توطئة

سطع نجم عبد الخالق الطريس، مبكرا، فهو أحد أبرز رجال الحركة الوطنية، ولم يتجاوز السادسة والثلاثين عندما دعا إلى إقامة احتفال كبير بالذكرى الألف لرحيل الشاعر المتنبي، بالعاصمة العلمية فاس. ودعا إلى هذا الاحتفال إلى جانب الطريس كل من محمد المكي الناصري، رئيس تحرير مجلة “المغرب الجديد” التي تهتم بالفكر والأدب، ومحمد بلحسن الوزاني، وهو الحفل الذي احتضنه فضاء “مسرح السراجين” يوم 20 دجنبر 1935، وجمع عددا من المثقفين المغاربة آنذاك، أمثال: عبد الله كنون، وعلال الفاسي الذي ألقى كلمة افتتاحية في بداية الحفل، حسب ما أفادت مجلة “المغرب الجديد” في عددها الصادر في فبراير عام 1936.

هذا الرجل الوطني المجاهد والمقاوم جمع بين المقاومة المسلحة والمقاومة بالقلم والعلم والتثقيف والترافع السياسي والحقوقي والديبلوماسي. ظهر الرجل في زمن الهجمة الشرسة لدول الاستعمار على بلدان العالم ومنها المغرب، فمنذ معركة إيسلي سنة 1844، في عهد السلطان عبد الرحمان بن هشام على يد القوات الفرنسية ليأتي الدور على الإسبان بعد ذلك بقليل، حيث قاموا باحتلال مدينة تطوان سنتي 1859 و 1860 م، بعد مواجهة محتدمة مع القوات المغربية التي تعززت بتوافد الأهالي بكل عفوية لمقاومة المستعمر النصراني عدو الإسلام حسب وعيهم ونظرتهم آنذاك، وبالرغم من هزيمتهم لم يتوانوا أو يتراجعوا عن خيار الجهاد والمقاومة حتى خروج المستعمر.

وقد ارتبط اسم الطريس بسياقات متعددة وظروف تاريخية اجتماعية وسياسية واقتصادية متشابكة. وساهم إلى جانب مقاومين آخرين في مواجهة الاستعمار،  الشريفين: أحمد الريسوني في منطقة جبالة، ومحمد أمزيان في الريف، وبعض رموز الحركة الوطنية في الشمال وعلى رأسهم الحاج عبد السلام بنونة دون أن ننسى الدور المحوري الذي قام به السلطان محمد بن يوسف في جمع الأمة المغربية حول كلمته وربط شمال المغرب بجنوبه، ناهيك عن مساهمة الخليفة الحسن بن المهدي الجليلة في تحقيق ذلك المسعى. ويأتي كتاب “الأثر المقالي للأستاذ عبد الخالق الطريس زعيم الحركة الوطنية بالمنطقة الخليفية توصيف وتصنيف” الصادر عن مطبعة الخليج العربي، الطبعة الأولى ماي 2024م، لكاتبته لطيفة الوزاني الطيبي، ويقع في 292 صفحة، ليكشف عن جانب من تكوين شخصيته المتعددة.

تقديم المؤلفة

لطيفة الوزاني الطيبي، باحثة متخصصة في التراث الفكري والأدبي لشمال المغرب، صدر لها: “الروض المنيف في التعريف بأولاد مولاي عبد الله الشريف: دراسة وتحقيق”، “رحلة بين تطوان وجبل العلم: جمع وتحقيق وتقديم”، “عشق سبحة” (شعر). ولها قيد الطبع: “طفولة النبي العربي: جمع وتحقيق وتقديم”، “الأعلاق والأساور: تحقيق وتقديم”. وقيد الإنجاز: “القطوف والمجاني”، “فيما قيل تأبينا للتهامي الوزاني”، “الطريقة الوزانية: الشيخ والزاوية”، “شروط الشيخ وآداب المريد”.

مضامين الكتاب

يروم الكتاب إلى التوصيف والتصنيف والتعليق على مقالات المرحوم الأستاذ عبد الخالق الطريس المنشورة تباعاً في مجلة “السلام” وجريدة “الحياة” ومجلة “المغرب الجديد”. وهو عمل يضعنا أمام مثقف متنوع الروافد حتى قيل عنه “معلم” في مقالاته يستفيد منه القراء تعلما وتشرباً، وهذه الخاصية تجعل القارئ المتدبر يكون فكرة عن الأستاذ عبد الخالق الطريس مفادها أنه شخصية استثنائية ضمن وطنيي عهد “الحماية” أنجبتها المنطقة الخليفية، تحديداً عاصمتها مدينة تطوان، هذه المدينة التي جادت على المملكة بقامات سامقة في عالم التوجيه الديني والفكر والسياسة وقيم المواطنة والثقافة والأدب والتربية والتعليم، ويشكل الأثر المقالي للمرحوم الأستاذ عبد الخالق الطريس مادة غنية تفتح آفاقاً للنظر والدراسة بفضل قيمتها التاريخية والأدبية، خدم بها وطنه ومجتمعه، وأثرى بها جنس المقالة المغربية أسلوباً واستشرافاً.

اجتهدت المؤلفة في التركيز على الأثر المقالي من تراث الأستاذ عبد الخالق الطريس -رحمه الله، لافتة نظر القارئ إلى أن المقالة من الفنون الأدبية التي ظهرت حديثا، وعرفت ازدهارا كبيرا مقارنة مع بعض الفنون الأدبية الأخرى لارتباطها الوثيق بالصحافة، إذ لا يمكن التطرق لتاريخ المقالة دون الحديث عن تاريخ الصحافة.

والذي دفع المؤلفة إلى التأليف في الباب ما وقفت عليه من الخدمات الجليلة المجتمعية التي قدمتها المقالة في مرحلة الاحتلال الغاشم، ولا سيما دورها في توعية المواطنين وتثقيفهم وتنوير تفكيرهم لشق طريقهم نحو غد مشرق بالعلم والحرية. وانتابتها رغبة للبحث في مقالات الأديب المغربي الألمعي عبد الخالق الطريس – رحمه الله- وقد نمذجت مقالاته – حصرا للعدد الكبير الذي خلفه من المقالات التي كتبها في “مجلة السلام” مجلة “المغرب الجديد” وجريدة “الحياة”. وجعلت عملها على قسمين: قسم جمعت فيه مقالاته، وقسم قامت فيه بتوصيف ثم تصنيف. (الكتاب،  ص: 9)

خصص التوصيف لدراسة صورة المقالات وشكلها من حيث الطول والحجم والعدد المنشور بكل مصدر من المصادر المعتمدة. بينما خصص التصنيف لتمييز مادتها حسب مضامينها وفق ما يخدم القارئ لاستكشاف مسار الكتابة المقالية عند الأديب عبد الخالق الطريس -رحمه الله.

وقدمت للعمل بإطار تاريخي لمرحلة “الحماية” عنونته ب: “ملابسات تاريخية”، أتبعته بنبذة عن الحياة الثقافية بتطوان وقتها. وأردفته بشذرة بيوغرافية للأستاذ عبد الخالق الطريس -رحمة الله عليه-، وتيسيرا لعملية القراءة، أشارت في بعض الإحالات إلى مصدر كل مقالة، وإدراج بعض الإفادات. (الكتاب، ص: 10)

وقد تضمن الكتاب بعد الاستهلال، ملابسات موضوعية، تطوان والنهضة الثقافية، ومحورا أولا عنونته ب: الأستاذ عبد الخالق الطٌّريس: شذرة بيوغرافية”، اشتمل على ميلاده ونشأته، مسير دراسي، منجز أعماله، وظائفه، وفاته، رثاؤه، من آثاره، ومحورا ثانيا عنونته ب: “الأثر المقالي للأستاذ عبد الخالق الطٌّريس: توصيف وتعليق”، اشتمل على  المقالة الدينية، المقالة الوطنية، المقالة القومية، المقالة الثقافية، المقالة الأدبية، المقالة النقدية، وقفة مع مقالته “أبو الطيب المتنبي”، المقالة الاقتصادية، المقالة الاجتماعية، مقالة النقد السياسي، ثم على سبيل ختم. المقالات المنشورة بمجلة السلام، والمقالات المنشورة بجريدة “الحياة” والمقالات المنشورة ب “مجلة المغرب الجديد”.

خلاصة

نخلص مع المؤلفة إلى أن ما قامت به توصيفاً وتصنيفاً وتعليقاً لجل مقالات المرحوم الأستاذ عبد الخالق الطريس المعتمدة في هذا العمل، لفت نظرها إلى:

  • لم يكن عمر الأستاذ عبد الخالق الطريس -وقت كتابتها ونشرها- يتجاوز أربعا وعشرين سنة. وهذا دليل على عبقرية المبكرة التي مكنته من مزاولة وتزعم العمل السياسي والتأليف في آن واحد.
  • دقة وبلاغة عناوينها، إذ كان الأستاذ الطريس يتقن اختيارها بطريقة تجعلها عصارة الأفكار الواردة في المقالة طالت أم قصرت.
  • تعدد المضامين التي تطرق إليها رغم أن التاريخ خلد اسمه في ميدان العمل السياسي بدءاً من الحركة الوطنية وانتهاء بالمناصب السياسية والدبلوماسية الهامة التي تولاها، وما يرتبط بما ذكر من صحافة وخطابة ومنشورات ورسائل… غير أننا نجده كتب في المقالة الدينية والوطنية والسياسية والقومية والأدبية والتحية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية.
  • تنوع مقالات يجعلنا أمام مثقف متنوع الروافد حتى قيل فيه “معلم” في مقالاته يستفيد منه القراء تعلما وتشربا، وهذه الخاصية تجعل القارئ المتدبر يكون فكرة عن الأستاذ عبد الخالق الطريس مفادها أنه شخصية استثنائية ضمن وطنيي عهد “الحماية”.
  • الفطنة والذكاء الحي والعملي في التعامل مع مواضيع ومواقف تكتسي أهمية بالغة، إذ كان منهجه التبصر والتعقل والتريث والتدرج في التعامل مع المواقف والوضعيات الحيوية، مما جعله متحكما في ثورة الكتابة لينا وشدة وفق ما تقتضيه المصلحة العامة.
  • الأثر المقالي للأستاذ عبد الخالق الطريس يشكل مادة غنية تفتح لها النظر والدراسة بفضل قيمتها التاريخية والأدبية، خدم بها وطنه ومجتمعه، وأثرى بها جنس المقالة المغربية العلوية واستشرافا.