ابن عبد الحليم الأيلاني

مقدمة

صالح ابن عبد الحليم الأيلاني، أحد أبرز المؤرخين المغاربة الذين رافقت حياته وتفاصيلها كثير من الجدل سواء على مستوى هويته وإسمه وحياته أو مؤلفاته. وإذا كانت ظاهرة الخلط والجهل بحياة عدد كبير من الأعلام والمؤلفين والمؤرخين المغاربة ظاهرة شائعة في الإسطوغرافيا المغربية، فإن المعلومات المتوفرة حول حياة مترجمنا وأعماله تبقى شحيحة، بل ويشوبها كثير من الغموض والتباين بين المهتمين. وتبقى بعض الإشارات الواردة في كتابه “كتاب الأنساب”، وفي كتاب “مفاخر البربر” أهم ما قيل حول حياة ابن عبد الحليم. وقد نتج عن شح المعلومات المتوفرة عن حياته نسبة كتابه إلى غيره أو نسبة كتب لمؤلفين آخرين إليه، وكذا تضارب الكتابات حول إسمه الكامل والحقيقي.

الإسم والنسب

إن أولا ما يصادفه المهتم بسيرة صالح ابن عبد الحليم الأيلاني، هو التضارب والتباين بين الإخباريين والمؤرخين والباحثين حول إسمه الكامل. فقد أورده البعض بصيغة ثلاثية كما هو الشأن مع المستعرب والمؤرخ الفرنسي ليفي بروفنصال الذي سماه بـ: عبيد الله بن صالح بن عبد الحليم، وهو نفس الإتجاه الذي سار فيه كل من: حسين مؤنس، ومحمد الناصري، وعلي صدقي أزايكو[1]. وهناك فريق آخر من الباحثين أورد إسمه بصيغة ثنائية كما هو الشأن مع العلامة محمد المنوني ومحمد بن شريفة.[2]

وبعد مناقشة وتمحيص كل هذه الآراء رجح محقق “كتاب الأنساب” الباحث محمد يعلى أن يكون الإسم الكامل والحقيقي لمترجمنا هو: صالح بن عبد الحليم الأيلاني، وهو ما حسمه المؤرخ نفسه في مواضع عدة في كتابه “الأنساب”، وكذلك بناء على أورده صاحب مفاخر البربر.[3]

أما عن تاريخ ولادته ووفاته، فإننا لم نقف على أية إشارة موثوقة حول ذلك اللهم بعض الإشارات والاستنتاجات التي لم تستند على أي دليل أو مصدر، منها ما ذكره المستعرب الفرنسي ليفي بروفنصال والعلامة محمد المنوني اللذين ذكرا أنه توفي عام 726هـ/1325-1326م، مع العلم أن المصادر تتفق جميعا أن الأيلاني كان بقيد الحياة عام 712هـ/1312م.[4]

وينتمي ابن عبد الحليم الأيلاني إلى قبيلة أيلان الأمازيغية المصمودية أو “هيلانة” بالصيغة التعريبية، والتي يمتد مجالها على منطقة الحوز الأوسط عند قدم الأطلس الكبير قرب مدينة مراكش بين وادي تانسيفت شمالا، ووادي غدات شرقا ووادي نفيس غربا وبلاد هزرجة ووريكة جنوبا، وإليها تنسب مدينة أغمات أيلان.[5] وقد عرف عن القبيلة إنجابها لعدة أعلام مشهورين خاصة من أهل التصوف والزهد، كما هو الشأن مع والد المترجم له عد الحليم الأيلاني، والعالمان الزاهدان: عبد الحليم بن إسماعيل الأيلاني الأسود، وأبو محمد من قرية تاوّوتي (ت. 6هـ/12م)، وعبد الحليم بن تونارت الأيلاني أبو زيد من قرية تامنصورت.[6]

النشأة والتكوين العلمي

كانت أسرة الأيلاني من الأسر الأيلانية المرموقة التي كانت تسكن مدينة نفيس الإستراتيجية في العهد الموحدي باعتبارها صلة وصل بين مدينة مراكش وتينمل. ورغم شح بل وانعدام المعطيات حول نشأته وتعليمه وأساتذته وتلاميذه، فالذي يبدو هو أنه نشأ في نفس المدينة وتلقى فيها تعليمه خاصة على يد والده الشيخ أبو صالح عبد الحليم الأيلاني، كما قد يكون استكمل دراسته خارج نفيس وتتلمذ على يد شيوخ المصامدة في أغمات هيلانة ومراكش وغيرهما. كما كانت له اتصالات علمية مع بعض من روى عنهم أو الذين أخذوا عنه كأبي عبد الله محمد بن عمر بن مخلد، ويحيى بن يلارزك، وعيسى بن عبد الخالق، ودينار ابن عبد الرحمن، والفقيه المؤرخ محمد ابن مسعود (الشريف).[7]

المؤرخ الأيلاني.. كيد المؤرخين الرسميين

وكما أمسكت المصادر عن ترجمته أو ذكره، فإن بعض المؤرخين الرسميين، نسبوا –بقصد أو بغير قصد- كتابه “كتاب الأنساب” إلى شخصية أخرى هو عالم التفسير واللغات أبي حيان الغرناطي الأندلسي النفزي (ت. 745هـ/1344م). كما نسب صاحب “بيوتات فاس الكبرى” الكتاب إلى ابن عبد الحليم الغرناطي، وهو نفس الأمر الذي حدث مع كتابي “الأنيس المطرب بروض القرطاس..” و”زهر البستان” حيث نسبه صاحب “بيوتات فاس الكبرى” لابن عبد الحليم الغرناطي بدل مؤلفهما الأصلي وهو المؤرخ المغربي ابن أبي زرع الفاسي، معتقدا أن ابن عبد الحليم الأيلاني هو ابن عبد الحليم الغرناطي.[8]

ورغم محاولات البعض لطمس معالم شخصيته فإن ابن عبد الحليم الإيلاني كان من بين المصادر الشفوية المهمة للمؤرخ الكبير ابن عذاري المراكشي، الذي كان معاصرا له، وعلى اتصال به، بل وروى عنه أخبارا في مواضع متفرقة من كتابه الضخم “البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب”، وخاصة ما تعلق منها بأحداث الفتح الإسلامي للمغرب الأقصى، وتاريخ الموحدين.[9]

ويعتقد الباحث محمد يعلى أن سبب تجاهل المصادر لهذه الشخصية الفذة هو ميله إلى التصوف والانعزال عن أهل الدنيا وخاصة عن المتصلين بالسلطان المريني، وذلك سيرا على نهج مصامدة المنطقة الذين اختاروا نوعا من المعارضة الصامتة للسلطة المرينية القائمة. وكما كان مشتهرا بالصلاح والتقوى والسخاء، فإن ابن عبد الحليم الأيلاني كان يملك ثقافة عربية إسلامية واسعة، خاصة في مجالات الفقه والتاريخ والأنساب. “فقد كان شيخا عالما فقيها، مؤرخا، ونسابة، على دراية بتاريخ الغرب الإسلامي، ولاسيما فترة الفتح العربي الإسلامي، ومطلعا على مصادر تاريخ الأمازيغيين وأصلهم وفرقهم وقبائلهم وأنسابهم ومواطنهم وفضائلهم”.[10]

الآثار العلمية للأيلاني

بالرغم من الجدل الذي أثير حول مؤلفات اللأيلاني، فإن الثابت حاليا هو أن ما تركه الأيلاني من مؤلفات ينحصر في مؤلفين أساسيين؛ الأول هو “رسالة في القبلة”، وهي عبارة عن بحث منوغرافي صغير وموثق في موضوع ديني، يعالج كيفية تعيين القبلة للصلاة في المساجد القائمة المبنية والمنحرفة عن القبلة، أو التي يراد إنشاؤها. وقد قامت المستعربة الاسبانية الكطلانية مونيكا ريوس (Monika Rius) بدراسة هذه الرسالة وترجمتها وتحقيقها لنيل شهادة الدكتوراه. وقد صدرت تحت عنوان “القبلة في الأندلس والمغرب الأقصى”، عن كلية الآداب بجامعة برشلونة، ومعهد مياس فاليكرونزة للتراث العلمي العربي في برشلونة سنة 2000.[11] كما صدرت دراسة وتحقيق آخر للرسالة في سنة 2024 من إنجاز الدكتور محمد الصالحي تحت عنوان: “رسالتان في القبلة”، وقدم لها الدكتور محمد المغراوي.

أما المؤلف الثاني فهو “كتاب الأنساب”، وهو أهم أعمال ابن عبد الحليم التي وصلتنا.[12] وهو كتاب يجمع بين روايات عن جذور الأمازيغ وأصول أنساب الأمازيغيين وفرقهم، وكذا أخبارهم خاصة إسلامهم وفتح العرب لشمال أفريقيا.[13] وقد سبق لبعض الباحثين المعاصرين أن رجحوا أن يكون كتاب “مفاخر البربر” من مؤلفات الأيلاني، كما هو الشأن مع الباحث الجزائري ومحقق الكتاب عبد القادر بوباية.[14]

المراجع
[1] ابن عبد الحليم، كتاب الأنساب، دراسة تحقيق تعليق وفهرسة الدكتور محمد يعلى، درا أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، ط1، 2023، ص 46-47.
[2] راجع: ابن عبد الحليم، كتاب الأنساب، مرجع سابق، ص 47.
[3] راجع: ابن عبد الحليم، كتاب الأنساب، مرجع سابق، ص 48.
[4] راجع: ابن عبد الحليم، كتاب الأنساب، مرجع سابق، ص 54.
[5] محمد رابطة الدين، معلمة المغرب، ج3، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، ودار الأمان، ط2، 2014، ص 932.
[6] راجع: ابن عبد الحليم، كتاب الأنساب، مرجع سابق، ص 48-49.
[7] راجع: ابن عبد الحليم، كتاب الأنساب، مرجع سابق، ص 49-50.
[8] التوفيق أحمد، معلمة المغرب، ج 14، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 2001، ص 4637./ ابن عبد الحليم، كتاب الأنساب، مرجع سابق، ص 45-46.
[9] راجع: ابن عبد الحليم، كتاب الأنساب، مرجع سابق، ص 50-51.
[10] راجع: ابن عبد الحليم، كتاب الأنساب، مرجع سابق، ص 53-54.
[11] راجع: ابن عبد الحليم، كتاب الأنساب، مرجع سابق، ص 55-56.
[12] راجع: ابن عبد الحليم، كتاب الأنساب، مرجع سابق، ص 54-57.
[13] راجع: ابن عبد الحليم، كتاب الأنساب، مرجع سابق، ص 61-62.
[14] صالح بن عبد الحليم الأيلاني المصمودي، المقتبس من تاريخ البربر في المغرب والأندلس (مفاخر البربر)، دراسة وتحقيق عبد القادر بوباية، مكتبة الرشاد للطباعة والنشر-الجزائر، ط1، 2013، أنظر مقدمة المحقق.