توطئة

عمِلَ الباحث أحمد عطوف_ مشكوراً _ على جَــمْعِ ما تَناثر مِن مقالات ومساهمات وفتاوى الأديب الكبير العلّامة عبد الله كنون عن رمضان في مجلاّت وفتاوى جُمِعت بعد رحيله، ومن خلال كُتُبٍ ألّفها في حياته، منشورة، وذلك في كُتيب مِن الحجم الصغير، حمل عنوان “مقالات رمضانية للشيخ عبد الله كنون”، تُقَدّم جانبا مِن انخراط عالِم مالكي كبير في مواكَبة شهر رمضان الـمعظّم، بمجموعة من الـمقالات التي تُنير الذّهن وتَشحَن النفس بالتزكية والفهم والتدين السليم، وحُسْن إدراكِ ما لهذا الشهر من قيمة.

رمضان في بعض مؤلفّات كنون

ضَمَّن العلّامة والأديب الراحل عبد الله كنون (تـ 1989) كتابه “مفاهيم إسلامية”[1] مقالاً بعنوان “شهر الثورة”، وَوَجْه ثَورِيته؛ نزول القرآن فيه، ثائراً على الأوضاع القائمة، ومُصحّحا لاختلالات شابَت الحالة الدينية لما بعد الإبراهيمية في الجزيرة العربية، وداعيا إلى إفراد الله بالعبودية والربوبية، مما شكَل زلزالاً للوجدان والعقلية القُرشية.

قاد القرآن المنزَل في شهر رمضان ثورة عالمية “انبعثت شرارتها الأولى من قلب جزيرة العرب، ولم يَمضِ عليها رُبع قرن حتى كانت قَد طَبقت أنحاء العالم (..)، تَوجّهت هذه الدعوة في رمضان، فكان لذلك شهرَ الثورة”[2]، وهي دعوة تتجدد بتجدّد رمضان كل سنة، تذكِّرنا بأنَّ الامتناع عن الشرب والأكل والجماع إنما هو في حقيقة الأمرِ “ثورة على تَحكُّم العادة والغريزة في الإنسان”، وتذكّرنا بأهمية ترشيد الاستهلاك والثورة ضِد الإسراف والتبذير في كل أحوالنا، وتُعلّمنا ليالي رمضان -وِفْقَ مُوجّهات الهَديْ القرآني والنبوي- ما لقيام الليل من ثَوْرة على “مظاهر الكَسل والتّناوم”.[3]

فشهر رمضان ثورة على ماديات الحياة، ثورة على الأخلاق الذميمة، ثورة للانسلاخ من الرذائل الاجتماعية التي ألِفَها الناس أو أقَلّه؛ لا يُعيرونها اهتماما خارج زَمن رمضان.

وفي كتابه “منطلقات إسلامية”[4] يخصِّص العلامة عبد الله كنون لشهر رمضان الفضيل ثلاثة مقالات، عنونَ إحداها بــ”شهر الإحسان” مركّزا فيها على مسألة الإحسان كخصيصة من خصائص هذا الشهر، بل إنها “منه في الطّليعة، وربما كانت هي الـمُرادَة منه بالقصدِ بالذات”[5]. ولا غرو؛ فالصوم مُحفّز لإثارة عاطفة الإحسان في الإنسان الـمؤمنِ تجاه إخوانه الفقراء والمحرومين ومَن لا يجدون ما يَسُدّونَ به جوعَهم في رمضان وغيره.

يَرى العلاّمة كنون أنّ فَرْض صيام رمضان “حِكْمَته معالَجة آلام الحرمان لتربية عاطفة الإحسان في الإنسان”[6]، لـتأتِي في خاتمة الشهر زكاة الفِطْـر امتحانا عمليا لقيمة الإحسان الفردي والجماعي.

وفي المقال الثاني يُوجّه نداءً إلى أهل الإيمان، متجاوِزاً التذكير بما في الصيام من فوائد صحية وطبية واجتماعية؛ إلى التذكير بــضرورة أَنْ “نُؤمِن برمضان”، لأنّه يختزن في ذاته ولِمن يقومون به صياما وقياما؛ رصيدا هائلا مِن قوة الإيمان، هذا الإيمان الذي “يَعُوزُنا مَعشر المسلمين لنَعودَ سِيرَتنا الأولى ونبْعَثَ تاريخَنا العظيم يتَحَدّى الأمم التي سيطَرَت بقوتها المادية على مَصائر العالَم فقَادَتْه إلى الخراب من حيث تَزْعُم إنقاذه”[7]. وما الفضل العظيم لشهر رمضان الكريم في رأي كنون إلّا “فيما ادّخَرَه الله لصائِمه من الثواب الجسيم”.

وأفرَد المقالة الثالثة للحديث عن “حُرْمة رمضان”، ذاكراً مِن مشمولات هذه الـحُرمة؛ نزول القرآن في هذا الشهر المعظَّم، واشتماله على ليلة القدر التي هي خير من {ألْف شَهر}[8]، وفرْض الركن الرابع من أركان الإسلام. فمِن هذا المنطَلق؛ عَدّ صاحب “مُنطَلقات إسلامية” أنّ انتهاك هذه الحرمات في هذا الشهر الـكريم موجِبِ لإنزال العقوبات على الجاني من قِبَل السلطات، أمثال دُعاة الإفطار العلني في رمضان، ودُعاة فتْح المطاعم وما إليها مما يُقدّم الأكل خُفْية أو عَلنا للمنتهكين الـمُستَهْترين “بأوامر الشرع الحنيف”[9]، ناهيك عمّا يُمثّله انتهاك هذه الحرمات من مِساس بالمشاعر الدينية لعموم المؤمنين واستِفزاز عواطفهم وقيَمهم الإسلامية.

فتاوى كنونية عن قضايا ونوازل رمضانية

يَستدعي جامع ومُعِدّ هذه النصوص بضْعة فتاوى صدرت عن العلامة عبد الله كنون بشأن رمضان ونوازل مُجتمعية فيه، صدرت في كُتيب صغير تحت عنوان “فتاوى العلّامة عبد الله كنون” من إعداد ونَشر جمعية مكتبة عبد الله كنون بمدينة طنجة في طبعة أوُلى سنة 1995 الموافِق لــ 1415 هجرية.

يُجيب الشيخ كنون على فتوى بخصوص “السّفر الـمُبيح للفطر في رمضان” في شأن نازلة عَرَضتها مَجلة إسلامية، أباحت لطلبة مسلمين مُقيمين في بلاد أجنبية بالإفطار في رمضان ولو امتدت إقامتهم لعدة سنوات، بعِلّة طَلبهم العلم، فَسوَّت    -حسْبَه- بين أمر الصلاة وأمر الصيام في فتوى أوْرَدَتها لأحد العلماء المشارقة، فكان رأي الأستاذ كنون مُخالِفا لفتوى الشيخ المذكور، بأن نَبّه إلى عدم “الاعتماد على هذه الفتوى التي سَكَتَ صاحبها عن أهمّ فصْل فيها، وهو وُجوب قضاء ما أفطَروه من رمضان”[10]، وبيّنَ أنّ المذاهب الأربعة تُقَرّر “عَدَم جواز الإفطار إذا أقام الـمُسافِر في بلد الغُربة أكثَر من أربعة أيام”، وهو الرأي الذي يأخذ به الإمام مالك (تــ 179هـ)، الـمُعتمَدِ مَذهَبُهُ في المغرب الأقصى، بحيث تَشمَل فتوى الشيخ كنون طلبة العلم المغاربة والمشارقة أيضا.

وفتوى ثانية موضوعها “الـمُبتَعَثون يصومون، وإذا أفطَروا فعليهم القضاء، ولا فطر من أجل الامتحان ولا فطر لخوض مباراة كُروية”، بيّن فيها أحكام المذهب المالكي والمذاهب الثلاثة الكبرى في القول بقضاء الـطلبة الـمبتَعثين في مهام إلى الخارج للأيام التي أفطَروها في رمضان. أما السائلون عن رخصة الإفطار لاجتياز امتحانٍ ما؛ فالشيخ يَرى عدم جواز ذلك، إلا “مَن غُلِب على ذلكَ فلا حَرَج في الدّين”[11]، أما السؤال الذي وَردَ عليه بشأن إفطار لاعبي كرة القدم من أجل “الانتصار فيها”، فيَقْطَع الشيخ كنّون بالقول إنّه لم يسبق أن قال أحدٌ “إنّ اللعب مِن موجِبات الإفطار في رمضان، إلا أن يكون ذلكَ في سَفر، والله أعلم”[12].

أما مشاركاته الإعلامية والصحفية، فيُورِد الكُتَيب أعلاه مقالا للأستاذ عبد الله كنّون سبق له نَشْره في مجلة “الوعي الإسلامي” الثقافية الشهرية، العدد 81، السنة السابعة، بتاريخ 20 أكتوبر 1971، الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت، عنوانه “مدرسة الإحسان”، آتيا فيه بالسياق التاريخي لاعتماد العرب اسم “رمضان” لهذا الشهر الذي فَرَض فيه الشارع الحكيم _ لاحقا _ رُكنَ الصيام، ومُبيّنا ما ينطوي عليه من معاني وقيمة الإحسان، مُختتما ببيتين شِعْريين من نَظمه، يقول فيهما:

إنّ الصِّــيامَ مُــواسـاةٌ وإحـسانُ *** قَضَى بذلك قُــرآنٌ وبُــرهــانُ

نِعْمَ الصيام مَع المعروفِ تَبْذُلُه *** وليسَ فيه مَع الحرمانِ حِرْمانُ

خاتمة

إنّ صاحبَ “النبوغ المغربي..” كانَ بحقٍّ عَلَامَة ثقافية وعلمية وشرعية فارقة في مغرب القرن العشرين وشطرا من مغرب القرن الواحد والعشرين، بما كان عليه من الـمُشارَكة في علوم كثيرة، والحضور المؤثِّر في عددٍ من المنتديات والندوات واللقاءات العلمية الرفيعة داخل المغرب وخارجه، وبما نالَه من عُضويات كُبرى المجامع اللغوية في العالم الإسلامي، إضافة لما امتاز به من الـموسوعية في القراءة وفي التأليف، فخَلّفَ لنا إرْثا ضَخْما من المصنّفات التي ما تَزال تُعَوِّل على جهود الباحثين والباحثات لمدارَستها وإقرائِها وتقديمها للناشئة والطلبة.

المراجع
[1] انظر: (كنون) عبد الله: "مفاهيم إسلامية"، منشورات دار الثقافة، الدار البيضاء، طبعة 1984.
[2] (كنون) عبد الله: "مفاهيم إسلامية"، مرجع سابق، ص: 57.
[3] (كنون) عبد الله: "مفاهيم إسلامية"، مرجع سابق، ص: 58.
[4] انظر: (كنون) عبد الله: "منطلقات إسلامية"، منشورات مطبعة سوريا، مدينة طنجة، طبعة دون تاريخ.
[5] (كنون) عبد الله: "منطلقات إسلامية"، مرجع سابق، ص: 127.
[6] (كنون) عبد الله: "منطلقات إسلامية"، مرجع سابق، ص: 129.
[7] (كنون) عبد الله: "منطلقات إسلامية"، مرجع سابق، ص: 134.
[8] قرآن كريم، سورة القَدر، الآية: 3.
[9] (كنون) عبد الله: "منطلقات إسلامية"، مرجع سابق، ص: 138
[10] انظر: "فتاوى العلّامة عبد الله كنون"، منشورات جمعية مكتبة عبد الله كنون، الطبعة الأولى 1995، طنجة، ص: 45
[11] "فتاوى العلّامة عبد الله كنون"، مرجع سابق، ص: 46.
[12] "فتاوى العلّامة عبد الله كنون"، مرجع سابق، ص: 46.