالمشروع الخطوط العامة لمشروع طريق “توحيد المغرب”، الرابط بين “تاونات” و”كتامة” الذي يَتطلّب تجنيدَ اثني عشرةَ ألف شاب للعمل طَوْعِيًّا، بنسبة أربعة ألْف في كل شهر، وَتَمَّ تحديد برنامج موازي، يَتمثَّل في إعطاء تكوين وطني وتدريب مدني عسكري. كما تَمَّ تعيين محمد الدّويري وزير الأشغال العمومية مندوبا وطنيا للسَّهر على تنفيذ المشروع، فباشَر هذا الأخير الدِّراسة التقنية للمشروع على مستوى الأشغال الواجب إنجازها في كل حيثياثها، لا سيما أنَّ الهدفَ القائمَ كان هو تقليص مُدة الأشغال ماديا وزمنيا، مِن سَنة ونصف إلى أقلّ مِن ثلاث أشهر. ولم تكن الأوراش المادية تقتضي فقط بناء طريق على طبوغرافية مستوية كلها؛ وإنَّما تتطلب إقامة مُنْشئات متنوِّعة، تشمل -إلى جانب الطريق المعبَّدة-؛ إقامة سبعة وثلاثين جسرا متفاوتة الطُّول والحجم.

إنَّ حَدث بناء طريق الوحدة لم يكن مُجرَّد شَقّ طريقٍ وتعْبيدها لفكِّ العزلة عن مناطق معزولة كالرِّيف والأطلس؛ ولا مجرّدَ طريقٍ تعودُ بالمنفعة الاقتصادية على المغرب؛ بل كان مَيداناً لتفعيل نشاط شباب المغرب وطلابه لتعويده خدمة بلاده ومجتمعه، وللتّضحية بالوقت والقوة في سبيلهما، ولتعلُّم مهارات وقُدرات واستيعاب واقع وتحديات المغرب من خِلال المحاضرات واللّقاءات والدّروس التي كان يُوفِّرها فضاء المخيّم والأوراش.

طريق الوحدة ومسؤوليات مَغرب الاستقلال

اندَرَجتْ عملية بناء طريق الوحدة في إطار سَعي المهدي بن بركة لتأسيس المجتمع الجديد، وبناء مغرب ما بعد الاستقلال، وهي بهذا المعنى لم تَكن لتَخلو من دلالات سياسية ومرامي اجتماعية وثقافية. وقد أكَّدت خُطَب ومحاضرات ومقالات الزّعيم الوطني غير ما مرّة على الأهداف المبتغى تحقيقها من إطلاق مبادرات وأوراش وطنية وجهوية لاستكمال جهود المغرب في مسار القَطْع مع عهد الاستعمار وتدشين عَهد فَجر الحرية والاستقلال والجِهاد الأكبر بتعبير الراحل محمد الخامس.

نتبيّنُ بجلاء في مضمون المحاضرة التي ألقاها المهدي بن بركة لفائدة متطوِّعي مشروع “طريق الوحدة” صيف سنة 1957 بعنوان (مَهَمَّتُنا في الحالة الراهنة)، الغايات والأهداف والوسائل والواجبات وسُبُل النَّجاح في مثيل هذه المبادرات. يقول: “غايتنا؛ هي بناء مغرب جديد، يُعيد مَجده التاريخي وتَتحقَّق فيه لأبنائه الرفاهية الاقتصادية لفائدة الجميع، بِفضل طاقاته البشرية وخيراته المختلفة، والعدالة الاجتماعية بِفضل حيوية جماهيره الشّعبية، وروح التضامُن التي تتربّى عليها، والاستقرار السياسي والازدهار العِلمي بِفضل نِظام ملكي دُستوري ينبني على مؤسّسات ديمقراطية ناشئةٍ عن تربيتنا الوطنية، ومِن أعماق عقائدنا الدِّينية وتقاليدنا التاريخية الصّحيحة. وإنّ هَدفنا؛ محاربة العوائق التي تَقِفُ في وجهنا، مِن غَيرنا ومِن أنفسنا؛ محاربة روح التَّقاعُد التي تُوحي بإيقاف الكفاح، وتَخلُقُ روح الاغترار ببوادر النَّصر، ومحاربة روح النَّفعية التي تَجعل مِن الاستقرار غنيمةً تُوَزَّع، ومحاربة روح الانتظار التي تَجعل مِن الاستقلال غاية في حدّ ذاته تُحقِّق كلّ المعجزات. وإنَّ من واجباتنا؛ الشُّعور بالمسؤولية وعدم السَّماح بأدنى إهمال في الفترة الانتقالية الدّقيقة التي يتربَّصُ فيها الـمُستَعمِرُ بِنَا الدّوائر، وعدم التّهاون في أمْر قيادة حركة النّهضة حتّى لا تتجِهَ أمّتُنا في طريق التّضليل والإغراء، وتجنيد الجماهير الشَّعبية في المنظَّمات الوطنية حتى لا تَبقى عُرضةً لكلِّ استغلال، ويُوَجَّهَ حماسُها للبناء الـمُثْمِر، وتتضافَر جُهود المخلِصين في طريق الخير، مَع تثمين النِّظام وتَقوية الصُّفوف، ونَشر روح الخُضوع للمصلحة الوطنية الُعليا. وإنَّ سبيل نجاحنا؛ إعدادُ المواطنين الـمُكافِحينَ الذين يُكَوِّنون طلائع الجماهير الـمُجَنَّدَةِ لتحقيق البرنامج، ويُشتَرطُ في هذه الطَّلائع؛ استِعدادٌ فِكريٌّ بالإخلاص والتَّفاني في خِدمة الشَّعب الذي يجب أن يكونوا منه وإليه، وتكوينٌ خاصٌّ لتزويدهم بمعلومات ضرورية عَن حالة البلاد، وما تتطلَّبه من عِلاج ومِن طريقة التّجنيد في سبيل العمل لبِناء الاستقلال، (..) تلك هي الغايةُ الرئيسية من مشروع طريق توحيد المغرب، الذي هو قَبل كلّ شيء مَدرسةٌ ستُخرِّج لنا الطلائع مِن صفوف جماهير الشّباب الـمُتَطَوِّع لبناء الاستقلال، وثانيا؛ اعتبار هذه الخطّة لتعبئة الحماس الشَّعبي في سبيل بناء الاستقلال وتَحصينه خيرَ وسيلة لكَسْب الأصدقاء مِن الأمم التي نحن في حاجة إلى مؤازرتها، والتي يتعيَّنُ تَمتين الروابط معها، وخاصّةً الأمم الشَّقيقة التي تَجمعنا وإياها روابِط الكفاح في سبيل التّحرُّر والتَّقدُّم”[6]. الأمر الذي يجعل بِحقِّ مشروع طريق الوحدة عملية كان لها “قَبل كلِّ شَيء؛ بُعدٌ سياسيٌّ ورَمزِي”[7].

وتُؤكِّد حقيقةَ هذه الأهداف الطموحة للأستاذ المهدي؛ الإنجاز التاريخي العملي لطريق الوحدة، وتُعزّزها شهادَةُ إطارَينِ كانا شاهِدا عِيان منذ البواكير الأولى لانطلاق مشروع بناء طريق الوحدة، أحدهما الدكتور والمناضل الاتحادي الراحل محمد عابد الجابري، والثاني إرنيست تييبو الموظّف الفرنسي المكلَّف بتكوين الأطر في مديرية الشباب والرياضة، صديق المهدي الذي شارك في تنظيم مشروع طريق الوحدة.

مشروع رائد لمغرب ناهِض

شارك الجابري في المشروع في إطار مَهَمّةٍ صَحفية لفائدة جريدة “العَلَم” الاستقلالية، إذ كان مُطالَبا بإنجاز تغطية إخبارية وإرسال تقارير صحفية وإجراء حوارات مع الأطر العاملة على تكوين الشباب المتطوِّع، وقد قام بتوثيق شَهادته وتأريخ الحَدث في سلسلة “مواقف؛ إضاءات وشَهادات”، واعتبر أنَّ بوادِر الفكرة أبْرَقت في عَقل “دينامو حزب الاستقلال” وقتئذ، الأستاذ المهدي بن بركة في مارس من سنة 1957، وبَدَت أكثر نُضجا في عَددٍ من لقاءاته التأطيرية والرسمية باعتباره رئيسا للمجلس الاستشاري الوطني، وفي بعض مداخلاته، وبالأخص مداخلته الشَّهيرة (مسؤولياتنا) التي اقتَطف لنا منها قَول الراحل المهدي “علينا أنْ نبدأ اليوم في تحقيق مَشروع، وغدا في تنفيذ مَشروع آخر، وهكذا حتّى نُحقِّق المعجِزة”[8]، و”سنجنِّدُ جماعات الشّباب للقيام بمختلِفِ الأعمال، وإنجاز عشرات المشاريع التي يستطيعون أن يَنهضوا بها”[9]. بِهذا الأُفق والمِنظار الوطني الممتَدّ كان يُنظِّر ويَشتغل ابن بركة، ويَقتَسِم مَهمّةَ الاضطلاع بمهام بناء المجتمع الجديد مع أوْسَع قَدْرٍ ممكن مِن الشباب والشرائح الاجتماعية من مُختلِف ربوع الوطن.

إنَّ مساعي بناء مغرب ما بعد الاستقلال بسواعد أبنائه الحَضريين والقرويين، عَبْر إطار ديمقراطي جماهيري، وتحت قيادة زَعامة سياسية وإدارة مُخلِصة وحازمة ومَلِك داعِم ومتفاهِم؛ كانت وَقتها لتُلهِم أجيال الشباب الطّموح، ولتُوقِظ العَزائم في صُفوف الأحزاب السياسية لتنخرط في وَرْش الرّبط الجُغرافي بين منطقتي الشمال والجنوب، وورش النِّضال المدني والعمل التطوّعي في سبيل الوَطن والوطنية المغربية. وفضلاً عن “الجانب الجغرافي لهذا المشروع؛ كان المهدي يُريد منه أن يكونَ تَجربة رائدةً في عملية البناء التي تَعتَمِد الطاقات البشرية المغربية، طاقات الشباب. وكما قال هو نفسُه: إنَّ مِن أهداف مشروع طريق الوحدة أن يكون مَدرسةً تنفتح فيها الأذهانُ على أفكار وطُرق جديدة في البناء، ينقلونها إلى مناطق سُكناهم على طول البلاد وعرضها”[10]، فهو بهذا المَعنى يَتجاوز كَونه وَرْشاً تابعا للأشغال العمومية أو لوزارة رسمية آنئذٍ.

مُنَبِّه الطاقات ومُحَفِّز العَزَمات

أكَّد الفرنسيان جان لاكوتور وسيمون لاكوتور في كِتابيهما المشتَرك “المغرب تحت الاختبار”[11] أنَّ الشهيد ابن بركة عندما كان رئيساً للمجلس الاستشاري الوطني و”الرئيس الفِعلي لحزب الاستقلال يُفكِّر خلال ربيع سنة 1957 في تنظيم ورش للعمل أثناء الصَّيف؛ لم يكن تفكيره مُنحصِرا في نِطاق إنجاز عَملي فحسب؛ بل كان يُفكِّر أيضاً -أو بالأحرى- في تَجَمُّعٍ واسعٍ للشّباب حول موضوع وطني وحَركي في الوقت نفسه. لقد كانَ الهدف هو إثارة اهتمام شبيبةٍ لا مُبالية نِسبيا، وحَمْـلها مِن خلال بَذل الجهد على الاقتناع بأنَّ العمل وحده يُعطي مردودية، وأيضاً جَعْلُها تكتشفُ بصورة جماعية بعض حقائق الواقع الحديث، وانتزاعها مِن عالم القرية المحدود، وبالتالي فَتْحُ أعين الشباب المراهِق على وجود وطن اسمه المغرب، من خصائصه التَّعدُّد والتّنوّع، ويجتاز ظُروفاً صَعبة. يتعلَّق الأمر إذن بمجالٍ لاكتساب التّجربة، وبِــ “مُنَبِّه الصّباح” للشبيبة المغربية، يُمكن أن يتشخّص في مشروعات مِن قبيل (بناء السدود، أو القيام بعملية الحصاد، أو بناء قرية شعبية، أو مدرسة..)، إنَّــه طَريق”[12].

ولا يَفوت الكاتبان أنْ يُسجِّلا إعجابهما الكبير -بَعد استيعابهما للمرامي التاريخية للمشروع ولدلالاته السياسية- بعملية الدَّمج الخَلّاق على الصعيد البشري الذي تَمَّ بين مجموعات بشرية شبابية متطوِّعة مِن مناطق ولهجات وعادات مُختلفة، فَصَرَّحا في شَهادتهما قائلَيْن: “إنَّ أكثر ما شَدَّ انتباهنا إليه في هذه الأوراش؛ هو جانب المَزج بين مكوّنات الشَّعب المغربي”[13].

أكبَر ورْش عُمومي في المغرب

حقيقةُ أهدافِ ومسؤولياتِ مغرب الاستقلال في فِكر الأستاذ المهدي نستقيها مِن الشَّهادة الثَّانية التي ضَمَّنها الإطار الفرنسي الـمُكلَّف بالتّكوين في مندوبية وزارة الشَّباب والرياضة إرنيست تييبو الذي كان يحلو له أن يُعرِّف نفسَه بأنه “صديق الوطنيين المغاربة”، إذ نَجد في أكثر من مَرجِع[14] شهادته على حَدَث بناء طريق الوحدة، وفيها احتفاء وتقدير كبير بالمشروع وصاحِبِه، وفَهمٌ لطبيعة الدّلالات الـمُستَقبلية التي كان يحملها وينطوي عليها مشروع توحيد منطقتيْ المغرب الخليفي والسلطاني، ويُورِد إحصائيات دقيقة لنوعية المشاركين وطبيعة انتماءاتهم السياسية والإثنية وغيرها من الأمور ذات الصِّلة.

لقد كان المهدي بن بركة في نَظر تْـيِـيبُو وهو يُشرِف على الورش ويقود العمل “لا يستحضر النّظريات الكُبرى؛ بل يَستحضر الأحداث التاريخية الحقيقية، كعُزلة المغرب خلال قرون، وضياع الوقت الكبير بسبب هذا التَّقَوقُع على الذّات خلال فترة الحماية، نَظراً لعدم تكوين الأطر. كان لا بُدَّ من استعادة ما ضاع، وطريق الوحدة هي التي تُمكِّننا من ذلك (..)، وقد كانت هذه الفكرة تزيد مِن هِمَّة هؤلاء الشباب القادمين من كلّ أنحاء المغرب، والمنافَسَة بينهم”[15]، وإنْ كان آلَمَهُ النّقص الملحوظ في عدد المنخرطين مِن صفوف الطلبة والتلاميذ، الذين كان يُراهن عليهم للتّثقيف بالنَّظير إزاء نُظرائِهم مِن شباب البادية وشباب الأحزاب السياسية.

أكَّد إ.تييبو أنَّ 99.5 في المائة من المتطوّعين في هذا الورش العمومي الكبير كانوا مناضلين ينتمون لحزب الاستقلال، إضافة إلى متطوِّعين آخرين مِن حزب الشورى والاستقلال، ومتطوّعين من الجزائريين، ومتطوّعين من اليهود، الذين سَعى المهدي بن بركة إلى إدماجهم في عملية بناء الطريق بهدف إيجاد متخصِّصين في الأوراش، للقيام بأعمال لا تقوم بها القوات المسلّحة الملكية، فقد لاحَظ المهدي “أنَّ العديدَ مِن الشّباب اليهود الراغب في العمل في طريق الوحدة جاءوا مِن معاهد للتكوين المهني، وكانت فِرق المتطوِّعين اليهود هي التي سهرت على أشغال الأوراش المتعلِّقة بكلِّ ما له طابع تقني نوعاً ما (النجارة، الكهرباء، التدبير..)، وقد سهِرَ المهدي شَخصيا على احترام كلّ تقاليدهم الدِّينية وأيام عُطَلِهم وخاصياتهم. وأذكُرُ أنني شاهدته يَنْكَبُّ على هذه التّفاصيل بِدِقَّةٍ استثنائية حقاًّ، إذا ما أخَذْنا في الحُسبان أنَّ هذا كانَ يبدو مُطابِقاً لإرادته في الوحدة المغربية الحقيقية”[16].

إننا إذن إزاء دروس في الوطنية، والثقافة، والوعي الاجتماعي الفذّ. ففي الوقت الذي كانت فيه الصِّراعات الحزبية في أوْج حِدّتها بين بعض الأحزاب الوطنية؛ نرى المهدي بن بركة يَقبَل متطوّعين من حزب (الشورى والاستقلال) وهو الرجل الاستقلالي وقتئذ، بل ولم يكْتَفِ بإدماجهم فقط؛ بل تَمَّ ذلكَ بلباقةٍ عالية، ولم يَكن يكتفي بأنْ يُسنِد لهم مهامَّ عادية، بل يُسنِدُ إليهم مهامَّ الـمُدَرِّبين، ويُحيطهم بنوعٍ خاصٍّ مِن التّقدير، لقد كانَ طريق الوحدة بِحقٍّ مدرسة، وكان المهدي بن بركة مدرسة وطنية في حدّ ذاته.

طريق الوحدة.. المشروع ليس مجرَّد طريق!

لم يَكن المشروع ليَلقى القبول المطلوب لدى كل الأوساط، وبخاصة تلك التي كانت مَعنية مِن قريب بتأويل تَحرّكات ومبادرات المهدي بن بركة، لا سيما وأنّه قد كثَّف مِن يَومِ تَعْيِينِه رئيسا للمجلس الاستشاري الوطني في زيارة عدد من بُلدان المعسكريْن الرأسمالي والاشتراكي، وكذا البلدان التي كانت تَعيش على وقْع انتفاض حركات التّحرر الوطني في إفريقيا وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية، والاستفادة مِن تجارب الجميع، وبما يمتلكه الرجل وقتئذ مِن ذكاء فذٍّ ونباهة سياسية واجتماعية وطموح وطني لإنجاز انتقال مُثمِر مِن عهْدِ الاستعمار إلى عهد الاستقلال، والإسهام في بناء المجتمع الجديد. لذلك سنلمس تأثُّراً واضحا بالنموذج اليوغوسلافي وبالثورة الثقافية التي أطلقها ماو تسي تونغ في جمهورية الصِّين الشَّعبية، وفي زيارته الشّهيرة لهاته الأخيرة؛ عادَ مُصمِّماً على تنفيذ مشروع وطني مُتحقِّق بصفة الجماهيرية، ومُنبنٍ على إجراءات وآفاق ديمقراطية، ومَقودٍ تحت إشراف زَعامة سياسية – حزبية، فكان “طريق الوحدة” التّجسيد العملي للفكرة التي رأى فيها خُصوم المهدي وأصدقاءه تَعبئة عالية وتحشيدا جماهيريا تَمَّ على الطّريقة الاشتراكية، في بلدٍ محافِظ وليبرالي الانحياز.

ورغم أنَّ المهدي حاز موافقة مَلَكية على مشروعه، وتسنَّم قيادة اللجنة الملكية – الوزارية الـمُشرفة على التنفيذ والتتبع والتّقييم؛ وصرَّحَ غير ما مرّةٍ على أنَّ عملية بناء طريق الوحدة ستتم بإشرافٍ من الدولة، وتحت الرعاية السامية للملك، الذي أعطى التأشير على بدء العمل، ودشَّن المشروع يوم فاتح يوليوز 1957، مرفوقاً بوليِّ العهد آنذاك الذي شارك في الإعداد وفي أوراش العمل اليدوية وفي تأطير المتطوِّعين، وبِعَدد من أعضاء الديوان الملكي ورجالات القَصر؛ غير أنَّ ذلك لم يكُن ليشفع لابن بركة، ولا ليُطَمْئِنَ القوة الثالثة ومحيط القصر إلى مآلات المشروع، كفِكرة وكَطريق نحو التحرّر والتقدّم.

إنَّ السَّعي الجَسور للمهدي بُغيةَ خَلْق إطار للتّـنشئة الاجتماعية، وتعميق الاستيعاب لدى الشباب بأهمية أساليب المشاركة المدنية والعمل التّطوعي والتّنظيم وروح الكفاح الجماعي مِن أجل المصلحة الوطنية، وتوسيع دائرة الإسهام في بناء المجتمع الجديد، والتّخفيف من بِطالة الفئة الشابة التي تُمثِّل بوتقة النهوض بالأمة المغربية، وحرصه الوَكيد على أنْ يجعل مِن “طريق الوحدة” فضاءً لتخريج النّخب والكفاءات؛ كلُّها مَساعي ودلالات لم تكن إلا “لتُثير حفيظة القوى المحافِظة التي كانت متخوِّفةً من أنْ يَنتَقِل المغرب تدريجياً إلى صَفِّ الدّول الثورية (..)، هنا يجب التذكير أنه في الوقت الذي كان فيه المهدي بن بركة يُشرِفُ على المشروع العملاق لطريق الوحدة؛ كان الحبيب بورقيبة يُطيح بآخِر قِلاع الملكية (الباي) في تونس، ويُطلِق حَملات كُبرى لتعبئة الشباب لتحقيق ما كان يُطلِقُ عليه (جِهاد الـتَّنمية).

بالتأكيد لَم يكن طريق توحيد المغرب _ هذه العملية الشّعبية والاجتماعية والاقتصادية في آن واحد، بأبعادها الإيديولوجية والثقافية والسياسية التي لا تَخفى على أحد _ إلا ليُثير حفيظةَ أولئك الذين كانوا يَخشَوْنَ على الـمَسّ بالاستقرار السياسي للبلاد. فكانت عملية طريق الوحدة بمثابة “تُــهْـمَـة” إضافية في مِلف ابن بركة المفتوح لدى الأجهزة الأمنية، والذي سينتهي باختفائه يوم 29 أكتوبر 1965، وإلى الأبــد”.[17]

خاتمة

قصْدَنا تِبيانَ الضّرورة التاريخية التي أَمْلَتْها ظُروف مرحلة ما بعد سنة مِن استقلال المغرب، والدّلالة السياسية لإطلاق مشروع بناء طريق الوحدة، استكمالاً لمهام الرّبط الجغرافي بين منطقتيْ الشَّمال والجنوب، وتجديد صِلة الوصْل الاجتماعية والثقافية والإدارية بين ساكنة المنطقتَيْن وأُطُرها ونُخبتها ورموز السلطة، وجَعْل القوة العقلية والعَضَلِية لخيرة شباب الوطن في خِدمة الوطن.

وأهداف المشروع التي تَعَرَّفَنا عليها أعلاه، حيثُ بدا لنا مِن نصوصٍ أوردناها، وشهادات استقيْناها، ومحاضرات نَقلناها؛ أنَّ المشروعَ لم يَكن مجرّدَ حَفْرِ طريقٍ وقناطرَ ومَدِّها باللاَّزم مِن المواد؛ لم يكن مشروعا ينتمي إلى “عالم الأشياء” بتَعبير المفكّر الجزائري مالك بن نبي وإنْ كان يَتضمّن قَدْراً من ذلك؛ وإنما كان “طريقاً” ينتمي لدائرة “عالم الأفكار”، طريقاً نحو الديمقراطية والتقدّم والاختيارات الاجتماعية والاقتصادية النّاهضة بالبلاد والعباد، وجِسْراً تَــعْـبُـرُ مِن خلاله الشبيبة المغربية نحو غدٍ أفضل، ومُستقبل واعد، في ظِلّ وَطن يَسَع الجميع. ورأينا المهدي بن بركة وهو يسعى جهده لصُنع ما كان يُطلِق عليه “المواطِن – المناضِل”، الذي كانت البلاد بأمسّ الحاجة إليه، ولتخريج جيل مِن الطّاقات والقيادات الشّابة، تَضَع خِبرتها وكفاحَها وروحَ العمل التطوّعي الاجتماعي الذي تَعلَّمَتْه مِن مدرسة طريق الوحدة في كَفَّةِ الوطنِ ومصلحتِهِ مَتى ما نودِيَ عليه لأدائها.

إنّ هذا الـمُبتَغى هو ما سنراه متجسِّدا في عددٍ من قيادات الأحزاب السياسية والحكومات المغربية في مرحلة الثمانينات (كريم العمراني، محمد بن هيمة، عبد الواحد الراضي، عبد الرحيم بوعبيد.. وغيره) الذين كانوا في صيف 1957 شبابا متطوّعين أو أُطراً مُـكَوِّنين في صفوف ومخيّمات طريق الوحدة.. المشروع الذي كان أكبَر مِن مُـجَرّدِ طَريق.

المراجع
[1] (إميلي) حسن: "طريق الوحدة – صيف 1957 تجربة رائدة في العمل التطوعي"، منشورات دفاتر كتابة الدولة المكلفة بالشباب، رقم1 طبعة 2006، ص: 7.
[2] (الجابري) محمد عابد: سلسلة "مواقف؛ شهادات وإضاءات"، منشورات الزمن، العدد 6، ص: 56.
[3] (تييبو) إرنيست: "المهدي بن بركة في طريق الوحدة"، مجلة أمل، العدد 45، ص: 25.
[4] انظر: جريدة "العلَم"، منشورات حزب الاستقلال، بتاريخ 19 يونيو 1957، قسم الجرائد وأرشيف المجلّات، المكتبة العامة المحفوظات بتطوان.
[5] (الجابري) محمد عابد: سلسلة "مواقف؛ شهادات وإضاءات"، مرجع سابق، ص: 58.
[6] انظر: مجلة "أمل للتاريخ والثقافة والمجتمع"، العدد 45، سنة 2015، ملف العدد بعنوان "نِصف قرن على اختفاءه في باريس؛ المهدي بن بركة جدلية الفِكر والممارَسة"، الجزء 1، صفحة: 142 – 146.
[7] (مُنجيب) المعطي: مقال بعنوان "بن بركة؛ خُطرة في طريق الثورة"، منشور بمجلة "زمان"، العدد الثاني، نوفمبر 2013، ص: 60.
[8] (الجابري) محمد عابد: "مواقف؛ إضاءات وشَهادات"، العدد 6، الطبعة 1، غشت 2002، أديما للطبع، دار النشر المغربية، الشبكة العربية للتوزيع والصحافة، ص: 55
[9] (الجابري) محمد عابد: "مواقف؛ إضاءات وشَهادات"، مرجع سابق، ص: 56.
[10] (الجابري) محمد عابد: "مواقف؛ إضاءات وشَهادات"، مرجع سابق، ص: 58.
[11] JEAN EL SIMON LA COUTURE (LE MAROC A L’EPREUVE)، ذَكره (الجابري) محمد عابد.
[12] (الجابري) محمد عابد: "مواقف؛ إضاءات وشَهادات"، مرجع سابق، ص: 50 – 53.
[13] ذَكره الجابري نَقلاً وتعريباً للكتاب السابق ذِكره، وذلك في الصفحة: 63 من سلسلة "مواقِف..".
[14] انظر: سلسلة: "مواقف، شهادات وإضاءات" الجزء 6، لمحمد عابد الجابري - كتاب: "المغرب الذي عِشته"، الأستاذ عبد الواحد الراضي، منشورات المركز الثقافي العربي، طبعة 2017 - كتاب: "الحَسن الثاني، ديغول، بن بركة؛ ما أعرفه عنهم"، الأستاذ موريس بوتان، منشورات دفاتر وجهة نَظر، طبعة 2015  - مجلة: "أمل، للتاريخ والثقافة والمجتمع"، الجزء 1، العدد 45، سنة 2015 - مجلّة: "زمان" في نسختها العربية، العدد 2، شهر نوفمبر 2013.
[15] "المهدي بن بركة في طريق الوحدة"، مقال/شهادة منشور بمجلة "أمل، تاريخ، ثقافة، مجتمع"، العدد 45، الجزء 1، سنة 2015، ص: 27
[16] "المهدي بن بركة في طريق الوحدة"، مرجع سابق، ص: 30.
[17] "المهدي على طريق الثورة"؛ مرجع سابق، ص: 63.